النبت الصالح

أياد موصللي

عمري 16 سنة ذهبت لأحارب في فلسطين وبعد مضيّ عام قفز عقلي فوق جسدي، شاهدت ما لم أكن أحب أن أشاهد، رأيت كائناً في الفنادق وليس في الخنادق، نحارب بالمطارق وليس بالبنادق… تركت الجبهة وكأنني على موعد مع طريق آخر لا أعرفه ولم يكن على الخارطة التي رسمتها بعد عودتي من فلسطين.

دخلت الحزب في 16/11/1948 ومنذ اللحظة الأولى بدأت أعرف طريقي الذي سرت فيه..

في الحزب شعرت بإنسانيتي ومواطنيتي، التزمت بالأداء الجيّد متبعاً إيماني من المفهوم القومي، وهو أنّ القومي يجب أن يكون متفوّقاً متقدّماً صادقاً ملتزماً أميناً وفياً…

انتقلت إلى محافظة الحسكة ملتحقاً بوالدي هناك لأتابع دراستي الثانوية..

هنا أقف أمام حدث مهمّ اكتشفته في حياتي… هل أنا حقاً ذلك الإنسان الذي كان هنا منذ عام وطرده والده من البيت لأنه أساء لكرامة إنسان كلّ المآخذ عليه أنه مهنياً مختلف.. هل صحيح أنني لم أكن أعرف نفسي كما عرفتها الآن بعد اعتناقي العقيدة القومية وانتسابي لمدرسة سعاده، هل صحيح أنني الآن إنسان آخر إنسان جديد لم أعرف نفسي إلا في هذه اللحظة؟ ماذا جرى… بعد وصولي الحسكة تعرّفت هناك بالرفيق تاج الدين مرتضى وتباحثنا في شؤون العمل الحزبي وتنشيطه في الحسكة واستعرضنا أسماء القوميين هناك وقال لي خلال الحديث: بإمكانك أخذ المعلومات التي تحتاجها من الرفيق خليل نحاس وهو موظف في دائرة والدك، وكذلك من الرفيق زيّا الذي يعمل في منزلكم! ما كدت أسمع باسم زيّا حتى بُهتّ وكدت أصعق ورددت بدهشة: زيّا ما غيرو! وقال: نعم، هو موظف عندكم في البيت ويعرف كلّ القوميين في الحسكة… سكتُ وكنت مندهشاً… وبدأت في التساؤل ماذا أفعل مع زيا… معقول زيا قومي…؟

أحب هنا أن أذكر حادثة جرت بيني وبين زيّا قبل ذهابي لفلسطين ودخولي الحزب…

مرة كنت في مدينة الحسكة في محافظة الجزيرة أقضي عطلتي المدرسية عند والدي، كان عمري 15 سنة، كان والدي يقيم وحده لديه مدبّر منزلي شاب آشوري يدعى زيّا يهيّئ الطعام ويهتمّ بالبيت ولوازم الوالد… في اليوم الأول الذي وصلت فيه إلى البيت كان زيّا يرتب مائدة الغداء قبل حضور والدي وضع على الطاولة ثلاثة صحون.. سألته هل عندنا ضيوف؟ «مين جاي لعنا» فأجابني لا أحد، قلت ولمن الصحن الثالث؟ فقال والدك يريد دائماً أن أجلس وأتغدّى معه ويقول أنت واحد منا… وبلا كياسة وبكلّ فظاظة قلت له خذ صحنك وكول بالمطبخ! وبانكسار وخضوع فعل ما أردت… جاء الوالد وبعد أن جلس إلى المائدة لم يجد زيّا… ناداه وسأله لمَ لم تجلس؟ قال عفواً أكلت في المطبخ… استغرب والدي الأمر وكأنه أحسّ بشيء غير طبيعي فألحّ عليه بالسؤال لمعرفة السبب، فأذعن زيا وقال: البيك هيك يريد، وأشار نحوي، عبس والدي وغضب وصرخ في وجهي وطردني عن المائدة، وقال لي غداً تعود إلى البيت لا أريد أن أراك هنا! حنقت على والدي أيطردني من أجل خادم آشوري…؟! وبعد دخولي الحزب هذه هي زيارتي الأولى للحسكة، وصلت البيت رأيت زيا الذي ما إنْ فتح الباب وشاهدني حتى ابتسم وقال لي تحيا سورية، وضمّني إلى صدره باسماً. وقال: خبّرني الرفيق زكي عنك وبعد وقفة قصيرة مع نفسي اكتشفت فعلاً أنني أصبحت إنساناً آخر.. جاء والدي جلسنا إلى المائدة بشكل طبيعي، ولكن الشيء غير الطبيعي الذي لاحظه والدي واستغربه هو طريقة تعاملي مع زيا… أحاول معاونته برفع ما على المائدة ومشاركته الأعمال الموكلة إليه والمودّة التي أبديها نحوه، ناداني والدي وسألني عما لاحظه وشدّد على وجوب معرفة السبب، ونزلت عند إرادته وأبلغته الحقيقة، زيا قومي وأنا قومي وزيا هو رفيقي، بُهت في البداية، صفن وفكر ولم يبدِ كلمة، ولكني شعرت بالارتياح والاعجاب على وجهه وفي تصرفه نحوي ونحو زيا. وقال بعد ابتسامة حانية «منيح عرف الحزب كيف يربّيك».

هذا بعض مما كان من هذا الإنسان أنا لا أريد إشغالكم بقصة حياتي… ولكني ما ذكرت كلّ هذا الذي ذكرت إلا لأعبر إلى قصة حياتي الصلبة وهذا الانتقال العجيب الذي أعاد صياغة إنسان تافه فجعله قيمة حياتية إنسانية مجتمعية منتجة فاعلة… ماذا أقول غير آه أنطون سعاده ماذا فعلت؟

حقاً لقد أعاد الحزب والتربية القومية صياغتي من جديد، وصدق والدي عندما قال: عرف الحزب كيف يربّيك… أحسست بأنني تبدّلت تغيّرت وظهرت الفوارق الكبيرة بيننا وبين بقية المواطنين، فوارق لمسها الكثيرون وشعروا بها من خلال الحديث، والتعامل، والتصرف ومن خلال المناقبية الخلقية العالية التي تحلى بها القوميون الاجتماعيون ووسمت أعمالهم وتصرفاتهم… حياتي في الحزب منذ الأشهر الأولى هي تطبيق عملي لما أقسمت عليه لدى انتمائي للحزب وتنفيذ فعّال لنداء الواجب.

بعد عشرة أشهر من انخراطي في العمل الحزبي شاركت في الثورة القومية الاجتماعية الأولى ودخلت السجن لمدة أربع سنوات ثم لوحقت مرة ثانية بعد حادث اغتيال عدنان المالكي وفررت ولوحقت في لبنان وسجنت مرة ثانية. سأركز على البناء الجديد الذي بنته العقيدة في تكويني الروحي، ما جعلني أعطي كلّ ما تطلبه هذه العقيدة من أجل الأمة، هذه الحالة ليست خاصة بي، إنها مناقبية يلتزم بها القوميون الاجتماعيون.

… أقسم بشرفي وحقيقتي ومعتقدي على أنني انتمي إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي بكلّ إخلاص وبكلّ عزيمة صادقة وأن أتخذ مبادئه القومية إيماناً لي ولعائلتي وشعاراً لبيتي وأن أحفظ أسراره فلا أبوح بها بالقول ولا بالكتابة ولا بالرسم ولا بالحفر ولا بأية وسيلة أو طريقة أخرى لا تطوّعاً ولا تحت أيّ نوع من أنواع الضغط وأن أحفظ قوانينه ونظامه وأخضع لها وأن أحترام قرارته وأطيعها وأن أنفذ جميع ما يعهد به إليّ بكل أمانة ودقة وأن أسهر على مصلحته وأؤيد زعيمه وسلطته وأن لا أخون الحزب ولا أي فرع من فروعه ولا أفراده ولا واحداً منهم وأن أقدّم كلّ مساعدة أتمكن منها إلى أيّ فرد عامل من أفراد الحزب متى كان محتاجاً إلهيا وأن أفعل واجباتي نحو الحزب بالضبط، على كلّ هذا أقسم أنا إياد حلمي موصللي».

تمعّن هادئ بقسم العضوية وخاصة ما نقسم به… «شرفي»، ما أعظمه أن تقسم بشرفك بمعنوياتك بأخلاقك، كم هي ثقة عظيمة عندما يقبل إنسان من آخر قسماً مبنياً على مضمون أخلاقي وليس ضمانة مادية ملموسة، شرفي وحقيقتي، إنسانيتي وطنيتي انتمائي.

هذه هي العناية التي ينتج عنها نبت صالح ملتزم بمناقبية جعلت منه إنساناً مؤمناً بالقيم العليا لأمته.

تحية إلى الذي جعلني أشعر بإنسانيتي.

تحية إلى الذي جعلني أشعر بمواطنيتي.

تحية إلى الذي جعلني أشعر بانتمائي.

تحية إلى الذي جعلني أعرف من أنا.

تحية إلى الذي أيقظ رجولتي وأعاد إيماني بقوتي.

أنطون سعاده هذا من بعض فعلك.

وأنا نبتة صالحة من زرعك…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى