الحاجة إلى اعتدال عربي
د. رائد المصري
مرَّ عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بمَا أسَّسه في بداية العام 2009 عربياً وإسلامياً، وبما يتعلَّق بالصراع العربي الصهيوني: مرور الكرام من دون التنبُّه لما حاول تثبيته من مفاهيم تؤطِّر وتُخضِع الوعي الجمعي العربي بضرورة تعظيم وتوسيع الدور والمفهوم لما يُسمَّى بدول الاعتدال العربي، وهو ما يعني حتماً وواقعاً أن يكون ضدَّ الراديكالية العربية الرافضة كلِّ مشاريع الهيمنة الغربية والعربدة الصهيونية على المنطقة كاملة… فهل نجح الأب الأميركي المؤسِّس لما أراد؟…
العين الأميركية منذ بداية عهد أوباما كانت تعمل على تسوية للقضية الفلسطينية، رغم الرفض الصهيوني المتعنِّت والمستمر الى اليوم، وكانت الرغبة الأميركية متيقِّنة بأنَّ أي تسوية لهذا الصراع لن يُكتب لها النجاح، إلا إذا استولت على نظم الحكم السائدة في الشرق الأوسط نُخب سياسية جديدة قاعدتها الإيديولوجية إسلامية، وبالتالي تصبح عملية التسوية أسْهل بعد أنْ تتوسَّع دائرة الأغلبيات العربية في الحكم على قاعدة الإخوان المسلمين الذين وجد أوباما فيهم ضالته، وعمل عليها بدءًاً من مصر وخطابه الشهير في الأزهر، وليس انتهاءً بما آلت إليه الأمور من تفريخ للإرهاب وللحركات السلفية والجهادية بعد العام 2011، التي استمدّت زخمها إسلامياً مستندة لإيديولوجيا خبيثة مسرطنة تجعل من نفسها في نهاية الأمر مطلباً أخيراً وملجأً نهائياً لتسلّم الحكم، لكون أي تسوية مع العدو الصهيوني تتطلّب قراراً أغلبياً شعبوياً متمذهباً في رؤيته للصراع ومحرِّفاً له، وليس قراراً لأقليات حاكمة في المنطقة تمتطي الفكر القومي والوحدوي والعلماني. وعليه بدأت عملية التأسيس للتمذهب والتطييف العربيين وتعزيز مفهوم التسوية مع العدو الصهيوني على قاعدة ما يسمّونه الاعتدال العربي والصراع مع إيران والهلال الشيعي والسيطرة الإيرانية وغيرها من مسمّيات تفتيتية للمجتمع العربي والإسلامي.
أخلص لأقول بأن هذا السيناريو اليوم بدأ به الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب، فعينه الأولى على إيران حتى من قبل أن يتولى الرئاسة ويدخل البيت الأبيض، وعينه الثانية على إسرائيل وتأمين حاضنته الداخلية الأميركية، بعد أن أبدى كل العطف والمكرمات على هذا الكيان في ضرورة نقل سفارة بلاده الى القدس.
هي محاولات مستميتة يجهد ترامب القيام بها على المستوى الاستراتيجي الأميركي في محاولة فصل التحالفات الجديدة القائمة والتي تثبتّت في الحرب السورية، فهو يحاول فكَّ التحالف الروسي الإيراني من جهة، وفك التحالف الروسي الصيني من جهة ثانية، حيث بدأت محاولاته بشنّ الهجوم على طهران وعلى التسوية النووية، وشنّ الهجوم كذلك على تجارب صواريخها البالستية المدمّرة، كذلك محاولته كفّ ونزع يدها عن سورية بكلامه حول المناطق الآمنة وبضرورة خروج حزب الله من حالة القتال في الداخل السوري، وأيضاً شكّل ضرب المدمرة السعودية في اليمن في عرض البحر من قبل أنصار الله بصاروخ باليستي منحىً خطيراً يمكن له أن يُخرج الأميركي كاملاً من معادلات الصراع في منطقة الشرق الأوسط، وعلى خلفيته أتى اتصال ترامب بالملك السعودي سلمان والحديث عن ضرورة التنسيق والوحدة في الموقف بين البلدين، بعد أن كان يُشكِّل وصول ترامب بداية كارثة لدى صناع القرار السعوديين وبعد تفعيل قانون جاستا وغيرها من إجراءات تدفيع الثمن لقاء الحماية الأميركية لهم.
في مجمل القول إنه لا بدَّ ولمواجهة هذا الحلف الروسي الإيراني الصيني الممتدّ من لبنان الى سورية والعراق وإيران وبحر قزوين وصولاً الى آسيا الوسطى والصين وتفعيل منظمة شنغهاي الاقتصادية، من قيام تحالف مقابل سعودي أميركي إسرائيلي تتوسَّع معه دائرة دول «الاعتدال العربي» على قاعدة العداء لإيران، واستنزاف أكثر في الأزمة السورية وتكبير الخطر الإيراني على أمن الخليج والأمن العربي عموماً، لشراء صفقات السلاح الأميركية من جديد بوجه العدو الوهم وإعادة تموضع وهيكلة الاقتصاد الرأسمالي وتجديد البنى التحتية وتحقيق نمو أكبر في ظل أزمات مالية خطيرة ضربت القوة الأعتى عالمياً، وأصبحت في الخط الخلفي للمواجهات.
يريد ترامب إعادة تفعيل عمل الطبقات الوسطى والفقيرة في بلاده ويتّهم الصين، وكذلك جو بايدن بأنّ الرئيس بوتين يريد خلق تحالفات إقليمية ودولية تهدف الى تحدي الولايات المتحدة الأميركية، في حين أن موسكو تدافع عن مصالح بلادها هي وغيرها من الدول التي عانت من نظام العولمة الذي قضم اقتصادياتها ونهب ثروات شعوبها.
هي قلة من الرأسماليين تتحكّم في مصير العالم عن طريق الإدارات السياسية الأميركية التي تختارها وتضع لها أجندات أهدافها، وتتكفّل بتسويق السياسيين عبر وسائل الإعلام التي يحرص الرأسماليون دوماً على امتلاكها. فيقبل هؤلاء الساسة بفتات المال مقابل تنفيذ أجندات لمن أوصلهم الى السلطة.
يتساءل الأميركيون، ومنهم ترامب، عن الأموال المسروقة والتي تكدست ربحاً رأسمالياً خالصاً، فنجيب بأنّ الولايات المتحدة في آخر 25 عاماً شنت أكثر من 15 حرباً كلّفتها مالياً 15 ألف مليار دولار أميركي، وكان بإمكان هذه الأموال أن تنفق على البنى التحتية الاميركية ومساعدة العمال فيها بدلاً من السؤال عمّن سرق هذه الأموال هل هي الصين؟ أم روسيا؟ أم دول بريكس؟
قبل 60 عاماً حذّر الرئيس الأميركي السابق دوايت أيزنهاور وهو العسكري والسياسي المخضرم وقائد جيوش الحلفاء في الحرب الثانية، حذّر من دمج وتكبير الكتل والمجمّعات الصناعية العسكرية في أميركا ومن بروز تكتل صناعي عسكري، لأنه يُضرّ بالمصلحة الاميركية وبالديمقراطية ويعرّض الحرية للخطر….
فمنذ خطاب أيزنهاور الشهير بعد الحرب العالمية الثانية ما الذي حصل؟
لقد سيطر التجمّع العسكري والصناعي ومَن معه في أميركا على الحكم وأشعلوا الحروب تلو الحروب…
المثل الإنكليزي يقول: تجار السمك لا يجيدون سوى بيع السمك، وتجار الحروب لا يتقنون سوى تسويق الحروب… وكلٌّ منهم مؤمنٌ بما يفعل.
أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية