المطران كبوجي مقاوم توحّدت فيه الأمة
أسامة همداني
«الرجلُ الكبير لا ينتهي بمأتم: فللرجالِ صفاتٌ، للرجال ألقابٌ تُطلقُ عليهم، تُلصقُ بهم وتُميّزُهم عن غيرِهم من العاملين في الحقل الاجتماعيّ، أو الدينيّ واللاهوتيّ، أو الأكاديميّ، أو المهنيّ، أو السياسيّ، أو النضاليّ، أو حتّى العسكريّ.
«لنّ أقف في منتصف الطريق ولنّ أهدأ حتّى تُدَقّ أجراس العودة… ونحنُ عائدون». هذه كلماتك أيها المطران المقاوم، هذا إيمانُك، هذا أملُك، وهذا ما ناضلتَ لأجلِهِ طوال حياتك.
وطنُك السوريّ، أيّها الراحل الأبيّ، كان سبّاقاً في منحِك صفة «المطران المقاوم».
علمانيٌّ ثابتٌ في الحياة، سنديانةُ حقٍّ وخيرٍ وجمالٍ في الممات.
من مدينةِ حلبِ الشهباء أتيتَ، وإلى القدسِ العصماء انتميتَ.
كنيستُك، رأت فيك «إبنَ الرعيّة»… والرعيّة رأت فيك «أبَ القضيّة».
تلاميذُك باللاهوت، عايشوك «مثلاً أعلى»… وكلّ منّ عرفك… عشِقَكَ.
عائلتُك الكبيرة المتواضعة، تعلّقت بك عبيراً ورونقاً… فكنتَ لهم منارةً وأملاً.
أبعدوك عن فِلسطينَ التي انغرستَ فيها جذوراً،.. ولذلك بقيتَ فيها أبداً وسرمداً.
وطنُك انتظرَك… فعُدتَ إليهِ جسداً بالياً… وروحُك النقيّة ارتقت عالياً عالياً… في سمائه.
نعم… نعم… «فالذي يسقطُ في العراكِ غيرَ مُستسْلِمٍ، قدّ يكونَ غُلِبْ، لكنّه لمّ يُقْهَرْ».
فقيدُنا، ذاك الكبير العظيم من خلف الستارة، ذاك البطل الشهم، وأنت أشهرُ بكثير منّ أنّ تُعرَّفَ برثاءٍ أو بذكرى أو بتكريمٍ. في حضرتك تعجَزُ الكلماتُ ويخرسُ القلم.ُ
طيلةُ سبعةَ عقودِ من النضال القوميّ ضدّ الصهيونيّة العنصريّة الغاصبة لأرض شامخة ولشعب أبيٍّ لم يركعَ يوماً، عرَّفَ المطران كبوجي عن نفسِه وعن إيمانه القوميّ الاجتماعيّ الشموليّ وعن وطنِه الأمّ، عبر خِدمتِه المميّزة لأرضِه وشعبِه من دون ورعٍ ولا كللٍ، وقبل ذلك، بِحُسنِ معشرِه أيّام الصبا والشباب في مسقط رأسه حلب، فعرفه من التقاه يوماً من دماثة أخلاقه، ورقيّ شخصيّته كيفما حلّ وأينما وُجِد ومهما نطقَ.
ممشوقُ القامةِ، بهيُّ الخَلقِ، كريمُ النفسِ… ابن الحياة في مدرسة العزّ والشموخ والعطاء.
غريبٌ هذا الوطن، عجيبٌ أمْرَهُ!
بوداعِ المطران المقاوم، توحّدت قلوبنا بفقدانه ورحيله، وكأنّ المآسيَ شرط ٌ لتلاقي أبناء الوطن الواحد.
من أقصى الشمال إلى الشرق والغرب والجنوب السوريّ، عرفَهُ كلّ الذين لم يلتقوه قبل الرحيل وكأنّهم رافقوهُ خطوةً خطوةً قي مسيرته النضاليّة النهضويّة الطويلة.
عيناك البرّاقتان يا أيّها المطران الجليل المتواضع،.. يا صاحب الوجه الذي يفيضُ بشاشةً وتواضعاً وسُمُوّاً وصدقاً وإخلاصاً لإيمانِك الحضاريّ الإنسانيّ.
ها نحن منّ كلّ بقاع المعمورة نحيّي ذكراكَ وفاءً لمقامِك المبجّلِ ومن صميمِ القلب، من حضورٍ كريمٍ شموليٍّ احتوى صغيرَنا وكبيرَنا من الشام وفلسطين ولبنان والعراق والأردن، وهيهات أنّ يُنْسَى تكريمٌ كهذا أو أنّ تمحوَهُ السنوات. فكما المسيح الناصريّ السوريّ صُلِبَ لخلاصِ الإنسانيّة جمعاء، قدّمْتَ ذاتك يا مطران القُدسَ الأبيّ، فِدى قضيّة إنسانيّة سامية وضميريّة، اسمُها فلسطين، ولا غير فلسطين.
«مقاومة، تحرير، عودة»… أقانيمُ مقدّسةٍ اعتمدتُها أنت لتصبِحَ ثالوثك الربّاني الثاني. أنتَ فِلسطينُ وفِلسطينُ أنتَ.
ماذا نقولُ عنكَ، وهلّ هناك من كلامٍ كافٍ ووافٍ بالحقّ إنصافاً؟
في زمن الأوجاع، ونزيف الوطن، كم الضمير بحاجةٍ إليك والى أمثالك من المناقبيّين المُنتِجين.
مُميّزٌ وطنُنا بوفائك له، هو فخورٌ بك، وبترابه الذي التحفك، أنت خالدٌ!
بقيتَ مقهوراً على فلسطين المحتلة… كلّ شبرٍ منّ فلسطين غير منتقصة البتّة ….
سادَ قلبَك الألمُ في غضون الحرب الأهليّة العبثيّة في لبنان وما يعانيه العراق من مصابٍ دمويّ، وما تعانيه الشآم من خرابٍ للأرض وقهرٍ للعباد، لكنّ حبَّك للوطن لم ينكفئ للحظةٍ واحدةٍ ولوّ كُنتَ في أقاصي المنفى ومهما تقدّم بك العمرَ والسُنونَ.
فالأنظمة فى وطنِك مريضةٌ، الطائفيّة متفشّيةٌ، المذهبيّة تنتهشُ الأحشاء، العشائريّة تنمو والتبعيّة مزدهرة، العلمانيّة قدّ اندحرت، والسياسيّون أبدعوا ذلاً حاكمين، والشعب يذعن!
يُسْرَقُ مَنْ يُسْرَقُ، ولا يُعْرَفُ السارقْ. يُقتلُ مَنْ يُقتلُ، ولا يوجدُ قاتلُ.
رسالةٌ لأعداء الداخل والخارج سويّة، الذينَ خالَهُمُ الظنّ بأنّهم قضوا عليك مطراناً مقاوماً:
خسِئْتُم …… خسِئْتُم !
«إنّ الذين يظنّون أنّهم بالطغيان يذلّون شعباً بكاملهِ ويُسَيِّرونَه لأغراضِهم الخصوصيّة،
سيَسْقِطونَ بالسلاحِ عينِه الذي أعدّوه للشعب».
صدق شاعرٌ نهضويٌّ مُتَرَنِّماً:
«لا تقلْ ماتَ فما ماتَ الشهيدُ
إنّما الميّْتَ شعبٌ كالعبيد
ساقَهُ الجزّارُ يبغي ذبْحَهُ
فحنى العُنقَ وأعطاهُ الوريد
يا شهيداً لم يذِقْ طعمَ الردى
قبل أن فتَّحَ أبوابَ الخلود
كلُّ جُرحٍ سائلٍ منكَ فِدى
موطِنِ الأحرارِ، سورية نشيد!»
وأنت المطران المميّز هيلاريون كّبوجي… القوميّ الذي دفعته مبادئه أنّ لا يُهادِنَ ولا يساومَ ولا يخافَ السجونِ ولا يهابَ المنفى البعيدِ… آمنتَ بفخر وصلابةٍ بأنّ:
«الأفراد في المجتمع يأتون ويذهبون ويكملون آجالهم ويتساقطون… ولكنّ الحقّ لا يذهب معهم، بل يبقى لأنّ الحقّ إنسانيّ… فهو يبقى بالمجتمعِ وفيهِ».
نذكُرُكَ بكلماتٍ كانت هي الأحبَّ إلى قلبِكَ… مصوغةً من صديقِك ورفيقِك الدمشقيّ الشاعر نذير العظمة مُرَندِحاً:
«قلّْ للذي جحّدَ البلادَ، وعقّها وتنكّرا ومضى يندِّدُ بالفسادِ، مهوِّلا ومُكَبِّرا
والخيرُ كلّ الخيرِ، في غير البلادِ كما يرى إنّ الكرامةَ في بلادي، لا تُباع وتُشترى!
قلّ للذي جحّد الترابَ، وعقّهُ أوّ حقّرا متطلِّعاً صوبَ السما، إنّ الأصالةَ في الثرى
إنّ الحياةَ وخيرَها، منْ فوقٍ لنّ تتحدّرا الخيرُ كلّ الخيرِ، في هذا الترابِ المُزدرى!»
لكلّ حصانٍ كبوةٌ، وغيابُك يا مطران القدس الأجلّ هو كبوةٌ لفلسطين… وللشام… للضمير… وللحرّية… للواجب… للمجتمع… وللإنسان.
إنّها سُنّة الحياة وبها يترجّل فرسانُنا، يرتقون للعُلى… يُخلّدونَ… يُحتذَى بهمِ…
ولنّ يبقى منْ بعدِهمِ… إلاّ العقيدةُ الأسمى التي آمنوا بها… والأمّةُ الأحلى التي أحبّوها!
ألقيت في الاحتفال الذي نظمته الجالية العربية ـ الأميركية في جنوب كاليفورنيا تكريماً للمطران الراحل هيلاريون كبوجي.