خيارات ترامب نحو إيران: ماذا بعد العقوبات؟
يمضي ترامب في فرض سردية خاصة به مثيراً ردود أفعال عميقة ومتباينة، باستعدائه السلطة القضائية في واحدة من أبرز محطات المواجهة مع إحدى الركائز الثلاث للنظام السياسي الأميركية. وتصدّى القضاء بقوة لقرارات ترامب الخاصة بإقصاء المهاجرين لما سيتركه من تداعيات بنيوية في المجتمع الأميركي.
استطاع ترامب الفوز بمصادقة الكونغرس على «بعض» ترشيحاته لمناصب بالغة الحساسية في أجهزة الدولة، أشدّها جدلاً وزير العدل جيف سشينز، ووزيرة التربية بيتسي دي فوس.
أوفى ترامب أيضاً بوعوده الانتخابية الخاصة بتصدّيه للاتفاق النووي مع إيران، مجدّداً السعي لإلغائه من جانب واحد ودون تحديد سقف زمني، وأرسل «تحذيرا» لطهران بأنه ينوي «تمزيق النص الراهن» وإعادة التفاوض بغية الحصول على اتفاق بديل يحابي بشدة المصالح الأميركية.
سيتناول قسم التحليل استعادة ترامب لإنزال إجراءات عقابية جديدة ضدّ إيران، دون مسوغ لم يصطف لجانبه سوى «إسرائيل». ترامب وأقرانه عازمون على استحداث مزيد من العقوبات التي يقرّ بمفاعليها المحدودة الخبراء الاستراتيجيون.
ترامب وصراع الإرادات
أثارت تعيينات الرئيس ترامب «لمستشارين» خاصين له في البيت الأبيض امتعاض الكثيرين، مع التنويه بصلاحياته القيام بذلك وفق نصوص الدستور. وأعرب معهد أبحاث السياسة الخارجية عن قلقه من النفوذ المتصاعد للمستشار ستيف بانون كعضو كامل العضوية في مجلس الأمن القومي، والتشكيك بقدراته «لتنفيذ مهامه على أتمّ وجه.. أو لعب دور متكافئ للدور الذي أوكله الرئيس ايزنهاور لنيلسون روكفلر»، في تلك الحقبة الزمنية. واضاف انّ مناوئي التعيين «أخطأوا باعتبارهم هيكلية المجلس منقوشة على ألواح حجرية.. إذ انّ بنيته وعضويته تمّ تعديلهما بشكل حيوي عبر تاريخ المجلس الممتدّ لسبعة عقود».
إيران
استعرض معهد كارنيغي بعض التوجهات المحتملة لبدء إدارة ترامب اعتمادها كسياسة نحو إيران وبرنامجها النووي استناداً الى فرضيته باستطاعة «ترامب ان يلعب درواً مزدوجاً كأيديولوجي مخلص وبراغماتي بلا رحمة». فالميزة الأولى، مضى موضحاً، تتضمّن تحقيق «انتصارات انعزالية معادية للمهاجرين والإسلام المتطرف، بينما الخاصية الثانية تكشف عن عقل رجل أعمال تحوّل الى رئيس يرمي لاستفادة الولايات المتحدة مادياً من كلّ علاقة ينسجها». وشدّد المعهد على انّ أحد توجهات ترامب انه لا يعير اهتماماً «للنظام العالمي الراهن بقيادة الولايات المتحدة بينما على الشق الآخر تغمره السعادة لاستغلاله كأصول قابلة للتداول لمصلحة بلاده الآنية»، معرباً عن عدم تيقنه من ايّ من الخاصيتين سيتصرف ترامب بل هوية المستشار الأقرب إليه الذي سيتعزّز حضوره في هذا الصدد». وأردف انّ أمام ترامب أربعة احتمالات «إلغاء الاتفاق النووي العمل على إعادة التفاوض تطبيق صارم للاتفاق القائم والقبول بالاتفاق كما هو شريطة كسب الشركات الأميركية حصة في السوق».
حث مركز السياسة الأمنية الإدارة الجديدة على التشدّد بالتعامل مع إيران «وضرورة استعادة المصداقية الأميركية عبر إنزال عقوبات بها». وأثنى المركز على إعلان الإدارة الأخير «بتحذير إيران.. كونه يرسل مؤشراً على عودة الولايات المتحدة الى المسرح العالمي بقوة وحزم وعلى أتمّ الاستعداد لإعادة تفعيل استراتيجية الأمن الوطني الناجحة التي اعتمدها الرئيس رونالد ريغان: إحلال السلام عبر إبراز القوة». كما حذر «الدول المارقة إيران وكوريا الشمالية» من التغاضي عن نوايا الرئيس ترامب معرباً عن أمله بألا «تضطر إدارة ترامب للجوء إلى القوة العسكرية لإقناع تلك الدول بأنّ ترامب يعدّل في مجرى النظام العالمي وأفول الزمن الذي كانت فيه الولايات المتحدة تسترضي أعداءها».
التحالف الروسي الإيراني أضحى مسألة مقلقة لواشنطن، واستعاد الفريق المناوئ للتقارب الأميركي مع إيران زخمه تحت إدارة ترامب الفتية. وتساءل معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى انْ كان ترامب «يستطيع فك التحالف الروسي الإيراني… غير المسبوق منذ 500 عام». واستدرك بالقول انّ الجانبين يتشاطران «الهدف الاستراتيجي بمعارضة الولايات المتحدة.. بيد انّ تعاونهما قد يكون قصير الأمد، لكنه قد يلحق ضرراً دائماً بمصالح الولايات المتحدة». وتكهّن المركز «بصعوبة إحداث وقيعة بين روسيا وإيران على المدى القريب.. اللتين تتشاركان القلق من عودة ظهور حركة طالبان في أفغانستان». وأضاف انّ من أجل نجاح ايّ توجه لتفرقة الطرفين، ينبغي على ترامب حلّ تناقض سياسته: التشدّد حيال إيران وتحسين العلاقات مع روسيا، ولا يتماشى هذان الهدفان معاً.. ومحادثات كازاخستان الأخيرة لم تفضِ سوى توطيد العلاقة بين روسيا وإيران». ويعوّل المعهد على دور فاعل «لإسرائيل وتشجيع إدارة ترامب لها بغية تعقيد الأمور على بوتين في سعيه الحفاظ على علاقات جيدة متوازنة مع جميع الأطراف» خاصة مع إيران وسورية و«إسرائيل». وشدّد على أنه «بإمكان إدارة ترامب توضيح الموقف لبوتين بأنّ المصالح الروسية والإيرانية في سورية لا بدّ ان تتصادم في المستقبل.. مما يستدعي وجود قوي للولايات المتحدة في المنطقة واستعادة موقعها القيادي فيها».
استراتيجية الأطلسي
حث مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية إدارة الرئيس ترامب على «العمل الوثيق مع دول حلف الناتو وتطوير قدرة الردع لديه.. والتأكيد على تبني نوع ما من التحسينات لتعزيز ردعه ضدّ ايّ شكل من أشكال التهديد الروسي او عمل عسكري»، وتبيان «مدى العمليات المحدودة التي يمكن الحلف القيام بها لمواجهة التطرف الإسلامي العنيف، والإرهاب، ونماذج أخرى تتعلق بمهام مكافحة التمرّد». واوضح انّ ما ينتظر حلف الناتو القيام به هو «تحقيق رؤية عصرية لنمط التقييمات المنهجية لماهية التهديد والقدرات الوطنية التي سخرتها أثناء الإعداد لتدريبات التخطيط في عقد الستينيات». وحث دول الحلف على «بلورة أهداف استراتيجية واضحة عمادها ردع روسيا، وتبني خطط خمسية من شأنها تحقيق تقدّم ثابت ومتماسك، مع ضرورة التأقلم السنوي للمتطلبات المتغيّرة».
روسيا
استعاد مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية دروس التناحر التاريخي بين «الامبراطورية الروسية والامبراطورية العثمانية ومركزها منطقة البحر الأسود». وأوضح أنّ روسيا «عادت بقوة لمنطقتي البحر الأسود وشرق المتوسط مقابل تراجع في الحضور الأوروبي والأميركي في المنطقة». وأعرب عن شكوكه في نوايا روسيا «التقرّب من تركيا، إذ انها تسعى لكسب مزيد من النفوذ في الممرات المائية التركية». وشدّد على انّ «الاعتبارات الجيوستراتيجية لروسيا في منطقة البحر الأسود لم تشهد تغيّراً منذ عام 1853، مقابل حلول حلف الناتو والولايات المتحدة مكان الدول الأوروبية المختلفة كمنافس رئيس لأهداف روسيا الجيوستراتيجية». وأوضح انّ تركيا بالنسبة لروسيا تشكل «نقطة انطلاق، والممرات التركية هي خطوط النقل الاستراتيجية» لتحقيق هدفها بالوصول الى «شرق البحر المتوسط وتشكيلها قوة موازية لتمدّد الولايات المتحدة والناتو شرقاً بالإضافة لتواجدهما في بحر إيجة ومركز البحر المتوسط».
«استعجل» الرئيس ترامب فتح جبهات صدام في الداخل والخارج، في آن واحد. تراجعت حدة خطابه السياسي في ما يخصّ روسيا مقابل التصعيد البارز مع إيران، عقب إجرائها تجربة إطلاق صاروخ باليستي داخل أراضيها اعتبرتها هيئة الأمم المتحدة بأنها لا تنتهك بنود الاتفاق النووي، بل تندرج ضمن سقف ما هو مسموح لإيران فعله، لصون سيادتها.
توقيت خطاب استعداء إيران جاء قبل أيام قليلة من احتفالات إيران بذكرى انتصارها على نظام الشاه، ليعيد خلط الأوراق مرة أخرى وتقويض الأجواء الدولية الإيجابية التي سادت عقب توقيع الاتفاق النووي.
سردية واشنطن التصعيدية جاءت على لسان مستشار ترامب لشؤون الأمن القومي، مايك فلين، متوعّداً طهران بأنه ينبغي عليها «الإصغاء للتحذير» الصادر اذ أنّ «إدارة ترامب لم تعد تسمح لإيران الاستمرار باستفزازاتها التي تهدّد مصالحنا الوطنية.. وشركاءنا حول العالم » ولم يشأ الخوض في تفاصيل ما اعتبره «تهديد إيران للمصالح الأميركية».
خبراء الشأن الإيراني من الساسة الأميركيين فسّروا «تهديد» فلين على انّ «كافة ادّعاءاته هي إما أكاذيب صرفة او حقائق مجتزأة» في أفضل الأحوال، ترمي الى افتعال صدام أو اللعب على حافة الهاوية «لإرضاء اللوبي الاسرائيلي » مستندين بقوة إلى سجل فلين في الخدمة العسكرية وتطرف آرائه.
ويمضي هؤلاء بمن فيهم ضباط كبار في أجهزة الأمن والاستخبارات الأميركية بالتحذير من شنّ «هجوم أميركي على إيران الذي من شأنه ان يجد قبولاً وتأييداً هائلاً من الكونغرس وترحيب وسائل الإعلام»، التي بمجموعها تتبنى الخطاب المعادي لإيران منذ سقوط الشاه.
ضابط الاستخبارات المركزية السابق، فيليب جيرالدي، الذي كانت إيران من ضمن «مهامه»، أوضح حديثاً أنّ «تصعيد ترامب لحدة التوتر في ظلّ غياب أيّ حوار ديبلوماسي معها يؤشر على أنّ نار الحرب الفعلية قد يكون سبب اندلاعها «إشارة خاطئة»، او تقرير استخباراتي خاطئ، أو مواجهة بحرية عرضية » معيداً الى الأذهان انصياع الولايات المتحدة لتقارير استخباراتية مختلقة لتبرير غزوها واحتلالها للعراق.
فلين واجهة الهواجس
مرور سريع على فلين وايديولوجيته ضرورية لاستنباط مواقف الإدارة الراهنة، لا سيما وهو يمثل أحد أضلاع مثلث التأثير المباشر والنفوذ الأوسع على ترامب وتوجهاته: ستيف بانون، راينس بريبس، مايك فلين. ما عدا هذه الدائرة المغلقة بإحكام يندرج تحت خانة التكهّنات واستنباط الأقوال.
نشر فلين كتاباً منتصف الصيف الماضي، بالتعاون مع المتطرف مايكل لادين، بعنوان مسرح القتال: كيف يمكننا كسب الحرب العالمية ضدّ الإسلام المتطرف وحلفائه. بإيجاز شديد، تتضمّن دفتا الكتاب «مخططا تفصيليا» لشنّ حرب على إيران. تستند آراء فلين في كتابه على فرضيتين أساسيتين: العالم المتحضر برمّته منخرط في صراع حياة أو موت مع نموذج منحرف للإسلام الذي أنتج ظاهرة الإرهاب الإسلامي المتطرف كما جاء في الأصل تشكل إيران مصدراً وعموداً فقرياً لحالة الاضطراب العارمة في الشرق الاوسط.. لديها برنامج سري لتطوير أسلحة نووية وباستطاعتها استخدامه لتهديد «إسرائيل» ومصالح أميركية أخرى في الشرق الأوسط وما بعده. ايضاً، مقتبس بتصرف .
خدم فلين كرئيس لجهاز الاستخبارات العسكرية قبل إقالته من قبل الرئيس أوباما، وكان معروفاً بين أعوانه وموظفي الجهاز بأنه مسكون «بحقائق فلين.. ميله لإصدار أحكام سريعة ثبت عدم صحتها». بل ينقل عن بعضهم قوله للموظفين حال تسلّمه مهام منصبه يتعيّن على الجميع الإقرار بأنه دائماً على حق.
تبنى فلين، ضمن سياق طويل من الاتهامات، نظرية ضلوع إيران في الهجوم على البعثة الديبلوماسية الأميركية في مدينة بنغازي، أيلول 2012، ومضى في إجراءات «التحقيق لإثبات وجهة نظره.. ومارس ضغوطاً كبيرة على معاونيه للإتيان بالادلة».
آراء فلين المتشدّدة حيال إيران والديانة الإسلامية على السواء تجد آذاناً صاغية وتأييداً، ربما مبطناً احياناً، بين غالبية أعضاء الكونغرس ومن اختارهم ترامب لوزارات الخارجية والدفاع، كما ينقل عنهم مباشرة.
في كلمة لفلين أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب، 2015، أفصح عن أولويات توجهاته حيال إيران وعلى رأسها إعادة الاعتبار لسياسة «تغيير النظام» هناك، بالزعم انّ ذلك أفضل وسيلة لوقف برامج إيران النووية.
يشار أيضاً إلى جهود مرشح ترامب لمدير وكالة الاستخبارات المركزية «سي أي آي» مايك بومبيو، والذي تزعّم حملة في الكونغرس إبان عضويته آنذاك، عام 2015، لإعاقة الاتفاق النووي مع إيران.
أما وزير الدفاع، جيمس ماتيس – الكلب المسعور، كما يطلق عليه، فقد ترأس قيادة القوات المركزية في عهد الرئيس أوباما وناشده «القيام بعمل عسكري ضدّ إيران»، عام 2011. وكافأه أوباما بإقالته فور مطالبته بنشر مجموعة حاملات طائرات أميركية ثالثة في مياه الخليج، تضاف للقوات والمعدات الضخمة هناك، «تهيئة للحرب مع إيران».
التهديد الأميركي لإيران صدر عن مجلس الأمن القومي لترامب، الذي يخضع لسيطرة «عصابة من الجنرالات السابقين وشخصيات متطرفة»، على رأسها «العقل الاستراتيجي المخطط لترامب» ستيف بانون. البعض فسّر التهديد بأنه من «أشدّ التحذيرات» الأميركية الرامية لإرسال رسالة واضحة لطهران، أتبعه بالإعلان عن حزمة عقوبات اقتصادية بعد يومين من اخطار فلين لإيران.
بعد إعلان العقوبات، دعا البيت الأبيض عدداً من ممثلي وسائل الإعلام الأميركية الرئيسة للقاء خاص مغلق أوضح فيه «مسؤول رفيع المستوى.. انّ الإدارة عازمة على اتخاذ إجراءات مناسبة ضدّ إيران وتستعرض مجموعة واسعة من الخيارات»، ولم يشأ نفي تنفيذ عمل عسكري أميركي ضدّها. بعض الوسائل الممثلة استخدمت مفردات ربما أشدّ قسوة مما ورد، مما يؤكد صدقية الرواية بتصعيد الإدارة لخطابها الى أعلى درجة ممكنة.
الحرب على إيران ليست نزهة
الحرب على إيران، او التهديد بها، ليست نزهة او مغامرة مضمونة كما جاء على لسان القادة العسكريين أنفسهم. يشار في هذا الصدد الى «تحفظ» قادة الأركان المسلحة الأميركية عن خوض حرب قريباً اذ «أبلغوا الرئيس أوباما بعدم قدرة القوات الأميركية شنّ حرب بنجاح إلا مع حلول عام 2020 على الأقلّ»، لاستكمال جهود الإعداد والترميم لهيكل يعاني من نزيف مستمرّ.
رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، بوب كوركر، لم يستبعد العمل العسكري في ظلّ مناخ تصعيد الخطاب الرسمي قائلاً: «من المبكر لأوانه الحديث في الخيارات العسكرية.. الإيرانيون بحاجة الى أخذ العلم بأننا في مرحلة جديدة ولن نسكت عن بعض التصرفات التي يقومون بها في الاقليم».
تفعيل عقوبات جديدة ضدّ إيران طالت نحو دزينة من الشخصيات المسؤولة وعدداً مماثل من المؤسسات الإنتاجية من ضمنها «مجموعة تتعامل مع مؤسسة الحرس الثوري الإيراني وكذلك مع حزب الله». سارع البيت الأبيض لنفي اتهامات كثيرين بأنّ إجراءاته أحادية الجانب تنتهك بنود الاتفاق النووي.
يُشار أيضاً الى انّ إعلان البيت الأبيض عن حزمة عقوبات جديدة استند إلى قرار الكونغرس العام الماضي المعروف «بقرار العقوبات على إيران»، وعدم اعتراض الرئيس أوباما في الأيام الأخيرة لولايته الرئاسية عليه، وتبناه الكونغرس كقانون نافذ، مما مهّد الأرضية القانونية والعملية لترامب تنفيذ من قام به.
خيارات أميركية
لم تلجأ إيران القيام باستفزاز مباشر ضدّ الوجود العسكري الأميركي في المنطقة، في سياق ردّها على العقوبات، مما نزع ذريعة الردّ الأميركي على هجوم «يفترض وقوعه»، وجرّدت واشنطن من ايّ تبرير لعمل عسكري ضدّها. أما ما يتعلق بإطلاقها تجربة على صاروخ باليستي فلا يندرج تحت بند انتهاك قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2231، والذي صادق بموجبه على الاتفاق النووي.
في الشق الاقتصادي، أدّى الاتفاق النووي إلى استعادة إيران جزءاً كبيراً من أرصدتها المجمّدة في الدول الغربية تقدّر بمليارات الدولارات، مما سيّل لعاب المؤسسات والشركات الكبرى للاستثمار هناك، تتراوح بين صناعات الطيران الأوروبية والأميركية، إيرباص وبوينغ على التوالي. المتضرّر الأول من العقوبات الأميركية الإضافية هي المؤسسات الأميركية عينها، مما سيحرّر ساحة المنافسة الاقتصادية من الوجود الأميركي لحساب الأوروبي والصيني والروسي، كما يرجّح.
لوّحت واشنطن مراراً بأنها ستمنع إتجار المصارف الإيرانية بعملة الدولار الأميركي في التبادلات التجارية العالمية، بيد انّ إيران استطاعت التأقلم مع تلك القيود منذ بضعة عقود من الزمن وتؤسّس للتبادل بالذهب وعملات أخرى مثل اليورو. فضلاً عن انّ الصين وروسيا تحديداً باشرا العمل بالاتجار الإقليمي بالعملات المحلية بينهما وبين إيران، مما سيخرج سيطرة الدولار الأميركي من ممارسة ضغوط اقتصادية إضافية.
من أبرز الخيارات الأميركية التي باشرت إدارة ترامب بتنفيذها لتطويق إيران لجوءها الى المملكة السعودية للاستمرار وتصعيد عدوانها على اليمن كوسيلة ضغط على إيران عبر «حلفائها» اليمنيين. وأعلن البيت الأبيض عن استعداده لتفعيل الصفقات العسكرية المبرمة مع السعودية خلال ولاية أوباما، نظراً لاستزافها مخزونها وترسانتها الضخمة في حرب اليمن، أبرزها صفقة قيمتها 300 مليون دولار لتوريد صواريخ موجهة دقيقة ونظم توجيه «بيفواي» لتحويل القذائف العاملة بالجاذبية الى قذائف «ذكية».
القادة العسكريون الأميركيون وانصار «السياسة الواقعية» في واشنطن لديهم رؤية جلية لإمكانيات المملكة السعودية وعدم تجرّؤها بمفردها على تحدّي إيران او الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة معها. من غير المرجّح ان تذهب واشنطن أبعد من الاستمرار في الوضع الراهن لاستنزاف الطرفين، عسكرياً ومادياً وتسليح دول خليجية أخرى بصفقات أكبر بكثير من قدراتها على استيعابها بلغ قيمة بعضها ألف مليون دولار، تتضمّن صواريخ جو – جو وطائرات مروحية للكويت ومعدات أخرى متطورة للسعودية والبحرين التي تتهيأ لتسلم «19 طائرة مقاتلة من طراز اف-16» في سياق مواجهة إيران.
موافقة الكونغرس على تلك الصفقات الضخمة، في ظلّ مناخ يعاني من شحّ الموارد المادية لقطاع التسليح، شبه مضمونة وربما تأتي على الفور.
خيار الحرب الالكترونية، قليل الكلفة للجهة المنفذة، سيعود بقوة لصدارة أسلحة المواجهة الأميركية ضدّ إيران خاصة لنجاحه النسبي بنشر فايروسات الكترونية، ستاكسنت، واعاقتها جهود تخصيب اليورانيوم في البرنامج النووي الإيراني. وربما ستلجأ واشنطن لاستهداف البنى التحتية للاقتصاد الإيراني ومنظومته العسكرية عقب تطويرها برامج أشدّ فتكا مما سبق.
في المقابل، البنى التحتية الأميركية ليست عصية على الاختراق الالكتروني، وسبق ان نسب بعضها لإيران في قرصنة أجهزة ونظم تتبع الحكومة الأميركية.
يعوّل كثير من الساسة «الواقعيين» في واشنطن على استغلال ترامب علاقاته الطيبة مع روسيا والرئيس بوتين وحمله على «الابتعاد» عن إيران على أقلّ تعديل، وفك التحالف القائم معها في أبعد الاحتمالات.
تنافس او صراع إيران وروسيا الماثل يكمن في قطاع الطاقة وحصص كلّ منهما في تصدير الغاز الطبيعي والنفط ومشتقاته لأوروبا. واشنطن تدرك جيداً تلك الناحية وستسعى جاهدة لاستغلالها لاستهداف إيران بالدرجة الأولى، عبر سياسة الجزرة لروسيا، وتقليص النفوذ الإيراني في سورية في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب.
نجحت العقوبات الأميركية على روسيا بوقف استكمال إنشاء ثلاث خطوط أنابيب لنقل الغاز الطبيعي من روسيا الى الدول الاوروبية، مما «جمّد» استثمارات روسية وأخرى تقدّر ببضعة مليارات من الدولارات.
روسيا التي تعاني من وطأة العقوبات الأميركية على اقتصادها ايضاً استطاعت التأقلم مع تداعيات تلك العقوبات، وترى في الجار الإيراني شريكاً اقتصادياً لديه سيولة مالية جاهزة بل عزز البلدان علاقاتهما العسكرية وإعادة إيران السماح للمقاتلات الروسية التحليق فوق أجوائها لمهمات قتالية في سورية.
جدير بالذكر أنّ بعض المستشارين حول ترامب في ما يخصّ علاقاته المقبلة مع روسيا وخاصة من يستمزج مشورته عن بعد وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر ناشد ترامب مراراً بالسعي الى «تطبيع العلاقات الأميركية الروسية » وجذبها نحو المحور الأوروبي الغربي وإبعادها عن الصين كي يتسنّى الاستفراد بها أميركياً. الاستراتيجية الأميركية «الثابتة» تعتبر صراعها مع تمدّد الصين في محيطها الآسيوي أولوية ينبغي مواجهتها، وترامب لا يشذّ عن تلك القاعدة، ويعتبرها «العقبة الرئيسة أمام بسط النفوذ الأميركي العالمي».
لتسليط الضوء على نفوذ كيسنجر المتنامي عند ترامب، تجدر الإشارة الى ما نشرته الصحيفة الالمانية، بيلد زايتونغ، تسريباً نهاية العام الماضي وقولها انّ كيسنجر اعدّ مسودة خطة سياسية للإدارة الجديدة تستند الى الاعتراف الرسمي الأميركي بجزيرة القرم كجزء لا يتجزأ من الأراضي الروسية، مما سيرفع تلقائياً العقوبات الاقتصادية المطبقة ضدّها في عهد الرئيس أوباما.
الفوائد الاقتصادية العائدة من «رفع العقوبات» من شأنها النهوض بأداء الاقتصاد الروسي المتعثر وانتشاله من حالة الركود الراهنة، خاصة في ظلّ تراجع عائدات النفط على الدول المنتجة له أمر لا يغيب عن بال القيادة الروسية للأخذ به شريطة استطاعة ترامب تنفيذ ذلك، أمام معارضة متجذرة داخل الكونغرس الأميركي «وثقافته» المعادية لروسيا تاريخياً.
«إسرائيل» خيار ضد إيران
دور الكيان الصهيوني في استهداف إيران وبناها التحتية لم يعد بحاجة لدلائل وبراهين، خاصة بعد انكشاف تعاونه مع الولايات المتحدة في نشر فايروس ستاكسنت، فضلاً عن جهوده في اغتيال الكفاءات العلمية الإيرانية في علوم الذرة. مارس الرئيس أوباما ضغوطاً كبيرة على نتنياهو لوقف عمليات اغتيال العلماء الإيرانيين، بعد مقتل خمسة منهم على الأقلّ، لتهيئة الظروف للتوصل لتوقيع الاتفاق النووي آنذاك.
لا يستبعد ان يصغي ترامب جيداً الى رئيس الوزراء «الاسرائيلي» الزائر، بنيامين نتنياهو بعد أيام، وتجديد مساعيهما المشتركة لاستهداف البنى التحتية للبرنامج النووي الإيراني، وتفعيل شبكات الموساد المحلية في إعاقة وتخريب المنشآت والمعدات القائمة، إضافة لنفوذها في الدول الغربية بغية تعطيل توريد المعدات التقنية لإيران.
في المقابل، يطمح نتنياهو لتحقيق ثمنٍ عالٍ من واشنطن لقاء «خدماته»، أبرزها الحصول على كمية أكبر من القذائف الصاروخية الخارقة للتحصينات «الإيرانية النووية » وزيادة أكبر في حجم الدعم الأميركي لنظام مضادّ للصواريخ الباليستية. ترامب لن يتمنّع كثيراً عن تلبية «احتياجات صديقه نتنياهو».
بعض دعاة وأنصار توظيف الخيار العسكري في واشنطن أضحوا «أكثر واقعية» في تقييم الاستمرار بالسياسة المتشدّدة نحو إيران، من عقوبات اقتصادية وحرمانها من مصادر المعدات النووية المتطوّر، ويعتبرونها أساليب قديمة استنفذت أغراضها «طبّقت جميعها في السابق وفشلت في تحقيق الأهداف المرجوة». يطالب أولئك صنّاع القرار بابتكار وسائل جديدة أشدّ فعالية، واستغلال نقطة ضعف إيران الماثلة حسب اعتقادهم في «ايديولوجيتها الاسلامية»، ايّ تعزيز النعرات المذهبية في المنطقة ضدّ إيران ، والتي ستقف حائلاً بينها وبين دعم حلفاء إقليميين قد تعوّل عليهم طهران.