«المتلصّصة»… المولود الروائيّ الأوّل لزينب فياض غوصٌ في أعماق الذات… ورسمُ تفاصيل الحياة بين الصمت والبوح
عبير حمدان
كيف يمكن للعين أن ترى العالم من كوّة بحجم طفولتها كي تتشكّل الحياة من حولها بما تضمّه من تفاصيل تحثّنا على البحث والتساؤل، وقد تصقل روحنا تارة وتجرحنا طوراً؟ هل يكفي استراق النظر كي نرصف لغتنا على قياس أحلامنا البسيطة؟ تتراكم الأسئلة حين نسعى للتعرف إلى «رحيل»، بطلة «المتلصّصة»، الرواية الأولى لزينب فياض التي تحاول الغوص في أعماق الذات وما تعيشه من صراع بين الصمت والبوح بالمحظور، وبين الحبّ والكره وبين الرفض والقبول.
«رحيل» ليست شخصية عابرة، إنما هي تسكن بيننا وقد تكون في داخل أيّ أنثى تناقش وتجهد لإيجاد الأجوبة، تسعى بطلة الرواية إلى ملامسة الروح المتقدة في داخلها وكأنها ترسم شوارع وأزقة تشبه تفاصيل الحياة بما فيها من إشكاليات معلّقة. هي التي تتلصّص على ذاتها قبل أيّ أحد آخر وتتمسّك بخيط الحبّ الرفيع ولو بمنأى على ظلّها… الظلّ هو الضمير الذي يغفو تارة ويصحو تارة أخرى.
تصبّ جام غضبها على والد لا يرى فيها إلا عبئاً لم يكُ يريد تحمّله، هي الحرف الناقص في منزل فقد مفهوم الحبّ الذي ضاع بين طرف ينكر أيّ قيمة للحرف وطرف يرى العالم بين دفّتي كتاب وبين السطور تكمن القوة الحقيقية…
«رحيل» الطفلة والطالبة الجامعية تتقلب في كلّ ثانية في رحم والدتها المسكونة بالأمل رغم ما تقاسيه من حزن، تتمسّك بضميرها في لحظات الضعف تجعله متَّكأً لأفكارها ويزداد تعلّقها بنبض تلك الرحم مع كلّ انقباض. هي المسكونة بفعل «التلصّص»، تدّعي أنها تخرج من ذاتها بفضله حين تقول إنها كانت تقوم برحلة لتفقد الأشياء والذاكرة:
«مثل أن أفقد ذاكرتي عند كلّ زاوية، أهرق دماء الذاكرة حيث أقتلها عند كلّ منعطف أعبث بجسد أفكاري فلا أعود أنا… أصبح أمراً آخر غير ذاتي الملعونة المسكونة بندوب عميقة مؤلمة، وأكون أرواح غيري. كيف نصبح غير ما نحن عليه؟ نتسكّع في أروقة الذاكرة. نغتال كلّ ما هو موجع. نصفّي الروح من دمائها الملوّثة. وفي نهاية المطاف ندفن آلامنا علّنا نصبح كائناً جديداً بلا زمن ولا مكان».
لكن، هل هي مقتنعة بواقعية فقدان الذاكرة؟ هنا يصبح الطرح معقداً، ذلك أن «رحيل» لم تنسَ ذاتها يوماً، إنما كانت تبحث عن الأنثى التي فقدتها من جرّاء غياب الأب والأخ عمداً. كانت تبحث عن لغتها بين شقوق الشغف بالحبيب، وبين مقاعد الجدل مع الصديق، وبين رفوف الكتب التي يجمعها الأخ…
وربما بحثت عن أمومتها في وجه أخيها المميّز: «حملتُ أخي الصغير بين يديّ. ملاك ينظر بعينيه نحوي كمن يستجدي العطف، عيناه الغريبتان، أنفه الأفطس ورقبته الغليظة لم تكن تشبه ما تعوّدت على رؤيته سابقاً حين كانت أمي تضع مولودها. الكلّ مشغول عن هذا الطفل. جدّتي وعمّة والدي وأمّي، حتى والدي حين أتى سحبته الجدة من يده وأخذته إلى غرفة أخرى مقفلة حيث تجلس أمّي هناك والدمع يملأ عينيها ويبلّل خدّيها، ويداها مشبوكتان… كنت أراها حين يُفتَح الباب ويُغلَق. بقيت ذلك اليوم إلى جانب الطفل المميّز. عشقت النظر إلى عينيه».
كثيرة هي المشاهد التي تتكوّن في مخيّلة القارئ حين يقلّب صفحات الرواية العابقة «بالتلصّص». وقد يشعر أنه بحاجة إلى احتراف هذا الفعل علّه يجد في أعماقه سرّاً وجودياً لم يدركه في زحمة الزمن. ربما علينا أن نرى العالم بعين «رحيل» المختبئة في غرفتها الصغيرة لتراقب الجميع من ثقب صغير، فرحة بأنهم لا يرونها، ولكنها في المقابل تغفل عن مراقبة ذاتها عمداً كي لا تسقط حروفها سهواً في لجة اللامبالاة. «رحيل» تترك الحبّ والأمنيات معلّقة عند زاوية أسرارها الخاصة وتترك المجال للقارئ كي يتكهّن بما تخفيه.
لعلّ السرّ الكامن في شخص البطلة يجعلها حاضرة في قراءتنا رواية زينب فياض التي نجحت في استفزازنا كي نكمل رحلة «التلصّص» حتى الحرف الأخير، وتركتنا عند مفترق طرق ونهاية افتراضية من دون ملامح واضحة. هي دعوة واضحة لنطالبها بجزء ثانٍ من سلسلة الحياة عسى أن تمنحنا ما هو أبعد من النهاية المفتوحة لنرى ما الذي سيبصر النور من رحم «رحيل».
يذكر أن رواية «المتلصّصة» من منشورات «حواس»، وتوقّعها زينب فياض غداً الأربعاء الساعة الخامسة في «بيت حواس» ـ حارة حريك ـ سنتر الضاحية.