فصلٌ تالٍ من تحوّل ذئب الغواية إلى حمل وديع!

النمسا ـ طلال مرتضى

ـ لم تغيّرك المنافي، بل زادت من غربتك.

ـ أجزم تماماً بأنك لم تستطع التنصّل منك. وتلك الحضارات الجديدة لم تستطع أيضاً سلخ جلدك العتيق.

ـ أعرفك كما أعرفني.

ـ أنت تكذب قهقهة كي لا يرى الناس انكسارك.

ـ تعرف، كلّما أقرأ لك قصيدة جديدة، أضحك ملئي حدّ البكاء عليك. أراقب عن كثب كيف يتهافت المعجبون والمعجبات لتقديم الثناءات على القصيدة، حتى أنّ بعضاً منهم، يتوهّلون التوقيع عليها، مستغربين جرأتك التي لا أنفيها.

ـ جلّهم يعتقدون أنك عاشق حدّ المجون. يكاد رهط منهم يشهق، حين يتلمّس من داخل نصّك تفاصيل الحبيبة وكلّ شيء. حتى أن معجبة تمتمت في سرّها: «أيها اللئيم الفجع… تضاريس فتاتك وفتنتها للتبهل لا للالتهام!».

ـ وحدي من يعرف كيف تتنفّس، كيف تسمو وأنت تجعل من اللغة السمحاء، عجينة طيّعة، تشكّل منها نساءك الافتراضيات. اُنظر في عينَيّ، لا تواربني.

أُدرك بالسليقة بأنك لا تستطيع. أنت تعزي روحك، فراغك، جنونك، هوسك، بنساء المرويات، تصنع منهنّ عشيقات، تمارس معهنّ طقوسك المعتادة على الورق. تلك ثيمة لا أحد يستطيع مجاراتك فيها. أقنعت متابعيك جميعاً عبر الشابكة، بأنك العاشق الوله.

ـ هم مقتنعون تماماً بأنّ ما يقرأونه واقعيّ مئة في المئة، تنفرج أساريرهم/ أساريرهن، حين يدلفون/ يدلفن قصائدك، ليأخذوا جرعتهم المحبّبة من خلالك، بل يذهبون/ يذهبن إلى أبعد من ذلك حين يقلدون/ يقلدن كلّ طقوس عبادة العشق التي تسنّها لهم، لكلٌ منهم/ منهن شجواه ونجواه، يتنفسون/ يتنفسن عبرك فسحة الحرّية.

ـ لا أنكر عليك دهاءك، حتى أنك تخاتلني المقال في أحيان كثيرة، لولا أنني استنبطت قبل فوات الأوان، أن اللغة لعبتك المفضلة. فهي لا تبخل عليك بالمطلق، تمدّك بممكناتها كلّها، لا كرماً، بل لأنها تدرك سليقة الكتابة، بأنك خير من يتطير بها نحو الصخب، وحدك من يهدّئ روعها حين تعصف بها الريح الهوجاء، فهي لا تستكين إلا بعدما تهدهد عليها بأصابعك المجنونة ـ وحدي من يعرف سطوة تلك الأصابع ـ وتريحها بغنج طيّ سرير الورق.

ـ كيف لا؟ وقد اتخذتها خليلة، أنيسة، وأيّما رفيقة، تساهرها، تساهرك، تراقصها، تراقصك، تشقيها، تشقيك.

ـ لديك ما يكفي من الجرأة لتلهب أوارها، تدسّ أصابعك مثل مِحراك للشهوة، طيّ فوهة بركانها الخامل من دون رادع أو وازع، تستميلها بمكرٍ لتخرجها عن صمتها. تستجرّها نحو صومعتك، تتوسّلها بلؤم، مثل تائب عاد توّاً من دروب الخطيئة. تستغلّ عزلتها التي تشبه صقيع عزلتك، تنفخ في عينيها بحرارة كي تغشي بصيرتها… بخبث.

أعرف أنها الآن صارت طوع بنانك. وأنّ اللحظة آنت لتضرب ضربتك الفاصلة.

ـ بحجة التعب، ترمي برأسك ـ المتخم بأفكار الصيّادين ـ في دوح صدرها الفائر. ومثل ذئب تركّز فمك في منحرها، تبثّها حرارة أنفاسك، تصغي بتشهٍّ لضربات قلبها التي بدأت بالتصاعد، تصعق خاصرتها بأصابعك، تترك لكفّك الأخرى حرّية فكّ أزرارها. وعند انفتاح الزرّ الأخير، يصير التوت قاب سطرين أو نفثة حبر. لتسلّمك صفحة روحها البيضاء من دون ممانعة. كيف لا تصير حرثك وقد دلقت ـ بمكر العارف وخبثه ـ شيئاً من ريق نشوتك، يسيل على هامش عطشتها.

ـ أيقنت عن سابق قراءة بأنك أجهزت عليها، أوقعتها في غيبوبة نشوتها. كادت تسقط من بين يديك مثل آنية زجاجية، تتشظّى على بلاط الرغبة، لكنها وفي اللحظة الأخيرة، وقبل استلاب ارتعاشتها، خمشت خاصرتك بكلّ ما تملك من لذّة، غرست غبن أظافرها في لحم خطيئتك، كي تبقى متوثّبة.

ـ تلك هي لحظتك المثالية، ليس عجيباً، حين تتبدّل أدوار الحكاية فيصير الذئب حملاً وديعاً يتلذّذ منتشياً بصراخ غزالته، من دون أيّ اكثراث لنداءاتها.

ـ أكاد أسمع ضجيج روحها، أكاد أتلمّس بحواسي كلّها حريق الرغبة الذي يداهم سطور مسامها.

أراقب عن كثب كيف أدرت ظهرك لابتهالها: أرجوك… أرجوك.

ـ كما العادة، تركتها ومشيت، ليس ذنبك بالتأكيد، هي من طاوعتك وبكامل أهليتها سلّمتك أزرار رغبتها، وعليها أن تنال جزاء ما اقترفت.

ـ أعرف أنانيتك، عنجهيتك، لؤمك، مكرك، أعرف كلّ شيء عنك وفيك.

جلّ ما يشغلني الآن، كيف ستقابل معجبيك، معجباتك، بعد أن غررت بهم، على أمل الذهاب بهم/ بهن إلى الخلاص؟

ـ هل أصابك مسّ الحكاية؟ هل يكفي كلّ هذا لتفتعل قصّة حبّ مع اللغة؟ تطارحها الغرام بين السطور على مرأى قرائك، قارئاتك، وفي وضح الرؤية. أما توهّلت حواجز الكتابة وكناياتها، عندما ضربت بضميرك المستتر عرض الفكرة؟ نصبت ما أمكن لك، كسرت كل معوقات السرد.

وكنت كلّما سنحت لك الفرصة، كنت تتجاوز الفواصل، لدرجة أنك استعملت «الضمّ» في كلّ همسة على حساب «سكون» الحالة.

ـ كلّ هذا مباح لرجل يملك أصابع مثل أصابعك. تأخذ الحروف نحو فيافي الخدر، تحت قصفها الوبيل. فقط كان عليك التوقّف هنا، رأفة باللاهثين، اللاهثات وراء القفلة، أو على الأقل أن تترك لهم جملة بين قوسين هذا فصلٌ تالٍ من مرويّتي الجديدة .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى