جنيف يبدأ باهتاً بسقوف منخفضة بسبب التردّد الأميركي والتلكؤ التركي الاحتقان الاجتماعي يسبق قانون الانتخاب وحماية المصارف تؤخّر الموازنة
كتب المحرّر السياسي
أنهى مؤتمر طهران لدعم الانتفاضة الفلسطينية أعماله بمشاركة عدد من رؤساء البرلمانات العربية والإسلامية وشخصيّات حقوقية ودينية عالمية، وتمثيل جامع للفصائل الفلسطينية، وخرج البيان الختامي بتأكيد المكانة المحورية للقضية الفلسطينية في الوجدان الإنسانيّ وفي صناعة الاستقرار والأمن معاً. وشدّد البيان على دعم المقاومة والفصائل الفلسطينية والدعوة لتوحيد جهودها في مواجهة الاحتلال، مسجّلاً تبنّي توصية رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري بالدعوة لإقفال السفارات العربية والإسلامية في واشنطن في حال قيامها بنقل سفارتها لدى كيان الاحتلال من تل أبيب إلى القدس، ما يشكّل الثمرة السياسيّة الأهم للمؤتمر برسالة ردع يُنتظر أن تتفاعل على مستوى النخب العربية والشارع العربي والفلسطيني، وأن يُقام لها الحساب السياسي والإعلامي أميركياً لصدورها عن شخصية بوزن رئيس المجلس النيابي اللبناني، بحضور رؤساء مجالس نواب وشورى في العراق وسورية وعمّان ووفود نيابية من عدد آخر من البلدان العربية والإسلامية ومراجع دينية ذات مكانة في العالم الإسلامي.
على ضفة موازية كانت العلاقات الإيرانية التركية تسجّل تصعيداً لافتاً، يدلّ على العجز للمرة الأولى عن احتواء الأزمة الناتجة عن تباينات، يبدو أنها تخطّت سابقاتها، مع حديث تركيا المتناغم مع السعودية وأميركا و»إسرائيل»، باعتبار إيران مصدراً لزعزعة الاستقرار في المنطقة. وهذا الحديث التركي المكرّر مرات عديدة بإصرار خلال الأسبوع الماضي، يعبّر وفقاً لمصادر دبلوماسية إيرانية عن خيار تركي جديد، معاكس لخيارها الذي عبّر عنه اجتماع موسكو، وما أعقبه من انطلاق لمسار أستانة الخاص بالتهدئة في سورية، ويفسّر الغياب الوازن لتركيا عن اللقاء الأخير في أستانة، كما يفسّر عدم توقيع ممثلها على البيان الختامي الداعي لوقف التمويل وإمداد السلاح والرجال لجبهة النصرة عبر الحدود مع سورية، ويُعيد العلاقة مع تركيا إلى مرحلة ما قبل معارك حلب.
هذا التموضع التركي الجديد ظهر بالغموض المحيط بالتوقّعات من محادثات جنيف، وحديث المعنيّين عن سقوف منخفضة للتوقعات، كما قال المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، وسط سعي روسي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه والاكتفاء بفتح كوّة في جدار تمثيل المعارضة التي نجحت موسكو بكسر احتكارها من جماعة مؤتمر الرياض، في ظل غياب أميركي سياسي فاعل، رغم المشاركة بوفد دبلوماسي في المؤتمر، ليبدو المؤتمر باهتاً، ومجرد محطة انتظار حتى يتّضح مستقبل التعاون الروسيّ الأميركي وفرصه التي لا تزال تبدو متأخّرة وبعيدة، ما يجعل الكلمة مرة أخرى لميادين القتال، أسوة بما جرى مع تجميد واشنطن للتفاهم الروسيّ الأميركيّ قبيل معركة حلب.
لبنانياً، يبدو قانون الانتخاب الجديد قد تراجع عن المكانة الأولى لصناعة الحدث السياسي اليومي، مع تأقلم الفرقاء المعنيين مع معادلة أن مهلتهم مفتوحة لإنتاج القانون الجديد حتى اليوم الأخير من ولاية المجلس الحالي الممددة، واسترخاء ورش البحث عن توافقات سريعة بعدما انقضت مهلة توقيع مرسوم الهيئات الناخبة أول أمس، من دون توقيع رئيس الجمهورية له، وصار الأمر مقضياً.
تحتلّ القضايا المعيشية مكان قانون الانتخاب مع الحراك المطلبي الذي افتتحته هيئة التنسيق النقابية ويتابعه قطاع المعلمين وسط نقاش شائك في الحكومة حول مشروع الموازنة، يطال في شق منه الضرائب الجديدة وإعادة تقييمها ومدى تأثيرها على القطاعات الشعبية. وفي شق مقابل يبدو النقاش معقداً مع وقوف رئيس الحكومة في خط الدفاع عن المصارف بوجه الضرائب التي تضمّنتها الموازنة على أرباحها رغم محدوديتها، ما يفتح الباب مع ظهور دعوات لفصل سلسلة الرتب والرواتب عن الموازنة وربطها بالموازنة المقبلة، لتصاعد الحراك الاجتماعي والمطلبي في الشارع وتصدره واجهة الأحداث.
الموازنة: موارد جديدة والسلسلة إلى المجلس
بينما وصلت مفاوضات اللجنة الرباعية الى طريق مسدود بشأن قانون الانتخاب، وتسود حالة من الركود تمهيداً لجولة جديدة، كما عبّر أحد أركانها النائب علي فياض أمس، حيث طغت مناقشات الموازنة والانقسام حيالها على المشهد الداخلي مع عودة التحرّكات المطلبية في الشارع.
وواصل مجلس الوزراء مناقشة بنود الموازنة وسلسلة الرتب والرواتب وفي كل الملفات المدرجة ضمن الموازنة وقيد الإدراج في جلسة عقدها أمس، برئاسة رئيس الحكومة سعد الحريري في السراي الحكومي. وقال وزير المال علي حسن خليل عقب انتهاء الجلسة: «بدأنا مناقشة قوانين البرامج والمواد القانونية للسلسلة وقطعنا شوطاً مهماً وغداً اليوم سنعقد لقاءات تحضيرية قبل الجلسة». وأكد خليل، من بعبدا بعد لقائه الرئيس ميشال عون أن «لا نية لفرض ضرائب على الطبقة الفقيرة وذوي الدخل المحدود»، مشدداً على أن «رئيس الجمهورية مصرّ على إقرار الموازنة». وقال «هناك ضرائب تصيب أماكن جديدة، وتساهم في تصحيح الخلل الضرائبي الموجود، ولا تؤثر إطلاقاً على مصالح الناس وحياتها».
وأكد وزير الإعلام ملحم الرياشي بعد الجلسة التي استمرّت حتى الثامنة مساء، أن «النقاش إيجابي جداً وهناك إصرار من مجلس الوزراء على حماية مالية الدولة من إيرادات ونفقات، كذلك حماية حقوق المواطنين من دون أي استثناء». وأضاف: «وضع الدولة ليس سهلاً في هذا الظرف، خصوصاً بعد 12 سنة على عدم وجود موازنة، والأمر يحتاج الى طول بال وصبر، وكل الأمور ستُحلّ وأن المناقشات لن تنتهي في جلسة الغد، لأن النقاش طويل، ولكنه علمي وإيجابي جداً».
ولم تحسم بعد مسألة إدراج سلسلة الرتب والرواتب ضمن الموازنة أو عدمه، في حين استبعد وزراء إقرار الموازنة في جلسة اليوم، لكن مصادر وزارية أشارت لـ«البناء» إلى أن «الاتجاه في مجلس الوزراء هو إقرار السلسلة ضمن احتياط مشروع الموازنة وإحالتها الى المجلس النيابي ليتولّى تقسيمها وتحديد كيفية صرفها والمستفيدين منها».
وناقش المجلس بنود الإنفاق في مشروع الموازنة بنداً بنداً وموازنة كل وزارة ووصل الى موازنة وزارة الطاقة، بحسب ما علمت «البناء» وطرح في المقابل «كيفية تأمين الواردات لتغطية نفقات الموازنة، وبالتالي طُرحت موارد جديدة عدة، منها فرض ضرائب على الأملاك البحرية التي ترفد الخزينة بمليار دولار، إعادة مرسوم المينا الى الدولة وليس الى هيئة المينا والذي يؤمن 300 مليون دولار، إحلال المباني المستأجرة من قبل الدولة والبحث عن أرض للدولة وبناء عليها مبانٍ بدلاً من دفع كلفة إيجار ما يوفر على الدولة 208 ملايين دولار كبدل إيجارات، وحتى ذلك الوقت سيتمّ التفاوض مع أصحاب الأملاك لتخفيض بدل الإيجار».
ونفت المصادر الوزارية «فرض ضرائب جديدة تطال ذوي الدخل المحدود باستثناء الضريبة على القيمة المضافة 1 في المئة، لكنها لا تشمل المواد الأولية والأساسية، أما ضريبة الدخل فهي على الشركات وليس على الأفراد»، ولفتت الى أن «المجلس في جلسة اليوم سيتابع البحث في الإنفاق ومصادر جديدة للواردات. واستبعدت المصادر إقرار الموازنة اليوم، مرجحة إقرارها الاسبوع المقبل بعد جلسات متتالية».
وعلمت «البناء» أن «رئيس الحكومة ووزراء المستقبل اعترضوا على سلّة الضرائب الجديدة في مشروع الموازنة على قطاعَيْ العقارات والمصارف، وطالبوا بإجراء تعديلات عليها، لكن وزراء رئيس الجمهورية وحزب الله ووزير المال رفضوا ذلك».
.. واعتصام لهيئة التنسيق
وفي موازاة ذلك، نفّذت «هيئة التنسيق النقابية» اعتصاماً حاشداً في وسط بيروت، تزامناً مع انعقاد جلسة مجلس الوزراء، وذلك للمطالبة بإقرار سلسلة الرتب والرواتب.
ودعت الهيئة إلى تمويل السلسلة «من مصادر لا ترهق كاهل المواطنين، وعبر استئصال الفساد من المطار والمرفأ والكهرباء والأملاك البحرية والنهرية والاتصالات والتلزيمات بالتراضي والمصارف والإصلاح الإداري قبل الوصول إلى نقطة اللاعودة».
وحذّرت مجلس الوزراء «إذا لم يتعاطَ إيجاباً اليوم أو غداً مع هذه الصرخة، فحشود اليوم ستعقد جمعيات عمومية في أنحاء لبنان وسنلجأ إلى خطوات سلبية كبيرة. وأنتم أيها المسؤولون ستتحمّلون مسؤولية العام الدراسي والانتخابات النيابية آتية وسنحاسبكم».
وجمعية المصارف في السراي
وحطّت جمعية المصارف برئاسة جوزيف طربيه في السراي الحكومي، وبحثت مع الرئيس الحريري في التشريعات الضريبية. وأكد طربيه أن «لا يمكن أن نتكلّم عن جبايات ضريبية إضافية من دون إصلاحات، والدولة كلها لديها قناعة بأنها بحاجة إلى إصلاحات». وأكد أن «المصارف هي «أمّ الصبي» التي حمت الاقتصاد وحملت همومه، وهي التي موّلت الدولة ولا تزال».
مرونة جنبلاطية حيال المختلط
أما على صعيد مشاريع قوانين الانتخاب، فلا جديد سوى مرونة، أبداها رئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط حيال صيغ المختلط. ولفت النائب أكرم شهيب في تصريح إلى «أننا قلنا لنزاوج بين الأكثري والنسبي وتسهيلاً لإجراء الانتخابات فقدمنا أفكاراً جيدة الى رئيس مجلس النواب نبيه بري للوصول الى قانون انتخاب يرضي الجميع، في حال كان هناك رغبة جدية على التوافق على قانون انتخاب جديد»، مؤكداً أن «أفكارنا لا تلغي أحداً في البلاد ونحن منفتحون للنقاش». وأكد أن «ليس الهدف من اقتراحنا إرضاء المنطقة بل تأمين التوازن والعدالة».
وقالت مصادر مطلعة لـ«البناء» إنه «وبعد المناقشات واللقاءات التي حصلت في قانون الانتخاب، ظهر بوضوح أن تيار المستقبل يتهرّب من إجراء الانتخابات كما من إقرار قانون جديد عادل، وكل الإحصاءات التي أجراها أظهرت خسارته مقاعد عدة وفق معظم الصيغ الانتخابية، لذلك يعمد الى اجهاض الصيغ كافة التي طرحت من خلال اختلاق الحجج والعلل فيها».
وتحدّثت المصادر عن مرونة لدى جنبلاط حيال إحدى صيغ المختلط، بعد أن وافق التيار الوطني الحر على اعتماد الشوف وعاليه دائرة انتخابية واحدة في أي صيغة، لكن هناك بعض المطالب الأخرى لجنبلاط يجري البحث فيها، لافتة الى أن «توزيع التمثيل بين الحزب الاشتراكي والحزب الديموقراطي وحزب التوحيد وغيرها من الأحزاب، لا يشكّل خطراً على الدروز بل يُعتبر ضمانة لهم ويحقق الاستقرار في الطائفة وكل طرف يأخذ حقه وحجمه الطبيعي».
وقالت مصادر في التيار الوطني الحر لـ«البناء» إن «رئيس التيّار جبران باسيل قدّم أكثر من صيغة انتخابية وتم رفضها من الطرف الآخر»، وتساءلت لماذا لا يُقدِّم الطرف المعارض لصيغنا اقتراحات جديدة للنقاش؟ ولفتت المصادر الى أن «رئيس الجمهورية العماد ميشال عون يريد إقرار قانون اليوم قبل الغد، ولن يستطيع الآخرون إحراجه بالفراغ النيابي، لأن عون وحزب الله قبلا الفراغ في الرئاسة الأولى حتى أتى رئيس يمثل اللبنانيين وكذلك سيأتي المجلس الجديد من وحي إرادة الشعب اللبناني».
وأضافت المصادر أنه «إذا لم يُصَر الى إقرار قانون جديد يحدث تغييراً نوعياً، يسمح بإعادة تكوين السلطة فلن يقبل عون بالعودة الى «الستين» بأي شكل من الأشكال، وعندها الاحتمالات كافة واردة من ضمنها توجيه رسالة الى المجلس النيابي لحثه على إقرار قانون جديد». وذكّرت المصادر «من يعرقل إقرار القانون بمئات الآلاف التي زحفت الى قصر الشعب بعد انتخاب الرئيس عون، وربما تنزل إلى الشارع للمطالبة بإقرار قانون انتخاب جديد، لأن عون جاء بمشروع إصلاحي لإعادة بناء الدولة للجميع واستعادة وحفظ حقوق كل المكوّنات وليس فقط المسيحيين».
«المستقبل»: غير مستعدّين للانتخابات
وفي حين يتمسّك تيّار المستقبل بقانون المختلط، استبعدت أوساط قيادية في التيار الأزرق التوصّل لقانون جديد للانتخابات في ظل التعقيدات التي واجهتها اللجنة الرباعية وكل اللقاءات التي تحصل. وقالت لـ«البناء»: «المستقبل منفتح على المختلط، لكن هناك قوى أخرى ترفضه، كما أن الرئيس بري لا يستطيع أن يتجاوز حليفه جنبلاط نظراً للعلاقة الوطيدة والتاريخية بينهما، كما أن حديث رئيس الجمهورية وكل القوى عن قانون يرضي كافة الاطراف يعني لا قانون في الأفق، فلا يوجد قانون يرضي الاطراف كافة».
وأوضحت الأوساط أن «المستقبل غير مستعدّ لخوض الحملة الانتخابية التي تحتاج تمويلاً، كما سائر الأحزاب والقوى، كما يحتاج التيار الى رصّ صفوفه وتقوية وضعه في المناطق بعد غياب الحريري الطويل عن شارعه وأنصاره»، وتُضيف: «أن المستقبل أجرى حساباته في الصيغ المطروحة كافة. في النسبية يخسر مقاعد في دوائر معينة ويربح في دوائر أخرى، لكن عدد النواب التي حصدناها في انتخابات عام 2009 كانت مضخّمة ولها ظروفها، وبالتأكيد لن تتكرر وفق أي قانون جديد». لكن الأوساط لفتت الى أن «المستقبل ليس قلقاً، وإن أجريت الانتخابات على النسبية أو قانون مختلط يكسب المستقبل كتلة نيابية مهمة ووازنة تضمن عودة الحريري الى رئاسة الحكومة»، وأشارت الى أن «المستقبل لم يرفض قانون التأهيل والنسبية الذي قدّمه باسيل، لكن نريد معرفة التفاصيل، لأنه لا يراعي المعايير الموحّدة».
رعد من بعبدا: لا للستّين
وأكّد رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد «أن قانون «الستين» لم يعُد يليق باللبنانيين، وبلبنان في هذه الفترة، والمطلوب أن تتمثّل الشرائح اللبنانية كلها بمستوياتها كافة لتجد نفسها، ولتكوّن معارضتها من داخل المجلس، حتى تكون هذه المعارضة مجدية وفاعلة تستطيع أن تواكب الحكومة وتحاسبها».
وخلال زيارة وفد من الكتلة الى بعبدا، ثمّن رعد المواقف الوطنية والقومية لرئيس الجمهورية التي ادلى بها خلال الفترة الاخيرة، والتي عبّرت عن الإجماع الذي انعقد عليه الموقف اللبناني الوطني وكرّسه بيان الحكومة الذي نال الثقة من المجلس النيابي».