تداعيات شعار ترامب «أميركا أولاً» على السياسات الخارجية والاقتصادية
نجح الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ترسيخ أسلوبه الصادم باتخاذ القرارات «غير المألوفة»، وحافظ على وتيرة متواصلة من توقيع «قرارات رئاسية» مختلفة بحفل «استعراضي»، انشغلت به وسائل الإعلام شكلاً كما كان يرمي ترامب.
حقيقة وفعالية قرارات ترامب يلفّها الغموض لناحية آلية تفسيرها بأنها مجرد ردّ فعل متسرّع وإرضاء قواعده الانتخابية، ام انها حلقة في سلسلة متكاملة أعدّها مسبقاً تنمّ عن وضوح رؤية استراتيجية، كما يراهن البعض.
قسم التحليل سيلقي الضوء على بدء حقبة ترامب الرئاسية وميله لإصدار قرارات «أحادية» متتالية تعيد إلى الأذهان الصراع الصامت بين السلطتين التنفيذية والتشريعية حول تداخل صلاحياتهما. كما سيتناول انعكاسات القرارات على السياسة الخارجية الأميركية وما تنبئ به من نهاية عصر الاتفاقيات التجارية متعدّدة الأطراف واستبدالها باتفاقيات ثنائية يدفع الطرف الأضعف الثمن الأكبر.
ترامب في سباق مع الزمن
حث الرئيس ترامب خطاه للوفاء بوعوده الانتخابية وقام بتوقيع سلسلة من «قرارات رئاسية»، لها مفعول قانوني ان لم يتدخل الكونغرس لإبطالها أو تعديلها. من أبرز قراراته كان إعلان انسحاب بلاده من اتفاقية التجارة عبر المحيط الهادئ.
وسلط معهد كاتو الضوء على أهمّ نقاط ارتكاز اتفاقية الشراكة محذراً من انه «في غياب الاتفاقية، فالصين هي الجسم الأكبر الذي باستطاعته استقطاب دول صغيرة الى مجال جاذبيتها… في الفضاء الصيني بصورة أشمل». واستدرك بالقول انّ تلك الحالة «لا تعني بالضرورة توقف التبادل التجاري بين تلك المجموعة والولايات المتحدة، بل سيترتب عليها تعزيز سلسلة العرض والاستثمارات الصينية، وبروز أشكال أخرى يجسّدها الواقع التجاري». واضاف انه في نهاية المطاف تصبح «كلفة إعادة ترتيب تلك العلاقات المستقبلية أعلى مع مضيّ الزمن».
https://www.cato.org/blog/withdrawing-tpp-was-senseless-act-wanton-destruction
مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية أفرد مساحة واسعة للتغييرات المنتظرة في هيكلية وأداء وزارة الدفاع، لا سيما في ظلّ «ميل الرئيس ترامب للإطراء والمديح لتوجهاته في مقاربة الحلول الحكومية من زاوية خبرته في مجال الأعمال، وجسّده بإضافة عدد من وزراء إدارته من خارج السلك الرسمي بمهمة الإشراف على التغيير المنشود». وحذر من الفوارق الرئيسة التي تميّز سبل التقييم واستحداث حلول ناجعة بين عالم المال والشركات الكبرى «ووزارة الدفاع التي لا تصنّف في خانة الشركات، وما ينبغي على وزير الدفاع الجديد القيام به هو إجراء مراجعة استراتيجية مركزة تعينه على تحديد الأولويات المطلوبة بوضوح، وإشراك الرئيس بها، فضلاً عن إشراك كافة هيئات وزارة الدفاع في العالم».
https://defense360.csis.org/use-strategic-review-to-drive-change/
انتهزت مؤسسة هاريتاج سلسلة انتقادات الرئيس ترامب لدول حلف الناتو لتراخيها في نسبة الإنفاق العسكري المطلوبة مناشدة «إدارة الرئيس ترامب الاستفادة من توجه تلك البلدان لزيادة حجم ميزانياتها العسكري، وتشجيع الحلفاء على ديمومة المتطلبات العملية، بدلاً من المراهنة على التزامات الولايات المتحدة لحلف الناتو». وأشادت برؤية الرئيس ترامب لوضع الاصبع على جرح الحلف «باعتماد أعضائه على الولايات المتحدة واعتادوا على رعايتها.. بيد انه لا ينبغي علينا تقليص حجم التزاماتنا نحو الحلف». وخلص بالقول انّ الاستراتيجية الأميركية «قد لا تحصد كلّ ما تبغيه من الحلف، لكن حلف الناتو يبقى الصيغة الأمنية الأكثر جدوى للولايات المتحدة في العالم».
http://dailysignal.com/2017/01/24/are-nato-members-carrying-their-weight-only-5-of-28-countries-pay-fair-share/? ga=1.104640576.1354987097.1349370889
وانضمّ صندوق مارشال الألماني ايضاً للإدلاء بدلوه في مسالة الأمن الأوروبي قائلاً: «من أجل الاستجابة للأوضاع الجديدة الناجمة عن انتخاب ترامب وحماية دول الاتحاد الأوروبي، يتعيّن على الأوروبيين إعادة النظر بسياساتهم الممتدّة لسبع سنوات مضت، منذ بدء ازمة اليورو». وذكّر الأطراف المعنية بأنّ «المصالح العليا لدول الاتحاد الأوروبي تقتضي الحيلولة دون تفكك الاتحاد… وينبغي على الأوروبيين التحلي بمزيد من الإبداع والمرونة أفضل مما سبق». وخاطب الدول الأوروبية الرئيسة بما ينبغي عليها القيام به من تدابير وإجراءات لتعزيز صيغة الاتحاد الأوروبي، منها «يجب على ألمانيا تقديم تنازلات اقتصادية لفرنسا… اذ هي بحاجة للقوات العسكرية الفرنسية ليس بوسع دول الاتحاد الاستمرار في مفاوضات قاسية مع المملكة المتحدة واعادة النظر باستراتيجية خروج بريطانيا من الاتحاد.. والتوصل لترتيبات استراتيجية تعاونية مع المملكة المتحدة لمرحلة ما بعد خروج بريطانيا». وناشد الصندوق المسؤولين الأوروبيين «تصويب الأنظار على الصورة الشاملة الأوسع وتداعيات اعادة ترسيمها الناجمة عن انتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة».
http://www.gmfus.org/publications/president-trump-us-security-guarantee-and-future-european-integration
سورية
إقرار المؤسسة الحاكمة بفشل سياساتها في سورية على نحو خجول حفز مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية اسداء النصائح للفريق السياسي الجديد بما يتعيّن عليه القيام به أبرزها «ينبغي على الولايات المتحدة النأي بالنفس وترقب الأحداث على الأقلّ لحين اتّضاح من سيتبقّى من القوى الرئيسة المنخرطة في القتال، وكذلك الأمر حيال القوى الخارجية، وما ستسفر عنه من عدم تحقيق طرف بمفرده انتصاراً مستقراً، بالنظر ايضاً الى انّ الحلول العملية المرتقبة تتراوح بين الإرهاق واستمرار الصراع وعدم الاستقرار». وحثّ المعهد واشنطن على بذل جهودها «لإعادة بناء الثقة مع شركائها الاستراتيجيين من الدول العربية وإسرائيل، واتخاذ تدابير رادعة لإيران واحتوائها، وإنشاء دولة مستقرة وآمنة في العراق». كما أعرب المركز عن تشاؤمه من «القدرة على احتواء الأزمة في سورية».
https://www.csis.org/analysis/case-and-against-realist-strategy-syria
بادر معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى وضع تصوراته لماهية السياسة الأميركية في الشرق الأوسط أمام الإدارة الجديدة، معتبراً انّ عناصرها الرئيسة تكمن في «احتواء إيران.. وإلحاق الهزيمة بالدولة الاسلامية، وهي مسألة بالغة الأهمية لاستقرار المنطقة». واوضح في مذكرته انه يتعيّن على الإدارة الجديدة «بذل جهود بعناية وإلحاح للتوقف على جوهر المصالح الأميركية في المنطقة، وتطبيق مبادئ واضحة لتحقيق ذلك». وذكّر الإدارة الجديدة بما يواجهها من تحديات «تسعى لتقويض نظام الدول الاقليمية والتي تنوء تحت أعباء حروب بالوكالة التي تعكس المنافسات الجيوسياسية والصراعات المترتبة حول الهوية الأساسية». وشدّدت المذكرة على استمرار الولايات المتحدة في سعيها «لضمان سلامة إمدادات الطاقة من منطقة الشرق الأوسط والتي ستبقى حيوية ضمن صلب المصالح الوطنية الأميركية، فضلاً عن مضيّها في الحيلولة دون انتشار الاسلحة النووية، ومكافحة الارهاب، والحفاظ على الاستقرار».
http://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/view/general-principles-to-guide-u.s.-middle-east-policy
تتعدّد التفسيرات لفوز ترامب بالانتخابات الرئاسية، وتتباين معانيها للقطاعات الاجتماعية المختلفة في أميركا، كونه يعزز «هوية الرجل الابيض» وامتداداته في الهيمنة والسيطرة وبدرجة اشدّ على المستوى العالمي برمّته لما اثار صعوده من مخاوف وهواجس لانتعاش النزعات العنصرية وارتباطها بحدود إدراكه بانّ القضايا العالمية الراهنة لا تستقيم للمعادلة الثنائية، «نحن وهُم».
خطاب ترامب الانتخابي لامس غرائز القطاعات الاجتماعية المهمّشة، وجدت ضالتها في شعاره «أميركا اولاً»، واصطفت الى جانبه في عدد من أهمّ الولايات «الحاسمة» التي عادة ما تميل لتأييد مرشحي الحزب الديمقراطي: ويسكونسن، متشيغان وبنسلفانيا وعزف على وتر الاقتصاد الحساس في ظلّ مشهد ازدياد فوارق المداخيل بين الشرائح الاجتماعية.
من اهمّ خصائص ترامب نزوعه الشديد لتسطيح القضايا وعزوفه عن استنباط حلول معقدة وناجعة، واستعداده الدائم للمعادلات الثنائية المبسّطة. شعار ترامب السالف الذكر لا يشكل سياسة مترابطة بأيّ مقياس معتمد، حاول «توضيحه» بأنه «سيكون الموضوع الرئيس المهيمن لإدارتي» المقبلة.
في الوعي الجمعي العامّ، شعار ترامب يعني «ترسخ العداء للقطاعات الاجتماعية غير المتجانسه مع نسقه وبرامجه، وصعود قوي للمشاعر الوطنية الضيقة»، ويعكس حالة مقلقة لاستيعاب التطورات العالمية وتهديد سياسات الانفتاح والترابط جسدها سريعاً ترامب في قرارات «لبناء جدار عازل مع المكسيك، حظر دخول ضحايا الحروب والإرهاب من المسلمين»، والتخلي عن ركيزة السياسة الأميركية بصين واحدة إلخ…
لجوء ترامب لاستخدام حقه الرئاسي في إصدار قرارات نافذة كان سريعاً ومنذ اليوم الأول، في تباين واضح مع خطابه السياسي الانتخابي وتحذيره سابقاً من الرئيس اوباما من «مخاطر استبداد البيت الأبيض اتخاذ سياسات دون المرور على الكونغرس». بل ينقل المقرّبون من ترامب انه في اسبوعه الأول «لم يبذل إلا جهداً ضئيلاً لاستشارة الهيئات الحكومية» التي وضعها ضمن دائرة استهدافه. واضافوا انّ «طواقم موظفي البيت الابيض لا يعلمون بمحتويات القرارات الرئاسية»، التي يعتقد انها صيغت من قبل مستشاريْه المقربيْن، ستيف بانون وستيفن ميللر، اللذين أعدا خطاب ترامب الرئاسي المثير للجدل.
من ضمن قرارات ترامب الرئاسية في أسبوعه الاول في البيت الابيض كان قراره بانسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية التجارة عبر المحيط الهادئ، وتسليطه الأضواء على ما يعتقده من «هجوم الصين الاقتصادي على فرص العمل والثروة الأميركية». ووعد ايضاً بتمزيق اتفاقية التجارة في أميركا الشمالية نافتا في المدى القريب، واستبدالها ربما باتفاقية جديدة سيتمّ التفاوض بشأنها مع كلّ من كندا والمكسيك.
في مسألة تحقيق السلم العالمي، التي عوّل البعض على ترامب وميله لتعديل سياسات أميركا بالهيمنة وبسط النفوذ، شنّ حملة عدائية على «حلفاء الولايات المتحدة»، الأوروبيين على قاعدة تحفظهم في زيادة الإنفاقات العسكرية والمساهمة بنسبة أعلى في تحمّل أعباء حلف الناتو، متعهّداً «بإعادة بناء القوات المسلحة الأميركية»، ورفع سقف الدين العام والذي ستكون وزارة الدفاع اول المستفيدين من الأموال الاضافية.
اول الزائرين للبيت الأبيض من القادة الاجانب رئيسة وزراء بريطانيا، تيريزا ماي، لترتيب المرحلة المقبلة من العلاقات الثنائية بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي ونوّه ترامب الى عقد اتفاقية تبادل تجاري جديدة مع ضيفته للحدّ من ايّ تداعيات سلبية جراء خروج بلادها – بريكست.
العلاقة التجارية مع الصين اشدّ تعقيداً من غيرها، ليس لعدم توقيعها على اتفاقية «تي بي بي» عبر المحيط الهادئ فحسب، بل صعدت الصين بسياساتها لتحتلّ مرتبة متقدمة في الاقتصاد العالمي واعتُبرت «المصدر الأساس لنمو الاقتصاد العالمي» لوقت قريب. أبرمت الاتفاقية عام 2015 بتوقيع 12 دولة باستثناء الصين.
إعلان ترامب انسحاب بلاده من اتفاقية التجارة الحرة في أميركا الشمالية، «نافتا»، يداعب غرائز قيادات نافذة في الحزبين لخشيتها من تفشي ارتفاع معدلات البطالة وهجرة المصانع الأميركية خارجها، كما تقتضي ضوابط «تحرير التجارة». اعتبر الرئيس الأسبق كلينتون اتفاقية «نافتا» من أبرز إنجازات إدارته نظراً للتسهيلات التي توفرها للاستراتيجية الأميركية الكونية ونيّتها لاستقطاب الاقتصاديات الآسيوية النامية تحت مظلتها.
اتفاقية «تي بي بي» ولدت ميتة
إحجام الصين عن الانضمام للاتفاقية الموقعة أثار موجة اعتراضات أميركية استغلها ترامب وفريقه للتنديد بها والزعم انها المستفيد الأول، في سياق مزاعم أخرى بإصراره على انّ إلغاء الاتفاقية «سيجلب فرص عمل إضافية للولايات المتحدة». الواقع يشير الى حقائق مغايرة، منها انّ الدول الموقعة عقدت سلسلة لقاءات بهدف استقطاب الصين لدخول الاتفاقية.
برامج ترامب الاقتصادية التي قدّمها ابان السباق الانتخابي تنافي السياسات الأميركية السابقة بالانفتاح وقيادة التوجه الاقتصادي العالمي، كما يردّد باستمرار، اذ يسعى بفعلته «لإعلان حرب ضدّ منظومة التجارة الدولية»، وإشهار نظام حمائي للمنتجات الأميركية، التي يتلقى معظم أصحابها دعماً حكومياً ثابتاً خاصة في المنتجات الزراعية المتعددة.
يتهيأ ترامب لتسليط الضوء على تعديل او إلغاء اتفاقية التجارة الحرة نافتا المعقودة مع كندا والمكسيك، بعد نجاحه في إلغاء الاتفاقية الدولية، تي بي بي، دون ادنى اعتراض او مقاومة.
من سخريات المرحلة الراهنة ان يقدم رئيس اكبر دولة رأسمالية في العالم على سنّ تدابير لتقييد «التجارة الحرة»، مقابل سعي الرئيس الصيني، السكرتير العام للحزب الشيوعي الحاكم، مطالبة المجتمع الدولي تعزيز الانفتاح والتبادل التجاري، كما نقل عنه في مؤتمر دافوس الأخير.
الغاء «نافتا» الهدف التالي
تباينت تفسيرات الرؤساء الأميركيين تباعاً لنصوص اتفاقية نافتا، الموقعة عام 1994. تفسير ترامب يهشم الاتفاقية ويقزّمها الى بند وحيد يخصّ تصدير شركات أميركية تعمل خارج الحدود، المكسيك بالذات، لبضائعها للسوق الأميركية دون رسوم جمركية. ترامب سارع للإعلان عن قمة قريبة في واشنطن تجمعه برئيس وزراء كندا ورئيس المكسيك «لإعادة مناقشة نافتا» يرمي من ورائها فرض رسوم على بعض السلع المتجهة للسوق الأميركية.
تصميم ترامب على المضيّ ببناء الجدار العازل مع المكسيك رافقه ايضاً الزعم انّ كلفة الجدار ينبغي ان تتحمّلها المكسيك مما حدا بالرئيس انريكه بينيا نياتو إلى إعلان احتجاجه عالياً وتراجعه عن اللقاء المقرّر مع ترامب.
اما رئيس الوزراء الكندي، جاستن ترودو، فقد أعرب عشية انعقاد القمة عن قلقه وعزمه إطلاع مضيفه ترامب على «فوائد التجارة بين البلدين وارتباطهما الوثيق ببعضهما». يشار الى انّ ترودو التقى في مدينة كالغاري بكندا مدير المنتدى الاستراتيجي الذي استحدثه ترامب، ستيفن شوارزمان، لطمأنة الجانب الكندي بنوايا الرئيس «لإعادة التفاوض»، في ظلّ قلق كندا من تكبّدها «خسائر جانبية» بسبب السياسة الحمائية التي يروّج لها ترامب.
تنصّ بنود الاتفاقية على حق ايّ طرف الانسحاب منها شريطة إبلاغ الطرفين الآخرين بنيته، لتبدأ مهلة انتظار طولها 180 يوماً لبدء مفاوضات جديدة. في حال تعذر تحقيق اتفاق بديل، يلغى الاتفاق السابق. الحكومة الكندية بدورها أعلنت عن نيتها الإبقاء على اتفاق التبادل الثنائي مع واشنطن «حتى لو اختار ترامب الانسحاب من نافتا».
لم يأبه ترامب لموجة الانتقادات الدولية ومن أقرب الحلفاء التجاريين مع بلاده، وسارع لعقد لقاء في البيت الابيض مع ممثلي نقابات العمال الأميركيين والمهن المختلفة لإطلاعهم على قراراته الخاصة بالاتفاقيتين المذكورتين قائلا: «.. سنعيد فرص العمل لعدد كبير من العمال.. ونضع حداً للصفقات التجارية المهينة».
قوبل اللقاء بترحيب شديد وتصفيق الحضور تأييداً له أمام وسائل الإعلام التي رمى ترامب وجودها لنقل اللحظة ووصفه اللقاء بأنه «مدهش».
النقابات العمالية الأميركية عادة ما تؤيد مرشحي الحزب الديمقراطي في أغلب الأحيان، بيد انّ الخطاب الشعبوي لترامب وجد آذاناً صاغية ومؤيدة لسياساته بين قادة وصفوف النقابات المختلفة. معظم النقابات العمالية صوّتت لصالح منافسة ترامب، هيلاري كلينتون، في الحملة الانتخابية الأخيرة مما يؤشر على نجاح مساعي ترامب اختراق ذلك الجدار السميك من الولاء التقليدي للقوى العاملة.
للدلالة، أوضح رئيس نقابة سائقي الشاحنات، جيمي هوفا، الذي شارك في اللقاء انّ مجموعته «تعتبر ذلك التطوّر علامة إيجابية من قبل الرئيس ترامب وعزمه المضيّ في تنفيذ وعوده الانتخابية الخاصة بسياسة التبادل التجاري.. وإجراء تفاوض لاتفاقيات مستقبلية على قاعدة حماية العمال والصناعات الأميركية».
يشار الى أنّ أحد أكبر المشاريع الاقتصادية بين كندا والولايات المتحدة تمثل في مدّ خط انابيب لنقل النفط الكندي الى المصافي الأميركية على سواحل خليج المكسيك، المعروف بـ «كي ستون اكس ال» والذي يخترق أراضي محميات للسكان الأصليين في ولايتي داكوتا الشمالية والجنوبية. النقابات العمالية اصطفت لتأييد انشاء الخط، بينما آثر الرئيس أوباما آنذاك التمهّل في المصادقة عليه رسمياً «لاعتبارات عدة من بينها البيئة»، والمعارضة الشديدة من السكان الأصليين أصحاب الأراضي. ترامب بدوره وقع قراراً رئاسياً للشروع بإنشاء خط الأنابيب، الأمر الذي سيضعف لحمة صفوف الحزب الديمقراطي وتحالفاته العمالية السابقة.
نجاعة القيود التجارية
العنوان الأبرز لسياسات ترامب الاقتصادية يتمثل في إعادة العمل بسياسة الحماية التجارية دعم المنتجات الأميركية وفرض ضرائب اضافية على المواد المستوردة. بذلك يعتقد ترامب جازماً، وانْ بخلاف القوانين الاقتصادية، انّ تلك السياسة ستحفز معدلات النمو الاقتصادي الأميركي.
بالتزامن مع سلسلة قراراته الرئاسية، نشرت وكالة «رويترز» للأنباء نتائج استطلاعات للرأي شمل أكثر من 100 من خبراء الاقتصاد وسوق المصارف المالية حول الحكمة من تلك السياسات اذ أضحت «أكبر خطر يهدّد نمو الاقتصاد الأميركي». مضيفة انّ «أكثر من ثلثي المستطلعة آراؤهم، 70 ، اعتبروا سياسات ترامب الحمائية أكبر تهديد لأكبر اقتصاد في العالم… وستؤدّي الى تباطؤ معدلات النمو الأميركي الى 2,2 مقابل 3,5 في الربع الثالث» من العام الماضي.
مسؤولو الاتحاد الأوروبي أعربوا ايضاً عن قلقهم من سياسات ترامب التي وصفتها ممثلة التجارة في الاتحاد، سيسيليا مالستروم، بأنها «محكوم عليها بالفشل». في ظلّ تصريحات ترامب وانتقاده لشركات صناعة السيارات الالمانية، برزت هواجس مسؤولين آخرين من تداعيات سياساته المقبلة.
وزير المالية الالماني، فولفغانغ شويبله، استبعد «نشوب حرب تجارية مع الولايات المتحدة» مؤكداً على ضرورة استمرار «التزام واشنطن بالاتفاقيات الدولية». اما نائب المستشارة ميركل ووزير الاقتصاد الالماني، زيغمار غابرييل، فقد حث زملاءه في الاتحاد الأوروبي على «تبني سياسة اقتصادية جديدة وجهتها آسيا والصين، ولدينا فرص جديدة هناك». 20 كانون الثاني الحالي
كما انتقدت الممثلة الأوروبية مالستروم بشدة سياسة الانعزال الأميركية اذ انّ «بناء جدار عازل لا يشكل علاجاً. نجاح نموذج الاتحاد الأوروبي يستند الى انفتاح مجتمعاتنا على بعضها البعض». في المقابل، حذر رئيس غرفة التجارة الأميركية توماس دوناهو من عواقب السياسة الحمائية قائلاً: «إذا أردنا إنشاء فرص عمل في أميركا فسيتعيّن علينا بيع السلع والمنتجات لنحو 95 من الزبائن الذين لا يقطنون الولايات المتحدة».
المكسيك تقف على أبواب تحديات واضطرابات حقيقية نتيجة رفعها أسعار المحروقات، التي ستزداد سوءاً في ظلّ تفعيل قرارات ترامب ضدّها. من بين التدابير العقابية التي أفصح عنها ترامب إمكانية تقييد خروج الاموال من المهاجرين لذويهم في المكسيك، التي تعدّ أحد مصادر العملة الصعبة لاقتصاد البلاد.
خيارات المكسيك امام ترامب تتقلّص مما سيترتب عليها تقديم تنازلات قاسية في التبادلات التجارية، بصرف النظر عن مشاعر العداء الداخلي للرئيس ترامب وإدارته التي تكتسح البلاد.
سياسات فرض القيود على الواردات، خاصة من المكسيك، قوبلت بترحيب بعض الفئات الاجتماعية النافذة في أميركا، وشكلت أحد أعمدة الدعم الانتخابي للمرشح ترامب. بيد انّ تطبيق القيود ينطوي عليه بروز إشكاليات اخرى. خبراء الاقتصاد يشيرون الى انّ التجارة الحرة، كما تنصّ عليها اتفاقية «نافتا»، تقتضي انتقال رؤوس الأموال والصناعات الى مناطق تحقق مستويات أعلى من الارباح كما هو الأمر في حال الصين أيضاً.
ويضيف هؤلاء انّ القيود التجارية ترفع سعر البضاعة للمستهلك، فضلاً عن توليدها توترات بين الدول المعنية. يشار الى انّ القيود التجارية المفروضة خلال مرحلة «الكساد الكبير»، في عقد الثلاثينيات من القرن الماضي أضرّت بمعدلات النمو الاقتصادي، وفاقمت العقبات الاجتماعية وأسهمت في اندلاع الحرب العالمية الثانية اذ انّ عنوان معظم الحروب هو في السيطرة الاقتصادية والتحكم بالموارد والأسواق.
منذئذ، استنبطت الرأسمالية الأميركية حلولاً لتبادلاتها التجارية بإنشاء ما أسمته «الدولة الأوْلى بالرعاية»، وهي مرتبة عليا في سلّم التبادل التجاري يرافقها بعض التسهيلات وتفضيلها عن الأخريات منها نسبة ضرائب مخفضة على البضائع المتجهة للسوق الأميركية او فرض سقف أعلى للواردات من تلك البلد.
الاتفاقية الأميركية لها بعد سياسي أكبر من منافعها الاقتصادية، اذ كان الهدف ممارسة ضغوط إضافية على الاتحاد السوفياتي السابق والصين بحجة «انتهاكات حقوق الإنسان»، ابان عصر الحرب الباردة.
يشار الى انّ الاتفاقيات التجارية المعقودة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية اتخذت طابعاً متتعدّد الاطراف، مما أضفى عليها ستاراً من الإجراءات المعقدة تجسّدت في استحداث آليات وهيئات بيروقراطية بغية فكّ النزاعات بين الدول المعنية. كما انّ تلك الصيغة متعدّدة الأطراف لا تأخذ بالحسبان التغيّرات الجيوسياسية التي تطرأ على بعض الدول وخياراتها السياسية.
للدلالة على التعقيدات البيروقراطية تبرز تجربة السوق الأوروبية المشتركة، والتي انبثق عنها نموذج الاتحاد الأوروبي وما رافقه من هياكل بشرية إضافية لمواكبة سير التبادلات التجارية، بيد أنها أخذت منحىً سياسياً ينافس هدف فكّ النزاعات الاصلي.
تعثر الآليات المبتكرة، في المثال الأوروبي، ولّد حالة من الاستياء العام بين الأوروبيين اذ أضحت مؤسسات مستقلة بذاتها وتعمل خارج السياقات السياسية فضلاً عن ضبابية مرجعتها ومحاسبتها. الأمر الذي ساهم مباشرة في خروج بريطانيا من نموذج الاتحاد، بريكست، وامتداداً ايضاً لفوز ترامب، وما يلوح في الأفق الاوروبي من صعود قوي لمجموعات وتيارات شعبوية.
المشهد السياسي الأميركي ايضاً شهد بعض التحوّلات، ليس ترامب حالة استثنائية فحسب. وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر اوضح مؤخراً انه عدّل مواقفه من تأييد الاتفاقيات الاقتصادية الكبرى باتجاه «تفكير ترامب». وقال ليومية «لندن تايمز» انه «في مرحلة تطوّر ذاتي» في مسألة بريكست «اذ بعد إخضاعها للتحليل من منطلق فوائدها بعيدة المدى، اصبحت ميالاً لتأييد فكرة بريكست بشكل متزايد».
من أبرز خصائص حقبة ترامب مناهضته للاتفاقيات التجارية متعدّدة الأطراف وعنوانها الرئيس «التجارة الحرة». وقد أطاح باتفاقية «تي بي بي»، ويتطلع لإلغاء اتفاقية «نافتا»، في المدى المنظور.
لقاء القمة الأول بين ترامب ورئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، يهيّئ العودة لمرحلة تفعيل الاتفاقيات الثنائية والتي ستخدم بريطانيا بشكل أوسع في مرحلتها الانتقالية الراهنة بخروجها من الاتحاد الاوروبي. وتؤشر أيضاً على نمط جديد في علاقات التبادل التجاري الدولية.