بصمة فارسة في عراك الحق

نبيل المقدم

قومي من سباتك الأبدي يا سيدة الحضور الآسر. روّاد ومريدو منتداك الثقافي ينتظرون مناقشة كتاب وسماع أبيات من الشعر.

أبكرت الرحيل يا مي. ظالمة هذه الحياة تخطف منا أشخاصاً وهم في عز العطاء!

يقول مَن كان إلى جانبك في ساعاتك الأخيرة أن عينيك لم تفقد بريقها، رغم اشتداد المرض، وأنهما ظلتا تشعّان بالحزم وتنطقان بالرغبة في استنهاض شعلة الصراع في النفوس من أجل غد أفضل، وأنّ بحّة صوتك بقيت شجية حتى النهاية تبعث الأمل بأنّ الورود التي زرعتها في حديقتك الفكرية لن تتبعثر وتذبل، لأنها سُقيت بحبر القلب.

حكايتك يا مَي مع الحياة ليست عابرة. أنتِ تربيت في بيت نذر نفسه لزغاريد النصر الآتي. تعلّمتِ من والدك الذي تعلّم من أنطون سعاده كيف تكون وقفات العز.

وأنّ الثقافة سلاح لا غنى عنه من أجل تحقيق الغاية الأسمى. وهي انتصار قيم الحق والخير والجمال.

في منتداك الثقافي استضفتنا قبل أشهر عدة في ندوة حول كتابي «وجوه وأسرار من الحرب اللبنانية». دفء المكان عندك وحرارة الاستقبال واهتمام الحاضرين كان يوحي بأنك فارسة من الطراز الرفيع. ماهرة في اجتياز العوائق كلها من أجل إرساء مفهوم جديد للثقافة. ثقافة تستمدّ مواهبها من روح الأمة وتنثر إبداعاتها في أرجاء الكون.

يا مَي السرطان الذي نهش في جسمك ولم يرحمه، لم يُخِفْكِ. بل كيف يخيفك وأنت التي بقيت طوال حياتك تتحدّين السرطان الأخطر والأشدّ فتكاً، والذي يحاول أن يأكل روح الأمة وقلبها. وهو سرطان الجهل والطائفية؟

يا مي كثيرون بكوا في وداعك. وأنتِ التي كنتِ تحبسين دمعك في وداع الشهداء. ربما من تعلّم منك أن لا يبكي في اللحظات الصعبة وأن يوفّر دموعه للفرح الآتي على صهوة النصر خانته اللحظة. وكيف لا تخونُه وهو يقف في وداع مناضلة كانت تحمل هذا الحبّ كله وتزخر بهذا الكمّ من العطاء؟!

كثيرون منا يرحلون، وبالكاد ترى لهم بصمة في معترك الحق. يكتفون بالجعجعة

والتنظير عن بُعد. يعيشون من دون أن يعرفوا معنى الحياة الجديدة!

بصمتك يا مي يا ابنة الكورة الخضراء. كورة الشهداء والمثقفين والمناضلين الأوفياء لمعتقدهم، ستبقى معالمها واضحة، محفورة في كتاب المعرفة، تزهر في نفس كلّ باحث عن الحداثة الحقيقية غير المزيّفة والتي عبّرت عنها أوضح تعبير في كتاباتك الرائعة وأشعارك الملوّنة بفرح الحياة.

يا مَي وأنت في عليائك انظري إلينا. اسألينا باستمرار عن آخر إنتاجنا الأدبي والفكري. حثينا على المزيد من العطاء. كما كنت تفعلين دائماً. لا تهادني المقصّرين، ولا تتسامحي مع الذين تعبوا في منتصف الطريق. وذهبوا ليرتاحوا في مناخات أخرى لا تشبه أفكارنا بشيء، ومع ذلك هم يطلون علينا كلّ يوم محاولين إقناعنا بأنّ انحرافاتهم الفكرية هي الصواب بعينه.

لك منا تحية الوداع… والذي سيعقبه لقاء.

كاتب وصحافي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى