سعاده الإنسان والزعيم.. رسائل إلى ضياء

عبد الوهاب بعاج

الحبّ عند باعث نهضة الأمة أنطون سعاده هو قيمة نابعة من جوهر العقيدة، وهو كما يؤمن به «غايةٌ نفسية مثالية تتّخذ من الغرض البيولوجي سلّماً لبلوغ ذروة مثالها الأعلى حيث تنعتق النفس من قيود حاجة بقاء النوع ولذائذ أغراضه ويشاد بناء نفسي شامخ لحياة أجود، وحيث يصير مطلب الحبّ السعادة الإنسانية الاجتماعية الكبرى».

بعض رسائل الزعيم إلى رفيقة دربه الأمينة الأولى جولييت المير قبل زواجهما تظهر أنّ الحب بالنسبة إليه ليس إلا تعبيراً عن قيم الحقّ والخير والجمال التي آمن بها.

الحب..والايمان بالنهضة

قبل سفره إلى الأرجنتين نشأت بين سعاده وأدفيك جريديني حكاية حب، وقد بادلته الحب والإيمان بالنهضة التي يعمل لها. وكانت على استعداد لمرافقته رغم معارضة أهلها. لكن ذلك لم يحصل.

في بيونس ايريس تلقى سعاده دعوة لزيارة عائلة طرابلسية مكونة من الأم وشاب وبنات ثلاث أصغرهن جولييت.

تقول جولييت: «هاجرنا إلى بيونس أيريس ـ الأرجنتين وكنت في حداثة سني وقد حافظنا في الأسرة على التقاليد التي تأسّست عليها عائلتنا، وعلى رغم هذه التقاليد والمشاعر المرتبطة بمشاعر وتقاليد الأمة فإنّ الفرد قد يفقد كذلك المجتمع بكامله الشعور بجذوره الحقيقية.

كان والدي مقيماً في تلك البلاد قبل مجيئه إلى طرابلس وزواجه من والدتي، وفي الأرجنتين ولد له أربعة أولاد، ومع ذلك لم نجد في تلك البلاد جذورنا». م. الأمينة الأولى- 27- ط2 .

وتضيف: «توفيت ديانا الابنة الكبرى فتقرّر أن تذهب أمي في زيارة إلى الوطن مع أولادها الصغار، وكانت حينذاك حاملاً بي في شهرها الثالث» م. الأمينة -28- ط2

وبعد قسوة معيشة أيام الحرب، حيث استطاعت الأم تدبير أمر العائلة بالحدود الدنيا، حتى انتهت الحرب، وتجهّزت العائلة للسفر إلى الوالد، الذي توفي بعد سنوات من وصول العائلة إليه، وكان قد خسر أمواله، الأمر الذي حتّم على جميع أفراد العائلة العمل لتأمين معيشتهم».

وتتابع جولييت: «قبل وفاة الوالد كنت أعيش مع إخوتي ووالدي حياة هنيئة، أحاول جهدي كي أترك في نفسهم العائلة انطباعاً طيباً، وكنت أشعر مرات أنني كبيرتهم، وعلي أن أحلّ مشاكلهم العاطفية، فأحاول عند الأزمات العائلية أن أُبسِّط الأمور بطريقة أو بأخرى». م- أ- ط2- 49

وتقول: «لا شك أنّ طبيعتي ومزاجي كانا عاملين كبيرين في تكوين شخصيتي، وكنت أنفر من الأنانية ومن السطحية ومن الاستهتار، وعندما ألاحظ أنّ الجميع حولي يستهتر بشعور غيره، أنفرد وأنعزل، والاستهزاء كان بالنسبة إلي من علامات الضعف الشخصي، فأنفر منه، والأنانية كانت تجرحني بعمق، وكنت أهرب من السطحيات، لأنني أشعر بأنها تحولني إلى ألعوبة، هذه كانت غربتي بين الذين يحيطون بي، يحبونني ويريدونني من دون الدخول إلى أعماقي، من دون الدخول إلى عالمي». المذكرات-50

البحث عن الجوهر

هذه الشخصية وهذه الحالة أخذتا بالتغيُّر بعد ملاحظاتها للممرضات اللواتي تعمل معهن، وهم من جنسيات مختلفة، فقد كنّ يتصرفن بانفتاح وقوة شخصية «فقررتُ أن أعوِّض ما فقدته من تعبير نفسي، عن طريق هذا العمل الإنساني لينعكس علي بالثقة والتشجيع… فأصبحتُ محط ثقة واحترام جميع الأطباء والمواطنين». مذكرات 50

عندما بدأت الحرب العالمية الثانية، قرّرت الممرضات التوجه كلّ واحدة إلى بلدها، لتقوم بواجب خدمة قومها ووطنها، أما جولييت فقد تساءلت: «أين قضيتي لأخدمها»؟

في تلك المرحلة أصبحت جولييت في العشرين من عمرها، ولا بد أن تكون هدفاً للراغبين بالزواج، وهي لا بد أن ينصرف تفكيرها إلى ذلك، ولكن رغم صداقاتها مع رجال من مختلف الجنسيات، إلا أنها كما تقول: «لم أرد أن أكوّن عائلة يكون أبوها أجنبياً، كنت حينذاك أبحث عن مزايا مثلها في رجال أمتي… علي أن أصرف شبابي وعطائي في بناء بيت يعود بثماره إلى وطني إلى بلادي إلى شعبي هذه هي حقيقة نفسي». مذكرات-53

كان تردّد سعاده على هذه العائلة، قد أعطى نتائجه من حيث التوافق الفكري والإيمان العقائدي الذي أدّى إلى انتماء العائلة إلى الحزب، منضمّين إلى من سبقهم.

كانت الرفيقة جولييت تحضر الاجتماعات التي يعقدها الزعيم، والتي يتم فيها الحديث حول مختلف الأفكار التي تتعلق بالحزب والوطن.

بدأت جولييت تلاحظ أنّ الزعيم «يخصُّني باهتمامه، فيقصد الاجتماع بي وطرح الأسئلة علي، وأخذ رأيي في قضايا كانت محور الاجتماع، كما يبحث لا شك عما في أعماق نفسي ويثير صمتي، وأدرك أنه يبحث عن الجوهر في كلّ منا حتى يفوز بالقيم إذا وجدها يحركها لتعطي ثمارها». مذكرات 60

احتفال أول آذار 1940

تشكلت لجنة لتنظيم احتفال أول آذار 1940، وكانت جولييت بين أعضائها وذهبت اللجنة لتعود الزعيم المقيم في بانسيون، وكان مريضاً، فسأله الرفقاء عن صحته فأجاب بأنه قد تحسَّن، «والتفت إليّ قائلاً إنه مسرور بمجيئي لزيارته مع رفقائي وأنه يهنئني على تطوعي للسعي إلى نجاح الحفلة. شكرته وأنا أنظر إليه وقلبي ينكمش من الحزن عليه، دلائل التعب واضحة على وجهه، ولا أحد حوله يهتم بأمره وصحته، والذي نذر نفسه لأمته، أراه وحيداً مع الأمة لا يد تمتد إليه بحنان، وفي بيت غريب، ومن يدري ما يعانيه الزعيم من آلام نفسية». مذكرات- 62

وسعاده الذي يشكو «تعب الأعصاب والجهاز الهضمي، ما يمنعني من بذل المجهود عينه الذي كنت أبذله في الماضي ومن تصريف الأعمال في أوقاتها، فأضطر إلى الاهتمام بالأهم… آ-ج 6-205

وكان وحيداً في جهده وعمله، وليس من يساعده، وحتى من يساعده لا يحسن القيام بمهمته، الأمر الذي يضاعف تعبه، ما كان يتطلب نظراً لحالته الصحية التي لم تتحسَّن كثيراً بسبب افتقاره الشديد إلى الراحة منذ سنة ونصف وتزايد المتاعب بسبب اتساع نطاق الأعمال خصوصاً حين لا يحسن المعاونون القيام بمهامهم لذا قرر الزعيم

بعد يومين الإنتقال إلى الحمامات المعدنية القريبة «للتخفيف عن أعصابي، وخلال هذه المدة التي أقضيها بالحمامات، سأرتاح قليلاً من العمل. فتكون هذه أول فرصة أرتاح فيها منذ سنين من الجهاد المضني» آ- ج6- 263 .

لاحظت جولييت بخبرتها «أنّ الانفعالات النفسية ومواقف بعض المسؤولين من الزعيم في مواقف الشدة، والتعرض للتعب والسهر والملاحقات حين كان الحزب سرياً، من الأسباب التي زادت الاضطراب الهضمي لديه». مذكرات 71

وتقول جولييت : «كنت أشعر بتعبه، وكنت أتأثر لتعبه، وأتمنى أن أكون بخدمته الصحية، كنت أرافقه في صراعه، وأشعر بثقل العبء الضخم الملقى على عاتقه وهو وحيد في غرفته لا أحد يدري بآلامه، ولا أحد يخفف عنه هذه الآلام». مذكرات 73

بقيت فكرة أخذ الزعيم فرصة للراحة تشغل بال جولييت.

وبعد حفلة آذار التي شاركت بإنجاحها، وقرار عائلتها الصعود إلى الجبال كوردوبا ، حيث الطقس الجميل والهواء العليل والمناظر الخلابة والتي تشبه مناطق لبنان التي كان يحدثها عنها الزعيم، الذي بقي في بيونس أيريس في المشفى للعلاج وإجراء فحوصات ، بسبب ما يقاسيه من آلام في المعدة والأعصاب.

وأثناء وجود العائلة في المصيف، وبقاء جورج شقيق جولييت في بيونس أيريس، بعث الأخير رسالة نقل فيها رغبة الزعيم بالحضور إذا كان المكان مناسباً له، ليستريح.

اطّلعت جولييت على الرسالة، فسارعت تكتب للزعيم وصفاً دقيقاً للمكان مشجعة إياه على الحضور، فردّ سعادة برسالة جوابية معنونة باسمها، يخبرها أنه سيحضر خلال ثلاثة أو أربعة أيام. هذه الرسالة كانت مصدر إزعاج للعائلة، كونها خُصّت بها وحدها. الأمر الذي أدخل العائلة في جدال أو حوار، حول الاستقلالية الشخصية، والخروج عن الترابط العائلي. ونتيجة ذلك، فإنّ جولييت لم ترافق الأهل في اليوم التالي إلى المسبح، وبقيت لوحدها في الفندق، وإذ بسيارة تتوقف أمام الفندق يترجل منها الزعيم، فما كان منها إلا أن ركضت إليه تحمل عنه بعض الحقائب وهي تطير من الفرح.

وبعد أن أعلمته أنّ العائلة ذهبت إلى المسبح جهّز نفسه وذهبا معاً للالتحاق بهم، وعند رؤيتهم للزعيم ظنوا أنّ جولييت لم تبقَ إلا لإنتظاره، خاصة أنّ العائلة كانت تلاحظ الانجذاب والتقارب بينهما، الأمر الذي كان يخيفهم، ومدعاة لتحذيرات وتنبيهات الأم.

التقارب بين سعاده وجولييت

إنّ استقلالية شخصية جولييت، التي لم تعد بحاجة إلى التوجيه والوصاية، جعلتها تحسم أمرها وتزيل الحدود وأصبح التقارب بين سعاده وجولييت يتجاوز المعتاد، فإذا جرى حديث، أكثر ما يوجه منه إليها، وأغلب ما يحدثها عن الفكر والأدب والموسيقى، عاملاً على أن يجعلها قطعة منه.

كان الزعيم يجيد ركوب الخيل ويمارس هذه الهواية عندما تقوم المجموعة باستئجار الخيل للتجوُّل بين الجبال والغابات، أما جولييت فلم تكن تجيد هذه الرياضة، فكان سعاده المدرب والمعلم والموجِّه عن كل حركة يجب أن تتبعها، لهذا كانا منفردين عن الآخرين. حتى أنه لم يعد يروق لهما الجمع، حتى وصل بهما الأمر إلى تخطيط برامج خاصة للقاءاتهما، وأوقات خاصة بهما للسباحة، والتنزُّه بين الجبال والأدغال، وفي البيت يستمعان إلى الموسيقى، بينما هو يكتب، وهي تقرأ ما يكتب، وبانقضاء اليوم «تودع ذكريات المشاوير… وكان الزعيم ينظر إلى وجهي ليرى مدى تأثير الطبيعة علي، فكنا والطبيعة متماثلين هناك، حيث الزعيم في علوه، كنت أشعر أنه يرفعني معه». مذكرات-79

قبل أن تغادر العائلة المصيف، حاول الزعيم جعل هذا الفراق مبهجاً بالأحاديث المسلية والنكات الطريفة، والختام بنزهة سيراً بين الأشجار. وقد التقط حجراً، ضربه فانفلق نصفين، ناول نصفاً لها واحتفظ بالآخر، اجتمع النصفان ملتصقين، بعد الزواج.

زاد الضغط على جولييت من الأهل، لأنهم استنكروا التقارب الزائد بينها وبين الزعيم، فانزوت لوحدتها مستعينة بشعور من الزعيم حولها.

إلى أن عاد الزعيم وعادت الاجتماعات واللقاءات، والمرافقة بنهاية الاجتماع، والتعلل بتوصيلها إلى البيت، مع تقصُّد إطالة الطريق.

إلى ضياء

خلال وجوده في المصيف حيث بقي، بعد مغادرة العائلة، كتب سعاده إلى جولييت رسالة يذكِّرها بمتعة الرحلة، ومقدار تأثيرها الصحي على نفسه، ويلمّح إلى مدى حبه لها، ومختبراً ما وصلت هي إليه، من فهم له وحب، ومما كتب: «وددتُ كثيراً لو أنك كنت في هذه الساعة تسمعين هذه السمفونية الخامسة لبتهوفن إنها تمثل انتصار الحياة على العدم، إنها تمثل نفسيتك في صراعها الجديد، وفي اتجاهها نحو النصر، فمن يريد أن يعطي لا يمكن أن يكون سائراً إلى العدم، وإنه يسير على طريق الحرية والقوة، مع طريق الحياة». وتابع: «مما لا شك فيه أنه لا يسير على طريق الحياة إلا الأحرار والأقوياء لأنّ للحياة أعباءها، وبعضها ثقيل، لا تستطيع حمله النفس الضعيفة المستعبدة، وكم أنا مسرور لهذه الحرية وهذه القوة اللتين تتكشف عنهما نفسك، وكم أهنئك من كل قلبي، لأنك وجدت طريق السعادة النبيلة». رسائل حب إلى ضياء- 8 آذار 940

في الرسالة التالية 26 آذار 940 يطلق عليها اسم ضياء «أنت جولييت أسميتك ضياء، لأنك كنت ضياء لنفسي وسط ظلمة الحوادث والقضايا التي تكتنفني». إلى ضياء

ولما كانت ضياء تشعر بألمه وتعبه، وشكواه من المسؤولين المتقاعسين عن مساعدته، وتفضيل أمورهم الشخصية مما أدى إلى اعتلال صحته الجسدية والنفسية، لم تكن استجابتها تنحصر بالتوافق الفكري حين يحدثها عن الجمال والموسيقى والحياة ويطلب رأيها، وأيضاً «حول الحب وتعبيره في الحياة، كنت أحدثه وأشعر أنني أستيقظ بلذة إلى وجود هذه الحقائق التي أستطيع التعبير عنها وأرى من يفهمني ويفهم نفسي وأشعر أنني أنا نفسي قد التقيت بنفسي، بعد أن تعرفت على الزعيم، ورسالته، فأصبح لكلّ شيء معنى وغاية وسبب وجود.

كنت أدرك أنّ الزعيم بحديثه في كلّ هذه الأمور، كان يرغب بالتعرف علي وعلى حقيقة تفكيري ونفسي، وكانت هذه المناسبة، وكلّ المناسبات الأخرى فرصاً له ليكشف عما في أعماقي، وكنت أشعر أنّ ما يجذبه في هذه الحياة ويحبه كان له في نفسي عين التقدير، وكنت ألتقي وإياه في الاختبار». المذكرات- 77

اتجه سعاده نحو الخطوات الجدية، فدعا العائلة إلى حفلة شاي في بيته، وبعد الموافقة، وقبل الموعد، طلبت العائلة من جولييت أن تبلغه اعتذارها، إلا أنّ جولييت بدل أن تبلغه الاعتذار وجدتها فرصة وراحت في الوقت المحدّد تحمل باقة ورد وتطرق الباب، فتح وابتسامة الفرح على محياه، وكأنه ينتظر هذه الفرصة أيضاً، وأخذ يكلمها «عمّا في قلبه من شعور وحب… وقد طلب أن تكون رفيقة حياته». لم تُجب بأنها كانت «تتمناه، ولكن أمام الواقع شعرت بأهمية الموقف، وخطورة مسؤوليته» لأنها «تعرف أنّ الزعيم ليس لنفسه، وقد نذر حياته لأمته، فهل أكون أنا المؤهلة لهذا المكان قربه» الصمت بين التمنّي والتردُّد وحيرة ضياء.

«لعلّ الزعيم يعود ذات يوم عن هذا القرار، لعلّ المسؤوليات تجاه العائلة، تؤثر على حياته ومهمّاته، وأفصحتُ للزعيم عمّا في نفسي وأفكاري بصدق وصراحة بحرارة محبتي له، وتقديري الكبير له ولرسالته «إلا أنّ الجواب كان مؤكداً لاختباره وطلبه، وكان الجواب «لم يختر شيئاً لنفسه إلا وهو لمصلحة القضية» وتأكيده «أنا أحببتك كثيراً وأحببت أكثر شيء فيك نفسك العظيمة، إنّ نفسك يا ضياء جميلة جداً فحافظي على جمال نفسك أبداً وأنت تفهمتني، وتفهمين نفسيتي، فلا أحد غيرك قادر على أن يرافقني ويُخفِّف عني عبء المسؤوليات الكثيرة». بين النعم والـ لا، هل تقبل عبء قضيته حتى النهاية، وهل يمكن أن تفشل لو قبلت ذلك؟ بهذه الحيرة أرادت أن تصرفه إلى «الزواج من امرأة أجمل وأغنى، وقد تكون من الجو السوري، لها إمكانياتها في اللغة والعمل معك في ذاك الوسط». فكان جوابه دوماً «أنا بحاجة إلى من تحبني من أجل نفسي لا من أجل اسمي، وأنا وجدتك مؤهلة كي ترافقيني، ليس بالمال ولا الجمال تُخدم القضية». مذكرات- 83

قرار الارتباط ومعارضة القوميين

في أحد الأمسيات، كان الزعيم يرافق ضياء إلى طبيب الأسنان، وبعد الانتهاء وهما في طريق العودة إلى البيت، مبتهجين بهذه الرفقة، يستعرضان الأسواق والمحلات، وقفا أمام محل للجواهر، فسألها ألا يعجبك شيء، دخلا المحل وأشار إلى علبة خواتم، وضع أحدها في إصبعه وناولها الآخر لتضعه في إصبعها، وهي بين الدهشة والفرحة، أعاد الخاتمين إلى العلبة ودفع الثمن، فقال صاحب المحل: اتركها، غداً نكتب عليها الأسماء، فكان جواب سعاده، نعود إليك. تركا المحل وهي تقول: «أنظر إليه وأضحك إذ أنه لم يعلمني بتلك الفكرة، وذاك القرار، وكان يسألني، هل أنت سعيدة مثلي أم لا، وكنت أؤكد له فرحي وأضحك، وهو يضحك أيضاً، وكأننا أطفال ذاهبون في مغامرة ما، قال لي: نذهب إلى البيت ونطلب من الوالدة أن تلبسنا الخواتم، وهكذا كان».

كانت مفاجأة الأهل الذين عقدوا الاجتماع الفوري، وجرى حوار بين المعارض والمتخوف، إلا أنّ الحسم في هذا الموقف جاء من ضياء مخاطبة الأهل: «أليس من دواعي الغبطة لكم بأن أكون مرافقة لرجل مثل الزعيم، عدا عن أنني لم أسر معه، لهذه الغاية، بل لغاية أبعد، وأنبل وهي تتخطى موضوعي كشخص». مذكرات- 95

جرى الوفاق من هذه العائلة القومية الاجتماعية المؤمنة بسعاده، قائداً مفكراً، وزعيماً، وأحاطوا الخطيبين بالعناية والاهتمام والمساعدة.

هذا موقف عائلة جولييت، العائلة التي تفهّمت عوامل الحب والإيمان، والإقدام على التضحية التي التزم بها المحبان، وما كان عليها إلا المباركة والمؤازرة.

العائلة الأخرى، عائلة القوميين الاجتماعيين، التي لم تكن ترى في الزعيم، إنساناً من لحم ودم، ومن حقه طلب الحب والزواج والاستقرار العائلي والنفسي.

إنّ هذه الظاهرة عند القوميين قديمة ومتجدّدة، فهم يعتبرون الزعيم ملكاً للأمة بكلّ حياته وتصرفاته، وجهده وتعبه، أي لا حياة خاصة له، وهم غير مكلفين بأي جهد أو مساعدة له سوى أن يكونوا بالاسم مؤمنين به وبرسالته.

شملت هذه المعارضة مديريات ومنفذيات منها سنطس، توكومان، ولم يكن يخفى على الزعيم أنّ وراء هؤلاء مسؤولين، ففي رسالة إلى مديرية توكومان، قال: «بلغني أنّ بعض الأعضاء في مديريتكم أخذوا يهتمون بخبر وردهم، يتعلق بحياتي الخصوصية، وهذا أمر خطير جداً، أتعجّب من سكوتكم عليه تجاهي، وأنا قد وضعتُ ثقتي بكم، فأنا كنت أريد أن أعرف من الأعضاء أو من الناس له أي شأن في حياتي الخاصة ومن مِن الموظفين المسؤولين تجاهي له أي حقّ في التدخل في شؤوني أو في شؤون مكتب الزعيم، ليس في وسعي اعتبار ما حدث في توكومان من المخالفات للقانون ومن إهمال الواجبات القانونية، ومن الاهتمام بما لا يعني أحداً لا من الوجهة القانونية ولا من الوجهة الحقوقية، ولا من الوجهة الشخصية، بصفتي رجلاً حراً قبل كل شيء». آثار-ج8- 208

وإلى قوميي سنطس كتب «إنّ بعض ضعفاء الروحية والعزيمة وبعض ذوي المآرب المندسّين بين القوميين لقضاء لبانات لهم، اغتنموا فرصة غيابي في جبال كردبة ليتقوّلوا علي أنا ويشوشوا الصفوف متذرعين باطّلاعهم على أمر خطبتي رفيقة قومية فهمت موقفي، وأرادت أن تقف إلى جانبي وأنا في حالتي الصحية غير المرضية، وتقدم ما أمكنها من العناية بي. فأخذوا وهم من أقسموا يمين الإخلاص والطاعة يشيعون أنّ عملي ليس في محله، وأنه لا يجوز لي التفكير بأمر الزواج ، وأنه كان عليّ أن أستشيرهم». آ-ج8-229

بلغ الزعيم حدّ وصف هؤلاء المتقولين بأنهم «بلغوا في الوقاحة حدّ التعليق على خطبتي رفيقة قومية أرادت أن تكون معينة لي. بهذا الكلام لا يحقّ للزعيم أن يفكر في الزواج في هذه الظروف… إذا تزوج الزعيم فنحن لا نعترف بزعامته». آ-ج8-238

ليس هذا في المغترب فحسب، وإنّ مركز الحزب لم يكن بعيداً عن هذا التفكير، وقد ظهر من تصرفات المسؤولين عند عودة الزعيم ما ينم عن ذلك.

مع إيمان الزعيم بصدق ضياء، وكي لا تتأثر بهذه الأقوال بعث إليها برسالة في 7 تشرين الثاني 1940 جاء فيها: «كلّ يوم جديد أشعر بسعادة جديدة، لأنك كنت السبب في إيقاظي لنفسي، فأدرك أين أنا فأجدني في محيط من الذئاب الخاطفة، كلّ إنسان همُّه نفسه والجميع إلا الذين لا مآرب خصوصية لهم، وهم خراف يريدون أن يستعملونني ثم ينبذونني».

«كلّ ما أريده الآن ألا تذهب الزوبعة من يدي، بسبب وجودي في هذا المعزل، وأريد منك يا حبيبتي ألا تهتمي مطلقاً للموقف الانحطاطي الذي يقفه هؤلاء الخاملون، وانسي هذه المسألة بالمرة، فهي لا تستحق الاهتمام».

«حبيبتي كوني قوية كما أعهدك، ولنثق بمستقبلنا، إني أراه يقترب وأنتظره بهدوء، شاعراً أنك إلى جانبي، وأنّ مُثُلنا العليا ستنتصر في سبيل الحياة الجديدة».

«أنا أيضاً أريد أن أسلم لك، ولهذا أنا أقيم هنا هذه المدة ففي سلامي لك انتصار لحبنا، ونجاح للقضية القومية». رسالة 8 تشرين الثاني 1940 .

ويتابع الزعيم رسائله إلى ضياء: «أريد منك يا حبيبتي أن تصمي أذنيك وتطبقي عينيك على ما يجري في بيونس أيريس، قد أوصيت جبران مسّوح ألا يلتفت إلى شيء من كلام وأعمال الصعاليك، ونهتم بتهيئة أسباب حياتنا المقبلة». 15 تشرين الثاني 1940 .

«إني أحبك كما أنت، وكما تكونين بطبيعتك فحافظي عليها بكلّ قوتك ولا تدعي صعوبة تغلب إرادتك، في أن تكوني كما أنت، وكما تريدين دائماً وبكلّ حبي وشعوري أضمُّك إليّ وأقبلك». 20 تشرين الثاني 1940 .

إنّ «حبي لك ليس شيئاً عارضاً، فهو أقوى من كلّ العوارض، وإني أشعر أنّ حبك لي، هو كذلك، ولذلك كيف ما كان افتراقنا أو تلاقينا صانتاً أو صامتاً فيقيننا لا يصدّه شك». 17 تشرين الثاني 1940 .

وللتأكيد «لا يمكنك أن تتصوري إلى أي حدّ يبلغ شوقي إلى العودة إليك لنبدأ حياتنا الجديدة ونستقر في بيتنا، وإني أرغب أن تتم هذه الأمنية بأسرع ما يمكن، لذلك يحسن يا حبيبتي أن نفكر في الشؤون المتعلقة بهذا القرار». 27 تشرين الثاني 1940 .

أما جواب ضياء فكان: «عاد الزعيم من الجبال وفي نفسي دنيا من الحب والآمال ولم نخف حبنا لبعضنا ورغبتنا بإنشاء البيت الجديد الذي ساعد أفراد عائلتي جميعهم بتجهيزه، خصوصاً شقيقي جورج، الذي أراده أن يكون كما نرغب، كلّ شيء فيه كان يختلف عن سواه، يختلف في أسبابه وفي الروح التي تهيّأ له، وكان هذا البيت لنا وحدنا، وكما أردناه، وكلّ شيء وضعته فيه، كان يحمل عنايتي وذوقي، وكان له جمال خاص بنظر الزعيم الحبيب، ستائر النوافذ كانت ناعمة نعومة عواطفنا، وعلى كراسيها كمّ من الساعات كنا نجلس، ونتحدث بقلوبنا، بعيوننا، ونحن ندري أنّ كلّ شيء وُضع في هذا البيت كان فيه القصد الأقصى للبهجة والراحة، تلك الأشياء الجامدة، التي رافقتنا، لم تعد جامدة بنظري بل كانت أشياء اشتركت معنا في ساعات هناء، وأصبح لها رمز حياة، هذا البيت الصغير الجميل كان لي فيه قدسية، كان فيه قلبان يخفقان معاً.

كان فيه حب يتدفق على الأمة.

كان فيه صفاء الربيع وأنشودته.

هذا البيت الصغير الجميل فيه قضية عظيمة». المذكرات- 93

تتوافق هذه الأحداث مع ما وضعه وخطط له سعاده، في قصتي «عيد سيدة صيدنايا»، و«فاجعة حب».

الأولى والحب الكبير الذي تكلل بالزواج بعد المعاناة، والثانية مأساة كما رآها وأكثر.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى