منشورات «دار أصالة» للأطفال… متعة القراءة ورسائل تربوية 2
النمسا ـ طلال مرتضى
في الحلقة الأولى من هذه المهمّة الصعبة، تناولت بعضاً من كتب اليافعين والناشئة وقصصهم، الصادرة عن «دار أصالة» ـ لبنان، المتخصّصة في نشر أدب الأطفال.
وفي هذه الحلقة، أبدأ تناول سلسلة من القصص الموجّهة إلى فئة عمرية أدنى، إذ إنّ النصوص مبسّطة أكثر، والأفكار والأهداف معنيّة بأطفال ما بين خمس وثماني أو تسع سنوات كحدّ أقصى.
وقبل الولوج في تناول النصوص كقيمة أدبية إبداعية، لا بدّ من التنويه بالرسومات التي أضفت إلى هذه القصص رونقاً خاصّاً، وجدتني ـ كطفل ـ منجذباً إليها بطريقة لاشعورية.
في «محفظة النقود»… لكلّ فعل جزاء
كي نكون عادلين كلّ العدل، يجب أن نحدّد مسير الأشياء كي لا نقع في الخطأ الفادح والذي لا تُحمد عقباه.
ليس المراد من تلك المقدّمة الملغزة تغيير بوصلة الكلام، إنما أتت في غاية التصويب ليس إلّا. وهذا مروراً بما وضعنا أصابعنا فوق تفاصيله ودلالاته التي جاءت متواترة وخاطفة. لكن هذا التواتر والخطف الحركي لم يأتِ عن عبث. وعلى رغم سرعته، إلّا أنه كان أصيلاً وعلِق بالذاكرة كضربة معلّم.
قصة الكاتب صبحي سليمان «محفظة النقود» الموجّهة إلى الأطفال، أتت كَمُنبّه يرنُ في متخيّل الطفل.
وسوف أذهب نحو مدىً أبعد أتى سلوكياً على خطّ سيرها. وهنا أقصد تهذيباً للطفل، من باب: لكلّ عمل مكافأة، ولكلّ فعلٍ جزاء.
مروراً بأحداث هذه القصة التي تتواتر ببطولة طفلين وجدا محفظة نقود كبيرة. أحدهما استحوذ عليها ثمّ مزّق البطاقة التي تدلّ على اسم صاحبها، بينما الآخر استنكر الأمر ودأب في البحث عن صاحبها.
لكنّ الأوّل اعترض ممانعاً، واتجه نحو متجرٍ للملابس واشترى كمية كبيرة منها. وهذا ما لفت نظر صاحب المتجر الذي ساير الطفل وعرف منزله ثم أبلغ الشرطة عن الأمر. ويدخل الطفل في متاهة، بعدما تبيّن أن النقود مزوّرة وليست حقيقية.
ولكن، لكلّ قصة قفلة يجترعها الكاتب ليبرّر مضمر ما تركه على الورق، حين أتى المنقذ، الطفل الآخر، الذي رفض أن يشارك في تلك الجنحة، ولا أقول الجريمة، لأنها فعل قاصر، ليقول: «أنا أعرف صاحب النقود، وتلك هي بطاقته الشخصية الممزّقة».
فما كان أمام الطفل السارق سوى مواجهة نفسه باعترافٍ فجّ بعض الشيء بقوله بحسب القصة: «جَشَعي هو ما جعلني أمزّقها يا سيّدي».
هو قول الكبار، ليس تبريراً للفعلة التي حصلت، بل هي عقلية الطفل التي تسيّرها غواية التملّك.
وهنا أختم بالقول إنّ القصة تكتنز حالة توعوية بطريقة مسلكية، وفي الوقت ذاته حينما نقف على عتباتها، من البديهي أن نجده غمز ـ أي الكاتب ـ نحو الأهل، اللبنة الأولى في سلوكيات الطفل، أي أرشاده إلى طريق الأمانة، حيث بدا الفارق جليّاً بين كلام الطفلين.
ماري الخوري تبني من «أحبّ ألعابي» بيتاً!
تضعنا الكاتبة ماري الخوري في قصّتها «أحبّ ألعابي» أمام حالة نكابدها جميعاً كأباء أو أولياء أمر في البيت أو في المدارس. وهي قضية حساسة جدّاً ويجب تناولها من أماكن أكثر عمقاً. لأنّ تأثيراتها الجانبية تنعكس على تصرّفات أولادنا مدى الحياة، وهذا ما يجعل كثيرين منهم منعزلين أو منبوذين من قبل أخوتهم في البيت أو زملائهم في المدرسة.
لعلّ كثيرين منّا يمرون أمام هذه الكلمة مرور الكرام ومن دون أي مبالاة. تحت ذريعة مقولات العوام: «بكرا بيكبر وبيصير يفهم».
وهذا اعتقاد خاطئ، وبشكل قطعيّ. لأنّ الطفل يحمل معه معظم عاداته جينات موروثة فطرية ومكتسبة في آن.
تعريفاً، تقول الاختصاصية المصرية في علم النفس الدكتورة سهام حسن: «إنّ حب التملّك هو غريزة، أودعها الله في الإنسان للمحافظة على الأشياء التى يملكها، وتؤثّر على ذلك المفهوم الظروف الاجتماعية والبيئة المحيطة بالإنسان».
وتجدر الإشارة هنا، إلى أن تلك الغريزة تنحى نحو خطّين مختلفين حاملهما واحد هو حبّ التملك، يبدأ الخطّ الأول وغالبية جمهوره من الأطفال والناشئة وقد يمتد إلى آخر مشوار الحياة ويتجلّى بحبّ الطفل لألعابه وملابسه. وكثيراً ما يحاول امتلاك ما هو لدى أقرانه من الأطفال، ليتحوّل في مرحلة الشباب إلى غواية في حُب التملّك… مثل اقتناء السيارات والبيوت… إلخ.
أما الخطّ الثاني، وهو حبّ تملّك الأشخاص، كالحبّ الجنونيّ عند الرجل والغيرة المفرطة لدى المرأة، وبحسب قول الدكتورة سهام استهلالاً هو: «حبّ مبطن بالخوف والشكّ والإخضاع».
من هذا المفاز، دقَّت الكاتبة ماري الخوري ناقوس الخطر عبر القصّة التي جعلت من بطلها الطفل نموذجاً. فقد ظلّ محتفظاً بأشيائه الخاصة كالألعاب والملابس، على رغم أنّها لم تعد تناسب عمره. هنا يأتي دور الأمّ فتغيّر بوصلة تفكيره كلّياً بالتوجيه والإرشاد. وبعين العارف تُدرك أن هذه الحالة لها انعكاسها على شخصية الطفل أولاً وعلى المقرّبين منه كالأهل والأصدقاء.
لذلك بادرت إلى زرع بذرة العطاء في رأس الطفل. وعندما قامت بإشراكه بمهرجان العطاء الخيري، ليكتشف هو بعينه أن حالة العطاء والمشاركة أكثر بهجة من الاحتفاظ بأشياءٍ لم يعد يحتاج إليها.
وكانت المفاجئة عندما أهدى علبة ألوان لِطفلة صغيرة كي تلوّن بها البيت الذي سترسمه وتسكن فيه هي وجدّتها، على أمل أن يزورها حينما تنتهي!
فخّ اقتناص اللحظة الأجمل والأمتع، عندما رأى الفرح في عيون الطفلة.
«رفيق والقنفذ»… تدوين الذاكرة الأولى لدى طفلي!
لعلّها القصة الأكثر إمتاعاً، وهي التي تُوّلد وتفتّق في ذهن الطفل الأسئلة والتي من خلالها ـ وهكذا ـ يقوم ببناء المفارقات والمقاربات حينما يتلمّسها للمرّة الأولى.
قصّة الأطفال «رفيق والقنفذ» لكاتبها الدكتور أنطوان م. الشرتوني بالمشاركة مع «مركز المجال»، ليست كباقي القصص التي تعتمر الحَدَث حاملاً لها، أو أنها تعتمد المُحسِّنات السردية الشيّقة من توصيفات وإشارات… إلخ. بل أتت كما هي في واقعها المقارب لليوميّ الذي نعيشه ويتابعه أطفالنا بذهنية المكتشف الجديد «كولمبوس أوانه».
أشي هنا بأن الطفل الآن في أخطر وأهمّ مراحله العمرية، أي أنه في مرحلة تكوين مخزونيّ أساسيّ في رأسه، من حيث الصور والأفعال وغيره. تلك الأشياء التي يكتشفها أو يعيشها تشكّل اللبنة الأولى في أدراج الذاكرة. ولأنها التدوين الأوّل بالنسبة إلى ذاكرته الفارغة والتي يحرّضها عامل الاكتشاف، فمن الطبيعي أن تكون هذه التدوينات بالنسبة إليه كمرجعية.
جُلّ الحكاية تشي بأنّ «رفيق» الصغير ذهب إلى محل لبيع الحيونات، وهناك للمرّة الأولى صادف «القنفذ» في قفص.
من المتعارف إليه أنّ الطفل يمتاز بغريزة حبّ الامتلاك، ولا شيء يحدُّ هذه الغريزة، خصوصاً إذا صادف الشيء للمرّة الأولى، كالألعاب والحيوانات الأليفة، وهذا ما كان حال صديقنا الصغير «رفيق» بعد رؤية القنفذ.
لكنّه بعد أول ملامسة، عاد إلى ذاكرته الرقيقة ليفارق، لدى «القنقذ» أشواك لا كما القطة ذات الوبر الناعم، والكلب، أليس السؤال الذي طرحه الطفل «رفيق» محقاً؟ كيف سألعب معه وهو في هذه الحالة من الأشواك؟
إنها البداية السليمة والصحيحة لمشواره الفكريّ والمعرفيّ. وهنا بيت القصيد، حيث أصاب سهم الكاتب هدفه من دون مواربة أو إعاقة لتفكير الصغير، لنخلص وبحسب متخيّل الصغير «رفيق» إلى الأمر الواقع الذي يدلي بأن هناك أشياء كثيرة نودّ امتلاكها، لأننا نحبّها ونودّ مصادقتها، لكننا لا نستطيع لأسباب عدّة، منها كما حدث الآن مع «رفيق»، بأنه لم يتمكن من اللعب مع القنفذ بسبب أشواكه.
«حسّان ودنانير الإحسان»… أينما تزرع الخير فأنت حاصده
العنوان يطابق المقولة، القصة تُقرأ من عنوانها. «حسّان ودنانير الإحسان» والتي تؤدّي دلالتها إلى مضمرها من دون مواربة.
وتلك مغامرة ربما غير محمودة قد يرتكبها الكاتب عن سابق قناعة عملاً بمقولة من عرف العنوان من الناحية النقدية، وهنا أتكئ للدلالة بقول الناقدة الدكتورة نوال الحلح، في تعريفها للعنوان بأنه: «زبدة النصّ».
وهنا لا بدّ من التعريج حول ماهية إشارة التعريف أعلاه، في وقت أصبح القارئ ملولاً، والسؤال أليس من المغامرة أن نسلّمه زبدة نصّنا من دون قراءة؟ بدلالة العنوان؟
في حين ذهب رهط آخر من النقاد أمثال جيرار جينيت مبيّناً وظيفة العنوان بتصرّف، بما معناه للغواية التي تنحى بالمحصّلة نحو مأربين: الأول اصطياد القارئ، والآخر ترويج للتسويق.
تبريراً، لِكون القصة موجّهة إلى الأطفال، أشي بأن الكاتب فاضل الكعبي ذهب إلى المباشرة من دون مواربة قارئه، كي أخلص بعد القراءة المتأنية، بأنه رمى مفاتيح قصته بيد القارئ منذ العنوان الأعلى، ليس من باب الاعتباط، بل كان متمكّناً تماماً من كلّ أدواته والتي تدلي مقوّماتها بأنه فنّي ماهر في معمار القصة. حين لعب على وتر القارئ الحسّيّ كي يسقطه في شرك غوايته الذي بناه بإحكام، عندما دفع ببطل قصته الصغير كي يستجدي عابراً بأن يهبه مبلغاً من المال مقابل رهن بطاقته لحين إعادة المبلغ، لأنه مضطرّ للوصول إلى منزله لجلب مبلغٍ أكبر كي يشتري دواءً لأمّه المريضة في المستشفى. وهنا يأتي دور الرجل ليتبرّع بالمبلغ كاملاً لشراء الدواء لوالدة «حسّان» الذي كان مهذّباً، ومن دون مقابل. وعندما يصل إلى مقرّ عمله، أي الرجل، يجد أنّ مديره قد صرف له مكافاة ضُعف المبلغ الذي تبرّع به لقاء عمل ما، وهي تلك النقطة التي أراد الكاتب جرَّ قارئه إليها ليقول له إنّ فعل الخير يُرَدُّ بمثله أو أكثر.
فنّياً، تناغم بنيان القصة مع أحداثها، بلغة سهلة أقرب للمباشرة.
خروج «السيّد كايد والسمكة» عبر باب القناعة
أراد الكاتب الدكتور أنطوان م. الشرتوني مؤلف قصة «السيد كايد والسمكة» أن يغمز للأهل من مفازين مهمين اجترعهما في سياق محكيته: الخطّ الأول محسوس، وهو مدّ يد التواصل بين الطفل وبين أجداده. وهذه حالة لها انعكاساتها أيضاً على الجدّ والجدّة حيث يستعيدان من خلال حفيدهما ذكريات الأمس ويستشعران أنهما لا يزالا موضع اهتمام ورعاية.
إضافة إلى خلق حالة حميمية بروح الطفل التوّاق إلى الاكتشاف، من خلال ما يلتقطه من تجارب أجداده، كما مرّ معنا في سياق القصة التي أتت بمثابة عبرة زرعتها الجدّة الراوية في مخيّلة الطفل القابلة للزرع.
وهنا لا بدّ من القول إنّ كل التجارب والحكايات التي تروى للأطفال أو الكبار هدفها الأسمى التوجيه وأخذ العبرة. وأشير إلى أنّ الكاتب أجترع قصّته من باب المقولة الشعبية «القناعة كنز لا يفنى»، أو نحى نحو المثل الإنكليزي «نصف رغيف أفضل من لا شيء… Half a loaf is better than none». وهذا ينطبق تماماً على «السيد كايد» الصياد بطل القصّة حين اصطاد سمكة كبيرة جدّاً ولم يستطع إيصالها إلى بيته الذي يقبع في أعلى الجبل من الغابة الكبيرة. وعلى رغم قناعته بأنه لن يستطيع حملها إلى هناك، إلّا أنّه أصرّ على إتمام المهمة من باب العناد أوّلاً ومن باب البخل ثانياً. ورفض طلب عجوز لِقطعة صغيرة تسدّ بها رمقها، وكذلك جاره الذي لم يجد سمكاً في المتجر، كما تكرّر الأمر مع أخيه الفقير… إلخ. ليقع في المحظور في منتصف الطريق حين شمّت دببة الغابة رائحة السمكة، لتأتي مسرعة، فدبَّ الذعر في قلب «كايد» الصياد ليترك السمكة هارباً نادماً، ولتكن وجبة دسمة للدببة… ما كان الضير لو أعطى أخيه أو جاره أو العجوز قطعة؟ لو كان فعل ذلك لاستطاع الهروب بحصة جيدة يتلذّذ بها!
فنياً، أتت فعالية السرد مترابطة لكنها سريعة، إذ إنّ مثل هذه الحكايات تحتاج شيئاً من الهدأة لترسخ صورها في رأس الطفل. لا أن تأتي مثل شريط أخبار عاجل.