تفاعل الأمة مع تراثها ـ تجذير الهوية القومية

د. لؤي زيتوني

مدخل:

تعدّ مسألة التراث فكرةً أساسيّةً في حياة المجتمعات الإنسانيّة، ومفهوماً مفتاحيّاً لفهم العقليّة التي يحملها شعب ما ولذلك فإنّها تتمتّع بأهمّيّةٍ استثنائيّةٍ في رصد تاريخ تلك الشّعوب وفي تجسيد القيم الخاصّة بتلك المجتمعات. ونظراً لارتباط مفهوم التّراث بحياة الجماعة وبحضورها عبر التّاريخ، ولما كانت الأمّة هي الحال الأرقى من الحالات التي يصل إليها تطوّر الاجتماع البشريّ، فإنّ علاقة هذه الأخيرة تبرز وثيقة بمفهوم التّراث بوصفه عاملاً من عوامل قوّتها واستمرارها. ولذلك يصبح مفهوماً محوريّاً بالنّسبة للأمّة، إذ أنّه يشكّل الذّاكرة المستدامة لها، وهو لذلك يشكّل معها علاقةً جدليّةً يطال تأثيرها موضوع الحفاظ على الهويّة القوميّة، وموضوع نقل تلك الهوية عبر الأجيال، فلا أمّة في الواقع بدون تراث، وكما أنّه لا تراث خارج إطار مفهوم الأمة.

استناداً إلى ذلك، تفرض عمليّة التّفاعل الحيويّ بين الأمّة وتراثها حضورها الجدليّ بوصفه عاملاً من عوامل تشكيل الهويّة القوميّة وترسيخها في النّفوس، مع الأخذ بعين الاعتبار ما يطرأ من اختلافات نظريّة حول تعريف المفهومين المذكورين، الأمّة والتّراث ما يتطلّب منّا اعتماداً لمفهومٍ واضح بهما. مع العلم أنّ مسألة التّراث تحتاج دائماً إلى تحديد، نظراً لكون الأفكار الشّائعة التي تدور حولها قد تقصرها على جوانب معيّنة دون أخرى، وبالتّالي قد تغفل عناصر مهمّة قد تشتمل عليها. فضلاً عن كون هذا المفهوم، وأعني التّراث، يخضع لتجاذبات أيديولوجيّة ولسلوكيّاتٍ قسريّةٍ تعمل لجعل التّراث بعيداً عن مفهوم الأمّة وخاصّاً بفئاتٍ منها الطّائفيّ أو العرقيّ أو المناطقيّ… وبناءً عليه، لا بدّ من رؤيةٍ توضح ما نرمي إليه من مصطلحي «التّراث» و«الأمّة»، وكيفيّة نشأة التّراث حتّى نستطيع الدّخول في بحث عمليّة التّفاعل الحيويّ التي تقوم بها الأمّة مع تراثها الفاعل.

I. مفاهيم نظريّة:

1 – مفهوم التّراث: من النّاحية اللّغويّة، ورد في لسان العرب «الورث والإرث والتّراث والميراث: ما ورث» 1 ، أي أنّه ما يُنقَل من الآباء إلى الأبناء. لكن من النّاحية الاصطلاحيّة، وانطلاقاً من اعتماد هذه اللّفظة ترجمةً للمصطلح الغربيّ Heritage، توسّع المصطلح ليشمل: «السّمة أو الممتلكات غير المادّية التي تؤخذ عن الأجداد، والممارسات التي تصدر عن الماضي عبر التّقليد» 2 ، كما تشمل «القيم الماديّة الوطنيّة التي تصدر عن الأجيال المتعاقبة وتتمّ المحافظة عليها، والتي تشمل الفنّ الهندسيّ والتّصوير الطّبيعيّ، والوثائق، وغيرها من الفنون…» 3 وقد استندت منظّمة اليونيسكو في الاتفاقيّة الخاصّة بحماية التّراث العالميّ الصّادرة عن مؤتمرها السّابع عام 1972، إلى مفهومٍ للتّراث ينطلق من كونه «ميراث الماضي الذي نتمتّع به اليوم، وننقله إلى الأجيال القادمة» 4 . والتّشديد هنا يتمّ على قاعدة كون التّراث ليس كلّ ما يقدّمه الماضي، بل الذي لا يزال فاعلاً في حاضرنا ومؤثّراً في مستقبلنا ومنه ما هو مادّيّ يتجلّى في منجزات الفنون المتنوّعة، ومنه ما هو غير مادّيّ يبرز في أنماط التّفكير وفي التّقاليد والعادات الاجتماعيّة. لكنّ السّؤال يبقى: كيف يرتبط هذا المفهوم بالأمة؟ وحتّى نستطيع تقديم فهم واضحٍ حول هذه المسألة، ينبغي أن نعتمد تحديداً ثابتاً لمفهوم الأمّة.

2 – مفهوم الأمّة: من الواضح أنّ هذا المفهوم يدور في إطارٍ ضبابيٍّ، نظراً لاختلاق المنظورات حوله. لكن يمكننا أن نخرج من إطارها المعجميّ المتمثّل في المستقى من القرآن الكريم حيث لا ترد بمفهومٍ واحد، بل ترد بمعانٍ عدّة: كمعنى الزّمن أو الجيل، أو بمعنى الذي يعلم الخير ويهدي إلى الطريق القويم، أو الطّريق المتّبعة، أو الجماعة على الإطلاق، أو الجماعة ذات الدّين الواحد، أو الجماعة الجزئيّة المتفرّعة من أهل الدّين الواحد 5 . في حين عمل العلماء العرب على إيجاد استعمال اصطلاحيٍّ منطلقٍ من الوجهة التّاريّخية الحضاريّة، ففُصِلت اللّفظة عن إطار الدّلالة على الجماعة الدّينيّة كما لدى الطّبريّ وابن الأزرق على سبيل المثال 6 ، ورُبطت مع ابن خلدون بمسألة الوطن 7 . أمّا التّعريف الذي نتبنّاه من الوجهة الاجتماعيّة الحديثة، فيرى بأنّ الأمّة بوصفها ترجمةً لمصطلح Nation الغربيّ، «جماعة من البشر تحيا حياةً موحّدة المصالح، موحّدة المصير، موحّدة العوامل النّفسيّة – الماديّة في قطرٍ معيّن يكسبها تفاعلها معه، مجرى التّطوّر، خصائص ومزايا تميّزها عن غيرها من الجماعات» 8 .

3 – نشأة التّراث: بالانسجام مع هذا الوعي لمفهوم الأمّة، نشدّد على نقاط تهمّنا جدّاً في الإحاطة بموضوعنا، وهي الإشارات المتعلّقة بعبارة: «موحّدة العوامل النّفسيّة – الماديّة» وعبارة «خصائص ومزايا تميّزها…» ففي هذا إشارة إلى ما يمكن أن نسمّيه بالتّراث، انطلاقاً من تعريف هذا الأخير بكونه يشتمل على الجوانب المادّيّة وغير المادّيّة النفسيّة ، وهي ما تؤمّن وحدة الجماعة أو الأمّة كما تعطي تميّزها. أمّا عن كيفيّة نشأة التّراث، فإنّ التّعريف نفسه يقدّم لنا إشارةً حول كيفيّة ظهور التّراث، فالتّأكيد الوارد فيه على تفاعل الأمّة مع القطر أو الوطن عبر مسار التّطوّر يبيّن حضور طبيعة التّفكير والسّلوكيّات التي تسهّل التّعامل مع البيئة والتي تتحوّل مع الزّمن إلى تراثٍ يربط حاضر الأمّة بجذورها. فالأمّة، بنتيجة التّفاعل مع البيئة، تنشئ الفكر والسّلوك المتناسبين مع طبيعة تلك البيئة وتصبح جزءاً من الحياة اليوميّة لهذه الأمّة فيتمّ تناقلها عبر الأجيال بوصفها عنصراً فاعلاً في إدارة شؤون حياتهم، وبالتّالي تتحوّل إلى تراث. ولما كان التّراث موزّعاً على شكلين: مادّيّ وغير مادّيّ، فإنّ تفاعل الأمّة مع تراثها يستوجب رصده على مستويّي التّراث: الفكريّ – الحضاريّ، الفنّيّ – الشّعبيّ.

