ما بعد أستانة… نياطُ حروفي قُدّتْ من سريان
آمنة بدر الدين الحلبي
بعد ست سنوات ونيّف من الحرب أصبحت نفسي مثقلة بآلامها، ممتلئة بأوجاعها، وما يخفف منها جليس يمتلئ معرفة وكنوزاً تحيي الرؤى الإنسانية في روحي، وتجعلني دائمة البحث عن الصواب حتى لا تبقى نفسي رازحة تحت عبءٍ من المجهول. وكلما أبحرتُ مع جليسي تعلّمت أكثر ونبشت جمال الماضي.
لكنني أعيش هذا الحاضر النتن الذي يغصّ بالوجع، ويمتلئ بالثكالى والأيتام والمحرومين والجياع، وما أكثرهم تحت العراء ينهشُ الهَلَلُ المندوف أجسادهم، ويلفهم سِقْطُ الصقيع، حيث يموت الحب، ويُدفن الرضيع، والعالم في صمت وضيع، وعهر شنيع.
عُقدت المؤتمرات، وحيكت القمم، وكتب المنجمون، واشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي بين موالٍ ومعارض، حتى أصبحت طافحة من خمرة الغث والسمين، وكان آخرها أستانة ببيانه الختامي الذي رسم التوقعات المبدئية حسب المعادلة الكيميائية التي نقشها اللاعبون الجدد على الأرض، ورشح بعده كلام عن مسودة دستور، يرمي إلى رسمٍ تشكيلي منقوشة عليه تعديلات وإزالة أوصاف.
كأنني شربت كأساً من علقم، وشعرت بالصمم لبرهة، وبقيت لفترة أتأمّل هذه الصياغة لدستور سوري، باقتراح روسي يوسع صلاحية البرلمان.
دخلت صومعة التفكير ولجأت لجليسي الذي يحفظ أسراري، لكن جرس الهاتف لن يهدأ على إثر تلك القرارات وأنا أستمع وأقرأ لأرى أين ستصل الأمور، حتى اقتحمتْ خلوتي إحدى الصديقات وما إنْ فتحت لها الباب حتى باشرتني بالسؤال سريانية أنا أم عربية؟
قلت: نياطُ حروفكِ العربية قُدّتْ من سريان.
قالت: عدنا للفلسفة التاريخية، ألم تشاهدي أغلب وسائل التواصل الاجتماعي تغصّ بالتأكيد على الجمهورية السورية.
قلت: خير جليس في الأنام كتاب، هو مَن يحكم بيننا.
قالت: أعطني جواباً مقنعاً على سؤالي، كما كان هو يغازلني بالعربية العرباء.
قلت: نحن السوريين من يقرّر من نكون… نحن السادة.
قالت: وما هو الدليل على أنني عربية بعد كلّ ما قرأته وسمعته.
قلت: هناك على المقلب الآخر مَن يعتزّ بعروبته الحضارية وليست الوهمية، وها هو صديقي الدكتور نور الدين ناصر رئيس شعبة الجراحة العامة لدى مشفى الباسل طرطوس يكتب على صفحته «اللغة التي أتكلم بها وأحلم بها وأكتب بها هي اللغة العربية، العرباء درست كلّ العلوم والآداب والفلسفات باللغة العربية. لا أعرف إنْ كانت جيناتي تتحدّر من جينات عرب الحجاز أو اليمن أم هي متحدّرة من سكان سابقين هنا ينتمون لقبائل أو شعوب أخرى، عربية العروبة… ليست نسب دم وليست تعصّباً شوفينياً… أعتز بسوريتي وبتاريخ هذا البلد العريق السابق لمجيء الإسلام».
قالت: تتابعين على كل الجهات، أعطني الإجابة.
قلت: الصبر… يقول الدكتور أحمد داود في كتابه «العرب والساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل واليهود»: لما كانت الأرض هي الرحم الذي يحتضن البذور ويتعهّدها بالإنماء فقد تقدّست في عقيدة الخصب وصارت الأمّ الكبرى ترمز إلى الأرض، والسماء هي من تخصِّب الأرض بمطرها، لأنّ عقيدة الخصب تعتمد على قطبين الذكر والأنثى، السيد والسيدة، ولم يكن ليحدث دون أن يجد له انعكاس في اللغة التي تحتضن كلّ فكر وإبداع هذا الإنسان، لأنّ أهمّ ما ميّز آباء العرب القدماء الذين تقدّسوا في عقيدة الخصب الزراعية مجموعة كبيرة من الأسماء، أبرزها ثلاثة: «سر» و«مر» و«رب» وكلّ منها يعني السيد.
قالت: لم أفهم من تلك الفلسفة شيئاً، أنت تتعبين أعصابي بتلك الكتب التي تبحر إلى ما قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام بآلاف السنين، ولا تعرفين من أمر العشق شيئاً، كان ينتقي أجمل الكلمات ليناديني فيها، ويشرب نخب حبنا كلّ ليلة.
قلت: «اليوم خمر وغداً أمر» اقرئي ما تيسّر من آيات العشق في حضرة الغياب.
صمتتْ صمتاً مؤلماً وتصاعدت أنفاسها وتحجّر الدمع في المآقي.
قالت: لم أكن أدري أنني قربَ التماس، تشوّهتْ معالمه، من القُبل العنقودية، والهدايا الفسفورية، تخضّبتْ روحه وانفصلتْ جثته عن الرأس، حرب عالمية عاهرة بلا إحساس.
كانت ترتجف من الألم وكأنّ صوتها رعدٌ يهطل من الفضاء موجوع من فراق مرّ وهي تصرخ ليتغيّر العالم، تباً له وتب.
قلت: الكاتب ليو تولستوي كرّر مراراً «الجميع يفكر في تغيير العالم، ولكن لا أحد يفكر في تغيير نفسه».
والمهاتما غاندي أعلن «كن أنت التغيير الذي تريد أن تراه في العالم». لنبدأ بأنفسنا كي نبني وطناً سالماً منعّماً.
قالت: ها هم يطلبون تغيير اسم الوطن ويحذفون العربية لتموت ذكريات الحب والحنين.
قلت: حين يستوطن الحب على جسد الذاكرة يبقى أمد الحياة، لأنّ عمر الذاكرة أطول من عمر الجرح، وكلّ ما أريده أن تستوعبي ما كتبه الدكتور أحمد داود في كتابه، إذ قال: «سر» تعني السيد و«سري» تعني السيدة، وسراة القوم سادتهم، والسرو الشجر المرتفع، وإذا ما أضفنا نون الجمع تصبح «سرن» وتعني السوريين أو السريان، لأنّ العربية القديمة لم تكن تكتب الصوتيات «أ ، و ، ي».
أما «مر» السيد و«مرت» أيّ السيدة ما زالت تُستخدم في العربية الدارجة حتى اليوم، وما تزال كلمة «مار» مستخدمة مع ألقاب المقدسين في المسيحية أي «مار الياس ومار يعقوب» وكذلك «رب» تعني السيد ومؤنثه «ربت» وتعني السيدة أما منطقة سناه في جوف شبه الجزيرة العربية وأطلق على بنيه أحفاده اسم «آربي» أو «عربي»، وهناك في جنوب «عسير» تحديداً توجد مدينة «الربة» حتى اليوم».
قالت: متى اتضحت الرؤية لدى تلك الشعوب أكثر.
قلتُ: أعود مجدداً إلى كتاب د. أحمد دواود يقول: في «أبجد هوز حطي كلمن»ألفا ـ تعني الثور، بيتا ـ تعني البيت، جاما ـ تعني الجمل، دلتا تعني باب» والخيمة «شكل المثلث». وهنا يؤكد بأنّ جميع هؤلاء الآباء الأوائل اقترنت عملية تقديسهم بتقديس الخصب، وإذا ما أضفنا أول حرف بالأبجديةـ الألف ـ والتي تعني الثور، والثور رمز الخصب في عقيدة الخصب».
وبناء على هذا توزّعت اللغة العربية القديمة إلى ثلاث لهجات رئيسية هي السريانية في الشرق والأمورية في الغرب والعرباء النقية في جوف شبه الجزيرة.
قالت: متى أضيف للغة أحرفها الست؟
قال د. أحمد داود: «في وقت متأخر أضافت اللهجة العرباء الأحرف الستة «ثخذ ضظغ» إلى الأبجدية الكتابية ودعيت بلغة الضاد تمييزاً عن شقيقتها السريانية الشرقية والأمورية ودعيتا بالعجميتين أيّ الصعبتين على الفهم، لأنّ عجم واستعجم ما صعب فهمه ولو كان عربياً».
قالت: لماذا أجدادنا لم يسجلوا لنا في مدوّناتهم انتماءهم العربي؟
قلت: كانت دولتهم الوحيدة في سورية أو في وادي النيل وكانت العروبة شيئاً يعيشونه ويمارسونه من خلال اللغة الواحدة كما يتنفّسون الهواء ويشربون الماء، فلغتهم التي ليست شرطاً لقوميتهم شكلت أداة التفاهم والتواصل، وكانت ألقابهم في بلاد اليونان «السادة، المعلمون، أبناء الآلهة».
قالت: هم وصلوا إلى اليونان؟
قال د. أحمد داود: «السوريون حكموا في الخارج لأن سورية لها امتداد كبير فالإمبراطور السوري السابع الذي حكم روما فيليب العربي من شهبا في حوران أصرّ على أن يكون لقبه الأوحد «العربي»، فدُعي «فيليبو أربيو».
قالت: هل يُعقل أننا حكمنا روما؟
يقول د. داود: «جيلان من الأباطرة حكموا روما، جيل من النبلاء والمثقفين السوريين، وجيل من الهمج اللاتين».
قالت: ما زال هناك لبسٌ كبير يجري في دماغي اللعين.
قلت: المفكر أنطون سعاده كتب منذ عشرات السنين مقالا بعنوان: «حاربنا العروبة الوهمية لنقيم العروبة الواقعية» وهوجم من قبل الرجعيين.
«العروبة التي يريدها البعض وصلت بالأمة السورية إلى كوارث كيليكية والاسكندرونة وفلسطين عن طريق العمل لتحقيق الوحدة العربية»
قالت: أي عروبة تبحثين عنها؟
قلت: ما أريده وأبحث عنه النضال من أجل فلسطين واللواء السليب عروبة حضارية حقيقة لا عروبة أوهام، نريد عروبة كما دعا إليها سعاده، «تدعوا السوريين عامة في لبنان وفلسطين وشرق الأردن والشام ومابين النهرين إلى الاتحاد القومي والنهوض الاجتماعي إلى العمل على سحق الرجعية والنايورجعية وأوهامها إلى فصل الدين عن الدولة واعتبار الأمة مجتمعا واحدا، إلى إقامة نظام نفسي ثقافي علمي يزيل الشقاق ويمحو التفسخ ويبعث اليقين والإيمان والثقة».
وما عليك يا صديقتي إلا أن تدركي لا أحد يستطيع أن يسلخنا عن عروبتنا الحضارية نحن السادة السوريين، كما أنهى مقاله الدكتور نور الدين ناصر، فاطمئني يا صديقتي أنت سورية عربية وحرفك قُدَّ من سريان، وما أُخذ بالقوة نسترده بعروبتنا الحقيقية السورية.