التنمية الغربيّة المنتشية أسطورة مجنونة وهذيان مجرّد
جورج كعدي
تخلّف المجتمعات ليس ناتجاً من الفقر وعدم التطوّر فحسب، بل من فرض عنيف لنموذج «تقدّم» غربيّ، خارج الشروط التاريخيّة والثقافيّة والتقنيّة، وهو بالتالي نموذج مجرّد ومفروض من الخارج، تقني بيروقراطيّ لا يرى سوى الآلة الصناعيّة ولا يرى الإنسان البتّة، فثقافة هذا الإنسان الأوّلية غير قادرة على التكيّف مع عالم تقنيّ موضوع تحت ضغط القياس الزمنيّ. وفي الوقت عينه، يعتبر تنامي التخلّف في مدن الصفيح وتنامي الهجرة والانفصال عن الثقافة لدى ملايين الأفارقة والآسيويّين والجنوب أميركيين النتيجة المباشرة أو غير المباشرة لتطوّر مناطق صناعيّة متقدّمة. فالتقدّم ذاته الذي يتحقّق داخل تلك المناطق الصناعيّة المتقدمة، لا ينتج البحبوحة والعيش السعيد فحسب، إنّما ينتج على نحو متزايد الضيق والسأم. ثمّة ضجيج وتلوّث تكنو ـ بيروقراطي يجثم على حياة كلّ فرد، فضلاً عن الفقر النفسيّ والأخلاقي والعقليّ في حياة ملايين سكان المدن في الغرب المستسلمين لأنانيتهم الفردية وتشنّجهم الماديّ هوسهم بالمال ، في إطار من التشرذم الحضاريّ والتعاسة المتزايدة والانطواء على الممتلكات، مع التطلّع المتنامي إلى التحرّر الشخصيّ والسعادة. كلّ تنمية تحمل في عمقها تخلّفاً، أي أنّ تقدّمها يحمل معه تقهقراً. فكرة التنمية، تحت شكلها المبسّط والمنتشي، الاقتصاديّ والتكنولوجيّ، أسطورة مجنونة أنتجها الفكر التكنو ـ بيروقراطيّ. الهذيان المجرّد يقدّم نفسه في هيئة تصوّر عقليّ!
نعيش في كوكب محكوم بالارتجاج والتشتّت والفوضى. أيّ نظام يفترض العمل من نظام النجوم إلى نظام الكائنات الحيّة ينتج فوضاه الذاتيّة التي يناضل ضدّها باستمرار لإعادة تنظيم نفسه، لكنّ الفوضى تنتصر في النهاية وتُنتج الموت. هكذا النجوم، مثل الكائنات، صائرة إلى الموت. وكل تقدّم هو جزئيّ، محلّي، موقّت، وفوق ذلك يُنتج الانحطاط والفوضى، أي التراجع. يمكن النظر إلى تطوّر البيولوجيا على أنّه تطوّر تمّ انطلاقاً من كائن حيّ عتيق وحيد الخليّة. لكنّ ثمن هذا التقدّم هو انقراض أصناف كائنات يفوق عددها ألوف المرّات الأصناف المصارعة لأجل البقاء اليوم. كلّ جهاز عضويّ يستمرّ في الحياة، لا بفضل الحياة فحسب، بل كذلك بفضل الموت، أي عمليّة تجدّد خلاياه. وكلّ مجتمع يعيش، لا بفضل حياة أفراده فحسب، بل كذلك بفضل موتهم. لا وجود لتقدّم تحقّق على نحو تام ونهائيّ، وما من تقدّم ليس سوى تقدّم، ولا تقدّم من دون ظلّ. كلّ تقدّم مهدّد بالانحطاط ويحمل في ذاته العمليّة الدراماتيكيّة المزدوجة للتقدّم والتقهقر.
التقدّم هو إذن وجه متقلّب من وجوه الصيرورة. أُهمل مثلاً ظلّ التنمية الصناعية، وأغفل أنّ منتجات تفريغ التقدّم يمكن أن تتنامى وتغدو منتجات أساسيّة فتصير مسألة القضاء عليها أصعب، في حين أنّ المنتجات الأساسية النافعة يمكن أن تتقلّص لتغدو منتجات ثانويّة. ولا يتمّ ذلك في فلك التأثيرات الخارجيّة للتنمية الصناعيّة فحسب تلوّث، أضرار، تدهور بيئيّ… بل داخل الحياة اليوميّة أيضاً الامتيازات المحرِّرة للحياة الحضارية وتنامي الخيرات المتوافرة لطالما تمّ تعويضها أكثر فأكثر ببتر الحياة الخاصة وفقدان التضامن وتشرذم الأفراد وخضوع الأجساد والأذهان لوتيرة منتظمة ولمعايير نظام آليّ… . كان النموّ/التقدّم عبارة عن عملية تسريع من دون رقابة أو معيار، وكان نموّاً موكلاً بتنظيم العلاقات الاجتماعية التي بات يُخضعها على نحو متزايد لاختلالاته. من الواضح أن التطوّر التقنيّ ينطوي على انحطاطات خاصة ويُنتجها. فالفكر التكنوقراطيّ لا يتصوّر ما هو حيّ أنتروبولوجيّاً واجتماعيّاً إلاّ وفق منطق تبسيطيّ للآلات الصناعيّة، والكفاءة التكنوقراطيّة هي كفاءة الخبير الذي ينطوي عماه الشامل على وضوح خاص. تصلح التقنيّة للأفضل مثلما يمكن أن تصلح للأسوأ، ولكونها تحت رقابة سلطات الدول والإمبراطوريّات وتوجيهها وتنظيمها تصير في خدمة الاستعباد والموت. يمكنها منذ الآن إبادة الإنسانيّة في حين أن وعودها الجميلة و«المحرِّرة» تتلاشى في الأفق.
تنطوي العلوم أثناء تطوّرها على تقهقرات تُظهر غطرسة الفكر التكنو ـ بيروقراطيّ. علينا رؤية الوحشيّة التي أنتجها التقدّم نفسه. يمكن القول إنّ الأشكال الجديدة الوحشيّة، المترتّبة على حضارتنا، لم تفشل في تقليص الأشكال القديمة للبربريّة، بل أيقظتها واقترنت بها. تبلور شكل جديد من الوحشيّة مُعَقْلِن، تكنولوجيّ، عمليّ… تحكم عالمنا المعاصر وحشيّة الهيمنة البوليسيّة/العسكريّة، والوحشيّة التقنيّة، والوحشيّة البيروقراطيّة. والاقتران الحاصل بين الوحشيّات هذه يفتح المستقبل على احتمالات العبوديّة والإبادة المعمّمة، إذ تستطيع سلطات الدولة اليوم إبادة الكوكب، ويسعها التصرّف في الحياة عليه غداً وتغيير الطبيعة وإخضاع النفس البشريّة.
أدرك ماركوز أن حضارتنا الصناعيّة تغذّي في داخلها تحطيمها الذاتيّ. وقبله تبيّن لوالتر بنجامن أنّ كلّ تنمية تعيشها حضارة ما تنطوي على عكسها، أو على أساس وحشيّ. ورأى فرويد أنّ تنمية الحياة المتحضّرة، بكبتها وكبحها وحشيّتنا العقليّة ورميها في أعماق سحيقة تساهم في ترسّبها وتراكمها في الأعماق حتّى بلوغها عتبة متوتّرة قد يحصل عندها انفجارها. المسارات كلّها التي انطلقت بسرعة كبيرة وتنام ضخم في عصرنا تقود، إذا استمرّت بوتيرتها الراهنة، إلى الكارثة والرعب والهيمنة الفائقة. نقرأ في كتاب «مستقبل الحياة» قولاً للعالم تنيبرغن المتخصّص في دراسة سلوك الحيوانات «إن لم نغيّر طريقنا فالفناء مصيرنا».
الخوف المتبادل بين الدول العملاقة أضحى بالفعل الرقيب الواقعيّ الذي أجّل إلى الآن وقوع الحرب العالميّة الثالثة. والإبادة الممكنة للإنسانيّة تكبح ذاتها وتمنع التهديمات الجزئيّة من أن تتّخذ طابعاً شموليّاً. دخلت الحرب في أزمة حين جرّدتها تقنيات الإبادة المتكاثرة من كلّ معنى. بيد أنّ ذلك لا يعني أنّ الجنون لن ينتصر… يتبع