II. الحيويّة الفكريّة – الحضاريّة للتّراث:

لا تبرز مسألة التّراث في حياة الأمّة من خلال المنجزات المادّيّة فحسب، بل تظهر في صورة أفكارٍ ومنهجٍ فكريٍّ معيّن خاصٍّ بأمّةٍ ما أو بمجتمعٍ معيّن، لأنّ التّراث «حركة في التّاريخ لتعميق النّزوع في الوجود والتّأثير فيه، ولهذا يصبح استلهامه استمراراً لتجديد حياة الأمّة»، كما يكون مضمونه «ذا جماليّةٍ خاصّةٍ حين يُنظر إليه على أنّه مجموعة من المعارف والقيم التي تسهم في بناء المعارف المستمرّة، وتقدّم تصوّراً خاصّاً وفاعلاً لبناء المستقبل الحضاريّ للأمّة» 9 . والأدلّة على هذا الأمر متنوّعة، يمكن أن تتجلّى في النّماذج الاعتقاديّة المستمرّة عبر الأجيال، والتي تعطي فهماً حول طبيعة الحياة والكون.

منها على سبيل المثال التّراث الإنسانيّ الذي يربط لفظة اللّه بالعلوّ، وهذا الفهم لمفهوم الله يعود بجذوره إلى حضارات بلاد ما بين النّهرين حيث أطلقت الحضارة الأكّاديّة على القوّة المتحكّمة بمصير الكون وبحركة القوى الأخرى اسم «عل» أيّ العالي 10 . وتصلح بعض المفاهيم الدّينيّة مثالاً على النّماذج التّراثيّة الفكريّة، ومن ذلك ارتباط مسألة انحباس المياه في التّراث الشّعبيّ بغضب الله على عباده، أو مسألة الإيمان بما يعرف بـ«صيبة العين» أو بـ«الحسد» وقس على ذلك الأوجه التّراثيّة الدّينيّة المتنوّعة المستمرّة في الحياة المجتمع. وفي هذا السّياق يمكن التّطرّق إلى أنموذجٍ حضاريٍّ تراثيٍّ معروفٍ في منطقة الهلال الخصيب بفكرة «الفداء».

نجد في هذه الفكرة إطاراً تفاعليّاً حيويّاً بين الأمّة والتّراث، نظراً لقوّة هذه الفكرة وحضورها المؤثّر والمستمرّ في حياة المجتمع. فهذه الفكرة ولدت مع حضارات بلاد الرّافدين بوصفها فكرة خلاصٍ للبشر من التّهديد الذي يشكّله خطر القحط، وتأتي أسطورة «إنانّا ودوموذي» أو «تمّوز وعشتار» أو «أدون وعشتروت» أو غيرها من النّماذج الفدائيّة لتشكّل منهجاً تفكيريّاً حضاريّاً تغلغل في تراث الأمّة، في ضوء التّفاعل الذي قامت به حضارات المنطقة مع موطنها أو ما يُعرف ببيئة الهلال الخصيب، إذ نرى فكرة الفداء تتجدّد في مراحل عدّة من تاريخها برموزٍ أسطوريّةٍ مختلفة كالفينيق أو العنقاء، والبعل، وملكارت… كما أنّها تحوّلت إلى جزءٍ من الفكر الدّينيّ المتمثّل في فعل الفداء الصّادر عن يسوع، أو التّضحية التي يقوم بها مار جرجس، والتي تحوّلت إلى رمز الخضر المحمّديّ في ما بعد 11 .

أمّا عن تحوّلها إلى قوّةٍ فاعلةٍ في حاضرنا، فإنّ هذه الفكرة قد ظهرت في لحظاتٍ تاريخيّةٍ معيّنة مثّلت عامل القحط على المستوى الوطنيّ. فلا يمكن أن نصنّف الفعل الفدائيّ الذي قام به «جول جمّال» في خمسينيّات القرن الماضي إلاّ استمراريّةً لفكرة الفداء تلك كما لا يمكن أن نُخرج عن هذا الإطار العمليّات الفدائيّة الاستشهاديّة التي تمّ القيام بها في ثمانينيّات القرن نفسه، ومنه النّموذج الشّهير للاستشهاديّة «سناء محيدلي». وهذا يسبغ على فكرة الفداء الطّبيعية التّراثيّة بامتياز، لأنّها فكرة وصلت إلى هذين النّموذجين وغيرهما عن طريق نقلها عبر الأجيال المتعاقبة.

لا بدّ من التّنويه في هذا المجال إلى تشكّل جماعات دينيّة ضمن الدّين الواحد تؤثّر في وحدة «العوامل النفسيّة – المادّيّة» للأمّة، وبالتّالي تؤثّر سلباً في عمليّة تفاعلها مع تراثها. فنشوء هذه الأنواع من الجماعات داخل جسم الأمّة وسعيها إلى خلق إطار من المفاهيم الدّينيّة الخاصّة يؤدّي إلى خلق عاداتٍ خاصّةٍ بها، وبالنّتيجة إلى خلق تراثٍ خاصٍّ بها يؤثّر في الوحدة القوميّة للشّعب الواحد. والأمثلة على ذلك كثيرة، ليس آخرها حضور الجماعات التّكفيريّة التي تعمل على إيجاد واقع جديد بعيد عن طبيعة التراث الفكريّ للأمم العريقة.

III. حركيّة التّراث الفنّيّ – الشّعبيّ:

من المعروف أنّ هذا المستوى هو الوجه الأكثر إبرازاً لمفهوم التّراث، نظراً لظهوره الجليّ في حياة الأمّة وفي يوميّات أبناء المجتمع وتفاصيلها. فالنّتاج التّراثيّ الشّعبيّ يشكّل عنصراً رئيساً في تشكيل الهويّة القوميّة والاجتماعيّة للفرد، ويتجلّى في مختلف الجوانب الفنّيّة المعروفة من موسيقى وغناء ورقص ورسم وزخرفة ونحت وعمارة… بحيث أنّ كلّ أمّة تُعرَف من خلال المظاهر التّراثيّة التي نشأت من تاريخ تفاعلها الطّويل مع البيئة. ومن الأمثلة الكثيرة على ذلك ما يبرز في المآكل التّراثيّة النّاتجة عن تطوّر عمليّة التّفاعل مع البيئة، كالبرغل في منطقة الهلال الخصيب، أو المحمّر في منطقة الخليج، وتحديداً في البحرين. ولا ننسى الجذور التّراثيّة الموسيقيّة التي تجمّعت في حلب، والتي شكّلت رافداً تراثيّاً مهمّاً في الموسيقى العربيّة منذ أواخر القرن التّاسع عشر، لا بل قد تكون الرافد الوحيد في مرحلةٍ من المراحل 12 .

ألقي الضّوء في هذا المجال بالتّحديد على الرّقص والغناء الشّعبيّين في بلاد الشّام والرّافدين، والمعروف برقصة الدّبكة التّراثيّة. فبالاستناد إلى واحدٍ من أعلام الموسيقى اللّبنانيّة، وأعني زكي ناصيف، فإنّها ولدت بنتيجة عمليّة بناء البيوت التي كانت تتطلّب تعاوناً من أهل القرية الواحدة بهدف إقامة السّقف الطّينيّ على جدرانٍ من الحجارة، وهذه العمليّة كانت تحتاج إلى حركةٍ معيّنةٍ بالرّجلين تتمّ مصاحبتها بنوع من الغناء الذي يحمل إيقاعاً يكفل تحفيز الأقدام على ضرب الطّين ليصبح أكثر قوّة، وهي عادة تعود إلى المرحلة السّريانيّة. وهذه الحركة المترافقة مع الغناء تحوّلت عبر الأجيال إلى الدّبكة المعروفة باسم «الدِّلعونا» بكسر الدّال وهي لفظة سريانيّة معناها العونة أو هذه العونة للدلالة على عمليّة المعاونة والمساعدة في البناء 13 .

ومن الواضح أنّ هذه الرّقصة التّراثيّة تمثّل هويّةً معيّنةً لأبناء هذه المنطقة، نظراً لكونها تتمتّع بالتّأثير الفاعل في نفوس النّاس، لذلك استمرّت عبر العصور بوصفها مميّزاً لهذه البلاد، وتحوّلت إلى الأغنية الفولكلوريّة الأشهر في بلاد الشّام وبلاد العراق 14 . ولا بدّ من التّشديد على أنّ روافد التّراث الحيويّة بالنّسبة لهذه المنطقة ثلاثة هي: الرّافد السّريانيّ والرّافد البيزنطيّ والرّافد الاسلاميّ-العربيّ 15 .

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ عمليّة استلهام التّراث أو العودة إلى جذوره الحضاريّة التّراثيّة تلك، تشكّل بحدّ ذاتها استنهاضاً للهويّة القوميّة وتعزيزاً لها. إذ أنّ «استلهام الموروث يمنح المبدع وتجربته الشّعوريّة هندسة مدهشة، ففيها تندمج الأنا بـ النحن أيّ الذّات بالجماعة لنتحصّل على نتاج جماليّ فذ يرتكز على استيعاب الحقيقة التي يتقاسم فيها الإيقاع الفني بين المبدع والذّات الجماعيّة باعتبار أنّ التّجربة تعود ملكيّتها للآخرين لا لصاحبها وفردانيّته» 16 . وعلى هذا الأساس، تصبح عمليّة الاستلهام ذات استهدافٍ جماعيّ قوميّ، لأنّه يعمل على استنهاض الوعي القوميّ وتحفيز الوجدان الجماعيّ، وبالتّالي يهدف على مستوى الأمّة إلى ترسيخ مفهوم الهويّة القوميّة. مع ضرورة الإشارة إلى التّشديد على فعل الاستلهام لا الأخذ بالتّراث كاملاً، لأنّ هذا الأمر يفقد هذه العمليّة حيويّتها ويفرغ مسألة التّفاعل من مضمونها الحركيّ التّطوّريّ، وهو الأمر الذي يؤكّد عليه الرّحابنة في معرض مساءلتهم حول عمليّة استلهام التّراث بأنهم أخذوا نغمات قديمة منها السّرياني أو البيزنطيّ، ووضعوها في إطار جديد، انطلاقاً من فهمٍ للإنسان بأنّه «ابن النّهر الأزليّ الذي اسمه الشّعب. وكوننا من لبنان، فإنّ لبيئتنا الأثر الأكبر في أعمالنا الفنيّة» 17 .

وفي هذا السّياق، تظهر الأعمال الفنّية من رقصاتٍ وأغنيات وغيرها… بوصفها ارتباطاً بالجذور القوميّة، وترسيخاً للوجدان القوميّ، ولا تعود مجرّد رجوعٍ سطحيٍّ إلى الماضي، فمن هذا المنطلق تنبع الحاجة «إلى تمثّل وجدان الأمّة واستيعاب حكمة الشّعب وتقمّص روح الجماعة عن طريق الاقتراب من الثّقافة الشّعبيّة والنّهل من معطياتها وتأمّل المضيء من نتاجاتها والتّفاعل معه بحب، واستلهام ما يمكن رفده بحياتنا المعاصرة…» 18 .

ولا يخفى هنا ما للأعمال الفنية التي تصرّ على الخروج الجذريّ عن الجذور التّراثيّة وتعمد إلى إحداث قطيعةٍ نهائيّةٍ معها، من أثرٍ سلبيٍّ في فقدان الهويّة وفي تفكيك الوحدة المجتمعيّة، وبالتّالي في استلاب الإنسان من أصل التّفاعل الحيويّ مع بيئته.

IV. العودة إلى التّراث ودور الغرب:

استناداً إلى ما سبق ذكره، تصبح عملية البحث في التّراث مسألة ضروريّة بالنّسبة للإنسان، إذ لا يمكن لأمّة «أن تتهيّأ لبناء مستقبلها وقد جهلت فهم ماضيها، أو حين راحت تتعامل معه تعاملاً سكونيّاً» 19 . لذا فإنّ مسألة تمييز المظهر التّراثيّ تصبح في غاية الأهميّة بالنّسبة لحياة الأمّة واستمراريّتها عبر الأجيال.

من خلال العودة إلى التّعريف الآنف الذّكر للأمّة، نلاحظ مسألة التّفاعل مع القطر المعيّن، أيّ مع البيئة التي تحتضن هذه الأمّة. وبناءً عليه، فإنّ تمييز مظهر تراثيٍّ قوميّ يشترط صدوره عن هذا التّفاعل، فمن غير الممكن أن يشكّل مظهر متعلّق بالبيئة التي يغلب عليه الطّابع البحريّ تراثاً لأمّةٍ تغلب على أرضها الطبيعة الجبليّة، وهذا ما يدفعنا إلى القول بأنّ الكثير من العادات التي يظنّها البعض تراثيّةً قوميّةً لا تمتّ بصلةٍ إلى التّراث القوميّ. ومنها بعض المظاهر التّراثيّة المتعلّقة بالملبس، كلبس السّروال المعروف باسم «الشّروال» في جبال لبنان، حيث أنّ النّظرة التي تختصره بكونه لباساً تراثيّاً لا تتّسم بالدّقة، لأنّه دخل في مرحلة الحكم العثمانيّ إلى بلادنا.

لذلك فإنّ التّراث القوميّ يجب أن تتوفّر فيه خاصّيّة محوريّة تتجلّى في ارتباطه بإمكانات البيئة وبمسار التّفاعل بينها وبين الأمّة. فهذا التّفاعل هو الذي مكّن إنسان هذه البلاد من ابتكار المأكولات الخاصّة المتناسبة مع الظّروف الطّبيعيّة والحاجات التي سبقتها، كما مكّن من إيجاد الأمثلة الشّعبيّة الخاصّة التي تواكب التّغيّرات الموسميّة للطّبيعة.

وفي هذا السّياق، يبرز عنصر مهيمن في طبيعة تعاملنا مع التّراث، ألا وهو فعل التّشويه المنهجي للتّراث من خلال عمليّات إعلاميّة منظّمة ومدروسة. إذ يعمد الغرب إلى إدخال مفاهيم مختلفة المجالات تتّسم بالرّؤية الحضاريّة الخاصّة بها، والبعيدة كلّ البعد عن المسار الحضاريّ للأمّة ونظرتها لحقيقة وجودها، ما يشكّل خطراً على وحدة الأمّة وعلى وجودها. وهذا ما يدخلنا في ما يُعرَف بمسألة «الاستلاب أو الاغتراب أي خلق هوة بين المرء وواقعه، حين تغلف الذات بمشاعر الغربة والوحشة والانخلاع والانسلاخ، واللا إنتماء بعد ذلك» 20 .

ومن الأمثلة الكثيرة على هذا الاستلاب الصّورة الإعلاميّة التي تتحدّث عن الحروب البونيّة، والتي تعمل على تشويه الصّورة التّراثيّة لشخصيّة القائد العسكريّ «هنيبعل». إذ يعمل الغرب من خلال إعلامه الممنهج على تقديم الجانب القرطاجيّ بوصفه أنموذجاً للهمجيّة أو الوحشيّة، وذلك ما يظهر حتّى في تقديم اسم «هنيبعل» نفسه في أعمال معاصرة مترافقاً بصورة الرّعب والإجرام. في أنّ النّظرة التّراثيّة له ينبغي أن تبيّنه بصفته الواقعيّة، أيّ قائداً فذّاً تمكّن من إركاع أعظم امبراطوريّةٍ في العالم القديم، ومخطّطاً عسكريّاً استطاع أن يغيّر النّظرة إلى مفهوم الحرب نحو رؤيةٍ تتضمّن عنصري الفنّ والتّكتيك.

ولا ننسى في هذا المجال الإشارة إلى أنّ عمليّة التّشويه تلك لا تتضمّن هذا الجانب فحسب، بل تتخطّاه لتشمل عمليّة إلحاق المنجز التّراثيّ القوميّ بجماعاتٍ أخرى معادية، كالمظاهر العمرانيّة الكنعانيّة أو المسيحيّة التي يتمّ إبرازها على أنّها منجزات يهوديّة، أو كبعض المأكولات التّراثية التي نُسبت إليهم. إضافةً إلى أنّ هذا التّشويه قد يعمل على تحوير أفكارٍ تراثيّة معيّنة تعادي المصالح الغربيّة إلى أشكالٍ من السّلوكيّات العبثيّة، وهو ما نراه في المفاهيم المتعلّقة بالتّضحية والاستشهاد، والتي عدّت ضرباً من ضروب الانتحار.

الخاتمة:

في خلاصة ما سبق، نلاحظ أنّ الأمّة لا يمكن أن تبرز حضورها الفاعل بين الأمم إلا من خلال وعيها بتراثها الخاصّ وتفاعلها معه، بحيث تتشكّل بنتيجة ذلك الهويّة القوميّة. وهذا الأمر هو الذي يدفع الأمّة إلى الاستمرار في حاضرها ومستقبلها، وإلى ترسيخ سيادتها على نفسها وعلى أرضها. وما الأزمات التي تمرّ بها الأمّة في هذه المراحل إلا أزمات ناتجة عن انعدام الوعي بالهويّة، وهذه الأخيرة لا تقتصر على مجرّد الإعلان عن تلك الهويّة، بل تشمل ما هو أعمق من ذلك، وأعني الوعي بمبرّرات وجودها، وبعوامل تكوّن شخصيّتها القوميّة الواحدة التي تميّزها عن غيرها من الأمم.

من هذا المنطلق نجد أنّ مسألة التّراث تتمتّع بأهمّيّة محوريّة في حياة الأمّة وفي عمليّة ترسيخ وحدتها ووعيها القوميّ، لأنّها تشكّل العوامل النّفسيّة – المادّيّة في تكوينها، وترتبط بقدرة العقل القوميّ على التّفاعل مع البيئة وابتكار أسباب وجوده وارتقائه. وهي لهذا تصبح مكوّناً من المكوّنات النّفسيّة والسّلوكيّة للإنسان، وبالتّالي عاملاً مهمّاً في تشكيل الثّقافة القوميّة أو تحصينها. وهذا ما يعني أن يعي الفرد منّا حقيقة المظاهر التّراثيّة التي يسير بهديها في حياته اليوميّة ليدرك جذورها وحقيقتها، لأنّها تعبّد أمامه الطّريق نحو معرفة حقيقته القوميّة أو هويّته.

على هذه القاعدة يجري التّفاعل الحيويّ بين الأمّة وتراثها، فالأمّة من خلال تفاعلها مع البيئة تقدّم تجاربها ووسائلها الفكريّة والمادّيّة التي تؤهّلها للحياة والاستمرار، وتنقلها للأجيال المتعاقبة بصورة تراثٍ حيويٍّ وفاعل في حاضر الأجيال. في حين يعمل هذا التّراث على وعي أبناء الأمّة بهويّتهم القوميّة وبوحدتهم، وهو ما يمكّنها من صناعة تطوّرها القائم على وعي بيئتها أيّ على أسسٍ ثابتة، لا المرتبط بمستورَدٍ ما أيّاً كان مصدره.

وقد تكون الإشارة هنا مهمّة إلى أنّ الخطر الذي يحيق بتفاعل الأمّة مع تراثها، وبالتّالي بترسيخ هويّتها، يتمثّل دوماً في وجهين: الوجه المتعلّق بظهور جماعاتٍ دينيّة تهدّد بخلق تراثٍ جديدٍ يعمل على تفكيك وحدة الأمّة من داخل كيانها، وخطورته تنبع في الإطار الدّينيّ الذي يؤدّي دور تغييب العقل والإمساك بالنّفوس الضّعيفة. أمّا الوجه الآخر، فهو المتمثّل في عمليّة الاستلاب الثّقافيّ القائم على تشويه التّراث أو تحريفه أو تزييفه، من خلال الدّور الذي يؤدّيه الإعلام الغربيّ في إطار فلسفة العولمة وهيمنة العنصر المتفوّق اقتصاديّاً وعسكريّاً فيه.

وبنتيجة ما تقدّم، يمكن الاستنتاج بأنّ كلّ أمّة لا بدّ من أن تستمدّ قوّة حضورها ودافعها إلى ترسيخ هذا الحضور عبر الزّمن، من المواهب الكامنة في قلب التّراث المتشكّل عبر تاريخها الطويل. وبعبارةٍ أخرى، فإنّ نهضة الأمّة تستمدّ روحها من المواهب القديمة والحديثة التي تتمتّع بها، وهي المواهب التي تشكّل تراثها العريق والمحرّك لحيويّتها الفاعل من أجل سيادة قيمها المثلى على حاضرها ومستقبلها.

هوامش

1 ـ لسان العرب: جذر ورث .

2 ـ wordnet.Princeton.edu Heritage . 06-04-2014, 4:00 PM

3 ـ Dictionary.com s 21st Century Lexicon. Copyright 2003-2014 Dictionary.com, LLC. 06-04-2014. 4:19 PM

4 ـ موقع اليونيسكو: ما هو التّراث العالمي. http://www.unesco.org/ar/home/resources-services/faqs/world-heritage/

اتفاقية حماية التّراث العالمي: المؤتمر العام السّابع عشر لمنظمة اليونيسكو، باريس 16 تشرين الثّاني نوفمبر 1972.

5 ـ ناصيف نصّار: مفهوم الأمّة بين الدّين والتّاريخ دراسة في مدلول الأمّة في التّراث العربيّ الإسلاميّ. بيروت، دار الطّليعة، الطبعة الثانية، 1980، ص15 19.

6 ـ المرجع نفسه، ص67 وص 143-144.

7 ـ المرجع نفسه، ص139.

8 ـ أنطون سعادة: نشوء الأمم- الآثار الكاملة 5. بيروت، لاط، لات، ص 165.

9 ـ حسين جمعة: جماليّات التّراث وأثره في بناء الأمّة. مجلّة الباحثون العلميّة الالكترونيّة ، تاريخ 08- 10- 2012، السّاعة 7:30.

10 ـ جورجي كنعان: تاريخ الله إيل- العالي . بيروت، مكتبة بيسان، الطّبعة الثّالثة، 1996، ص175- 176.

11 ـ للتّوسّع في هذا الإطار يمكن الرّجوع إلى كتابي حول موضوع الأسطورة: لؤي زيتوني: مفهوم الأسطورة ورمزيّتها الأدبيّة- التّمّوزيّة نموذجاً. بيروت، دار فكر للأبحاث والنّشر، الطّبعة الأولى، 2009، من ص61 إلى ص 127.

12 ـ محمود غزالة: توفيق الباشا- يقظة الموسيقى. سلسلة مبدعون 1. بيروت، منشورات مجلّة التّنمية، الطّبعة الأولى، 1998، ص47- 48.

13 ـ زكي ناصيف: مقابلة مع قناة دبي الفضائيّة.

14 ـ نجيب نصير: «كأنّه حلب». بيروت، مجلّة فكر، العدد 109- 110، آذار- نيسان- أيار- حزيران 2010، ص125.

15 ـ وليد غلميّة: «نحن وقود العبث». حاورته وفاء عوّاد. بيروت، مجلّة فكر، العدد 109- 110، آذار- نيسان- أيار- حزيران 2010، ص43.

16 ـ علي عبد الله خليفة: «استلهام التراث الشعبيّ في الأعمال الإبداعيّة بمنطقة الخليج والجزيرة العربيّة». المنامة، مجلّة الثقافة الشعبية، السنة الثانية، العدد الرابع، شتاء 2009، ص16.

17 ـ الأخوين رحباني وفيروز: «حوار قديم جديد». حاوره جان داية. بيروت، مجلّة فكر، العدد، 109- 110، آذار- نيسان- أيّار- حزيران 2010، ص130.

18 ـ علي عبد الله خليفة: «استلهام التراث الشعبيّ في الأعمال الإبداعيّة بمنطقة الخليج والجزيرة العربيّة». ص30.

19 ـ حسين جمعة: جماليّات التّراث وأثره في بناء الأمّة.

20 ـ د. عبد الله ابو هيف: «الغزو الثّقافيّ والمفاهيم المتّصلة به». مجلّة النّبأ، العدد 63، تشرين الأوّل 2001.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى