العراق بعد الموصل: خوّافة السعودية!

د. وفيق إبراهيم

وزير الخارجية السعودي عادل الجبير في العراق من دون سابق إعداد، وعلى عجلةٍ من أمره!!

خبرٌ ليس عاديّاً، على الرغم من أنّ الحجّة المقدّمة لتبرير الزيارة تندرج في إطار تنسيق العلاقات البينيّة من جهة، وأزمتَي البحرين واليمن من جهةٍ ثانية.

والمدهش أنّ هذه الزيارة تلي مباشرةً تفجيراً كبيراً للعلاقات بين البلدَيْن، قام به الوزير السعودي لشؤون الخليج ثامر السبهان، الذي كان يترأس سفارة بلاده في بغداد. اتّهم هذا الأخير حكومة العراق بالمذهبيّة، معتبراً الحشد الشعبي العراقي الذي يشكّل جزءاً من الجيش العراقي جزءاً من الحرس الثوري الإيراني.

وللإشارة، فإنّ السياسة السعودية في العراق اتّسمت منذ أكثر من عقدَيْن بالتحريض الطائفي والمذهبي والعرقي، لدفع الأمور نحو تفتيت العراق إلى أكثر من دولة، وهذا ليس افتئاتاً على الرياض بقدر ما هو وصف موضوعي ودقيق للدور السعودي الذي دعم الرئيس العراقي صدام حسين ضدّ إيران، وعاود دعم الجيش الأميركي ضدّ صدام وهكذا دواليك.. وأيّد احتلاله للعراق ونهجه التدميري، فما الذي استجدّ حتى يسارع الجبير إلى محاولة رأب صدع تاريخيّ لم تراعِ فيه الرياض لا أخوّة ولا جيرة، ولا حتى مصالح مشتركة؟!

وسبقت هذه الزيارة غارة لسلاح الجو العراقي استهدف فيها مواقع للإرهاب التكفيري في سورية على مقربة من منطقة البوكمال. إنّ مثل هذه الغارة تفترض وجود موافقات مسبقة أولاً من الطرف السوري، باعتباره صاحب الأرض، وثانياً من البلدَيْن صاحبَي النفوذ في العراق، وهما إيران والولايات المتحدة الأميركية، بالإضافة إلى موافقات داخلية من الأطراف الشيعية والسنّية في بغداد.

وهذا أمر كانت تحول دونه التدخّلات التركية والسعودية معاً، فيتّهمون الشيعة بقتل السنّة، ويحرّضون السنّة على قتل الشيعة عبر دعم «داعش» وقدامى البعث الصدّامي على رعاية تفجيرات مفخّخة وإنجاز مهمّات انتحارية مموّلة.

لذلك، استنتج آل سعود أنّ مثل هذه الغارة على محدوديّتها العسكرية، حازت في البداية على إجماع داخليّ عراقي، ختمت عليه المرجعيات الدينية والسياسية للمكوّنات العراقية كلها، كما استحصلت على موافقة سوريّة، وهي الأخطر بالنسبة لآل سعود لأنّها تعني إمكان ولادة تنسيق عسكري بين الجيشين السوري والعراقي، قد يدفع باتجاه تحالف سياسيّ بين بلدَيْهما، وهنا المصيبة الكبرى بالنسبة للسعودية.

أمّا إيران، فلها مصلحة كبرى في غارات عراقية في الداخل السوري، لأنّها تشكّل رافداً من روافد القضاء على الإرهاب التكفيري الذي يهدّد بتفجير العالم الإسلامي وإذكاء نيران الفتنة السنّية الشيعية.

لماذا إذن لم يمانع الأميركيّون؟ تعتقد واشنطن أن السيطرة على المنطقة الممتدّة من البوكمال إلى الرقّة فدير الزور، من شأنه الحدّ من حركة إيران نحو سورية ولبنان، ومنع التحالف الروسي الإيراني من الامتداد من بحر قزوين، فإيران والعراق وسورية ولبنان. لذلك، تعتبر السياسة الأميركية أنّ الغارات العراقية تُسهم في القضاء على «داعش»، وتسمح لمجموعات من العشائر العربية السوريّة والأكراد وسوريّين من أبناء هذه المنطقة من آشوريّين وسريان وعرب، يدرّبهم خبراء أميركيّون للانتشار في المناطق التي سيرحل عنها «داعش» قريباً. هذه هي الحسابات الأميركية المتفق عليها مع السياستين السعودية والتركية، والعمل جارٍ لتهيئة هذه القوى لتلعب دور «قاطع الطريق» الإيرانيّة الروسيّة في بلاد الشام.

والحدث الذي يخلخل مداميك السياسة الإرهابية السعودية، هو بدء عملية تحرير الجزء الغربي من مدينة الموصل… لماذا؟

تحرير الموصل «الحدباء»، ثاني مدن العراق، يعني تحرير الجزء العراقي من «خلافة داعش»، وإنهاء الإرهاب من أرض الرافدين. بمعنى أنّ دولة عربية فيها حكومة حليفة لسورية وإيران وروسيا، يبلغ عديد سكّانها 35 مليون نسمة، وتكتنز ثروات نفطية ومائية هي على وشك إعادة التشكّل على مستوى الوحدة الوطنية الداخلية والبناء السياسي الأمر الذي يعيد «أرض السواد» إلى أداء دورها الإقليمي الذي يربط الخليج بالبحر المتوسّط، ويحاذي السعودية وسورية وتركيا والأردن… من دون نسيان الكويت.

لذلك، لم يتأخّر الجبير دقيقة واحدة عن الهرولة صاغراً إلى بغداد، محاولاً طمس صورة «الديك العدواني» التي كان يقدّمها ثامر السبهان في سفارة بلاده في بغداد. ولا شكّ في أنّ الجبير التقى بالمسؤولين العراقيّين ليتناقش معهم في مسائل عدّة، وأوّلها إمكان التخفيف من الدور الإيراني في العراق، والسّعي إلى ضمّ بعض السياسيّين العراقيّين الموالين لبلاده أو لتركيا إلى الإدارة السياسية العراقية. لكنّ أبرز النقاط التي لن يتأخّر في التركيز عليها، تتعلّق بمحاولة منع بغداد من أداء أدوار خارج حدود بلادها، وخصوصاً مسألة التحالف مع سورية وأزمة البحرين والعدوان السعودي على اليمن.

والمتوقّع أنّ رئيس حكومة العراق العبادي طمأن الجبير إلى عراق يوازن في علاقاته بين كامل جيرانه، ولن يسمح بتحويل العراق إلى مواقع للتناحر الإقليمي، مؤكّداً له أنّ طهران لا تطمح إلى أسر العراق ضمن إطار نفوذها الشرق أوسطي، والعراق بدوره لن يسمح بذلك.

أمّا لجهة إشراك سياسيّين عراقيّين، موجودين حالياً في الرياض وأنقرة ويعملون لتعميم الفتنة في بلادهم، فهؤلاء لا مكان لهم في أرض الرافدين، إلّا أنّ الانتخابات العراقية المقبلة من شأنها أن تفرز قيادات جديدة ليست متورّطة في صراعات المذاهب ومراكز النفوذ.

ولدى مناقشة الدور الإقليمي والعربي للعراق، لا يمكن لرئيس حكومة عراقي أن يطلق وعوداً لا يستطيع تنفيذها. فحجم عراق مستقرّ في منطقة تكاد تكون خالية من السكّان لا يمكن لجمه بوعود شفهيّة، خصوصاً أنّ هذا البلد شكّل تاريخياً ضمانة لأشقّائه العرب وباستثناء سابقة صدام في غزو الكويت، وهي لعبة دفعه إليها الأميركيون ليتخلّصوا منه، تحترم بغداد الحدود السياسيّة والعلاقات الأخويّة.

ولأنّ لها دوراً إقليمياً بالموقع والحجم والإمكانات، فإنّها لا تقبل بالغزو السعودي للبحرين وقمع انتفاضة مستمرّة منذ عقد تقريباً يشارك بها نحو سبعين في المئة من سكان الأرخبيل البحريني.

المطلوب إذاً، حلول لمجمل أزمات الخليج بعد تحرير الموصل. فكيف يتمّ تبرير الاجتياح السعودي لليمن الذي يضمّ تحالفاً غربياً ودولياً بتغطية سريّة «إسرائيليّة»، وما أدّى إليه من قتل وتدمير وتهجير لنحو عشرة ملايين يمني؟ أيمكن لعاقل أن يصدّق الدعاية السعودية التي تتكلّم عن جيوش إيرانيّة في اليمن والبحرين؟ والحوثيون هناك هم فرقة من الزيود موجودون في اليمن منذ 1200 عام على الأقل، في حين أنّ معظم دول الخليج تأسّست قبل نصف قرن تقريباً، وأهل البحرين هم أهلها منذ نحو ستة قرون… أيستطيع عراق محرّر أن يتغاضى عن إرهاب سعودي في هذين البلدين لمصلحة «إسرائيل» والقواعد الأميركية؟

إنّ استمرار الدور السعودي في السطو على البلدان المجاورة للرياض بذرائع مذهبيّة ودينية وقومية، لا تؤدّي إلّا لمصلحة المصرّين على اعتقال المنطقة في ذهنيّة القرون الوسطى والقواعد الأميركية المنتشرة في الخليج و«إسرائيل» الواصلة إليه.

لذلك، فإنّ إمكانية تحالف سوري عراقي هو الخوّافة التي تثير ذعر آل سعود، وتسبّب لهم قلقاً وغمّاً.. وعمل الرياض حالياً هو منع هذا التحالف بواسطة الأميركيين ووسائل الفتنة السنيّة الشيعية. لكنّ هذه الوسائل أصبحت من التاريخ، لأنّ مرحلة ما بعد الموصل من شأنها أن تعيد التوازنات العربية إلى مرحلة أفضل تقوم على أساسين: منع تطوّر التحالف السعودي «الإسرائيلي»، ومحاولة تنفيس أزمات المنطقة لتحطيم مشاريع تدميرها التي تعدّها الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى