استدارات أردوغان الكاذبة؟!
د. تركي صقر
ضجت الأوساط السياسية والإعلامية في الأشهر القليلة التي سبقت وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بالحديث عن استدارة رجب طيب أردوغان نحو موسكو وطهران والاستعداد للتعاون معهما في حلّ الأزمة في سورية إلا انه ما أن تسلم ترامب مقاليد الأمور وجرت أول مكالمة هاتفية بين الرئيس الأميركي الجديد وأردوغان حتى انقلب موقف أنقرة بصورة كبيرة وتعمّق هذا الانقلاب من خلال جولة الرئيس التركي الخليجية التي أوحت للجميع بإعادة الحياة للمثلث السعودي التركي القطري من جديد الذي كاد يحتضر، مع ابتعاده تدريجياً عن الموقف الروسي وبالتالي إدارة الظهر للتنسيق مع إيران أيضاً.
لا اعتقد أنّ أحداً من المتابعين بعمق لسلوك أردوغان وتوجهاته السياسية قد خدع بمواقفه الأخيرة من الحلّ في سورية ولم يراوده التفكير لحظة واحدة أنّ أردوغان كان صادقاً باستدارته ولم تطمئن قلوب الكثيرين عندما انضمّ هذا الماكر إلى الحلف الروسي ولم يشعر أحد حينها أنّ باباً من أبواب الشرّ قد أغلق وإنما هي مراوغة قام بها السلطان التركي مؤقتاً بعد انقلاب جسر البوسفور العسكري الفاشل حيث غيّر جلده فجأة من أميركي إلى روسي لمآرب شخصية وانتهازية، وبالتأكيد لن تنطلي على روسيا تلك المناورات ولن تأخذ مواقفه المتقلبة على محمل الجدّ، بل تدرك انه تغيّر اضطراراً، والرئيس بوتين ليس بتلك السذاجة التي يثق فيها برجل كان متهوّراً في البداية كما رأينا في حادثة إسقاط الطائرة الروسية وكان مستعداً لشنّ حرب ضدّها لو تجاوب معه حلف الناتو.
في مطلق الأحوال بدأ يتكشف للعيان أنّ استدارة أردوغان نحو روسيا وإيران بعد الانقلاب العسكري الفاشل انها لم تكن صادقة أبداً وجاءت الاستدارة الجديدة المضادة نحو السعودية وقطر بإيعاز من الإدارة الأميركية الجديدة لتسقط الأقنعة عن نظام أنقرة وتظهر الوجه الحقيقي للرئيس التركي الذي دغدغت أحلامه من جديد وعود ترامب بإقامة مناطق آمنة في سورية بتمويل سعودي وعلى الفور انعكست هذه «الاستدارة» الجديدة في الموقف التركي في تأخر وصول الوفد التركي وتخفيض مستواه، وفي تأخير فصائل المعارضة المسلحة المدعومة من أنقرة ايضاً في الوصول إلى أستانة للمشاركة في المفاوضات المتعلقة بتثبيت وقف إطلاق النار، ووضع آلية للمراقبة، والإقدام على خطوات أخرى.
ما من شك أنّ التفاهمات الروسية التركية التي أطلقوا عليها استدارة أردوغان المفاجئة كادت تهمّش الدورين السعودي والقطري وأدواتهما من مرتزقة المعارضة في حلّ الأزمة في سورية، حتى أنّ هذه الأطراف الثلاثة لم تدع رسمياً إلى مؤتمر أستانة الأول، ولا الثاني، ولكن مع الأسف كانت استدارة عرجاء وتخفي لعبة خداع لم تغيّر في قناعة معظم السوريين بحقيقة نظام أردوغان الإخواني وجاء التغيير الجديد الذي حدث في الموقف التركي بعد المكالمة المطوّلة التي أجراها الرئيس الأميركي دونالد ترامب ليثبت هذه القناعة إضافة إلى أنّ الزيارة التي قام بها رئيس جهاز المخابرات الأميركية سي أي آي الجديد لأنقرة خلطت كلّ الأوراق، وأحدثت «استدارة» تركية جديدة في الملف السوري… فهل ستكون هناك استدارات أخرى؟ وهل سنشهد مسلسلاً من الألاعيب الأردوغانية الجديدة؟
إنه ونتيجة اتصالات الإدارة الأميركية الجديدة مع أنقرة وما سمعه أردوغان من ترامب في محادثته الهاتفية بدأ يتغيّر كلام حاكم تركيا بشكل واضح، وطبقاً للتناغم مع الحليف الأميركي الجديد ترامب ، صعّد من لهجة خطابه السياسي حول سورية، وخرج على نص «التفاهمات» مع الجانب الروسي، عندما أعلن عن عزمه إقامة منطقة عازلة في سورية بمساحة 5 آلاف كيلومتر مربع، والدفع بقواته إلى الرقة بعد دخولها مدينة الباب وترافق كلام أردوغان العالي النبرة مع التصعيد الأميركي بإعلان وسائل إعلام أميركية، من بينها محطة «سي ان ان»، عن عزم إدارة ترامب إرسال قوات أميركية الى المنطقة بأعداد كبيرة تحت ذريعة محاربة «الدولة الإسلامية»، وهذه الخطوة تأتي تكراراً للسيناريو الليبي، وهدفها البعيد ليس بريئاً، ويتطلع ترامب إلى إلزام السعودية بشكل خاص ودول الخليج بشكل عام بدفع نفقات هذه القوات، فترامب تاجر لا يمكن أن يرسل قواته دون ضمان تغطية كاملة لنفقاتها.
لا نعتقد أنّ موسكو بغافلة عن النوايا المبيتة لهذه «الاستدارة» التركية الجديدة تجاه واشنطن، أو أنها لم تعدّ العدة من قبل لمثل هذا السلوك الأردوغاني المتوقع، ونلمس ذلك من خلال تصريحات روسية متواترة أنّ هناك قلقاً روسياً واضحاً عبّر عنه أكثر من مسؤول روسي، ونقلته وسائل إعلام رسمية، قائلين: «انه ما زالت هناك نقاط خلاف كثيرة في مواقف حكومتي موسكو وأنقرة من الأزمة السورية»، مؤكدين أنّ الأخيرة، أيّ أنقرة، تسعى لتحقيق أهداف خاصة بها إلى جانب محاربة «الدولة الإسلامية»، وفي الإطار نفسه صرّح السفير الروسي في طهران ليفان حاجاريان أنّ سلاح الجو الروسي سيستخدم القواعد الإيرانية في العمليات ضدّ الإرهابيين في سورية، وانّ بلاده استكملت عقد توريد منظومات صواريخ اس 300 لإيران إضافة إلى إعلان موسكو مؤخراً بإرسال منظومات جديدة من سلاح الجو الروسي إلى سورية تدعم الموجود هناك.
وليس بعيداً عن الواقع أنّ أردوغان يتصوّر بأنّ استداراته الكاذبة سوف تجعله يعيد الحياة لمشروعه الإخواني ويكسب استعادة أحلامه المنهارة بإقامة محور جديد بزعامته في محاولة أخرى للدفع بتأسيس السلطنة العثمانية الحديثة في المنطقة إذا ما نجحت التفاهمات التركية الأميركية الجديدة في إصلاح الجسور مع الحليف الأميركي القديم، في ظلّ إدارة دونالد ترامب التي بدأت تغازله ليس لسواد عينيه وإنما من أجل مصالحها الخاصة وعلى رأس هذه المصالح إدامة أمد الحروب والصراعات في المنطقة لإبرام مزيد من صفقات الأسلحة الأميركية بعقل التاجر الجديد الذي يجلس على كرسي البيت الأبيض.
لكن حبل الكذب قصير مهما استغرق من زمن وكلّ من إيران وروسيا كانتا وما زالتا على حذر من أردوغان مهما تظاهر وادّعى بأنه يريد محاربة الإرهاب والقضاء على تنظيم داعش ويعرف القاصي والداني انه لو كان يملك ذرة من الصدق لعمد إلى إغلاق حدوده المفتوحة أمام كلّ أنواع التنظيمات الإرهابية العالمية وإذا ما اخطأ من جديد فسوف ينقلب السحر على الساحر بأسرع مما يتصوّر ويخسر هذه المرة ليس في سورية فقط بل حتى في داخل تركيا نفسها.
tu.saqr gmail.com