بعد اليمن: المنطقة على عتبة متغيرات ومخاطر كبرى

العميد د. أمين محمد حطيط

دخلت المنطقة الآن ومن البوابة اليمنية مرحلة استراتيجية خطيرة، قد تفضي بعد سنوات، إلى حلول لأزماتها بعد مخاضات نارية صعبة، يراها البعض مدخلاً إجبارياً لرسم حدود فضائه الاستراتيجي. ومن الخطأ الظن أن الشأن اليمني بالشكل الذي جرت الأمور فيه، هو شأن داخلي محصور في حدود اليمن، لأن الحقيقة كما نراها أن اليمن تحولت بعد الذي حصل إلى مدخل للتغيير ولم تكن هي منتهى العمل التغييري، فالحركة الشعبية اليمنية التي أفضت إلى إسقاط الحكومة وإرساء منطق الشراكة الوطنية في الحكم، هي حركة ذات أبعاد ثلاثة داخلي محلي، وخارجي إقليمي ودولي، وإسلامي ديني.

في البعد الداخلي، يمكن القول إن «أنصار الله الحوثيين» قادوا حركة شعبية إصلاحية، ترمي إلى إسقاط نهج الإقصاء والفساد في الحكم، وتبتغي إقامة حكومة الشعب التشاركية التي تتخذ من المصالح الشعبية هماً أساسياً لها، وقد برعت حركة أنصار الله في هذا المجال، إذ إنها لم تستثمر انتصارها الميداني وتضع يدها على مفاصل الحكم بشكل استئثاري، بل أصرت على إشراك جميع من يقبل بمشاركتها في العملية السياسية وتحمل أعباء المسؤولية الوطنية في الحكم، سواء من الذين شاركوها التحرك والانتفاضة كالحراك الجنوبي والمؤتمر الشعبي، أو من الذين بقوا خارج التحرك كحزب الإصلاح. وباتت الأمور اليوم بيد اليمنيين ولهم أن يختاروا بناء سلطة الجميع والدخول في مصالحة وطنية حقيقية أو الاستنكاف والاستمرار في حالة عدم الاستقرار.

على صعيد البعد الإسلامي، قدمت قيادة الحوثيين أنموذجاً فذّاً للإسلام في تعامله مع الآخر، خلافاً للفكر الوهابي التكفيري، ففي حين نجد أن هذا الأخير أنتج التنظيمات الإرهابية التكفيرية كالقاعدة وبناتها من النصرة إلى داعش وسواهما، نجد الإسلام الذي يعتنقه الحوثيون الذين يصفهم الوهابيون بالرافضة لأنهم على مذهب من مذاهب الشيعة ، يسعى إلى الشراكة الوطنية ويرفض الاقصاء ولا يقبل فكرة التكفير، ويدين أساليب الإجرام والقتل كلها ويعمل على حفظ الدولة ومؤسساتها لتأهيلها لاحقاً في سياق العملية الإصلاحية التي يبتغيها، خلافاً لسلوك التكفيريين القائم على الهدم والاجتثاث الكلي لكل شيء، وفي هذا صفعة مؤلمة للصورة الوهابية التي تعتمدها السعودية.

أما في البعد الخارجي وهو برأينا الأهم، فإن هناك نوعاً من عمل زلزالي استراتيجي يضرب المنطقة انطلاقاً من الركن اليماني فيها، إذ إن اليمن، وطيلة عقود طويلة كان الحديقة الخلفية للمملكة العربية السعودية التي تمارس عليها سيطرة وتحكماً شبه كامل، ثم إنها كانت تتخذه قاعدة لإطلاق فضائها الاستراتيجي بطبقاته الثلاث الخليجية والعربية والإسلامية. أما اليوم ومع سقوط حكومة السعودية في اليمن والبدء في العمل لتشكيل حكومة وطنية تشاركية تملك قرارها وخياراتها التي لن تكون قراراً سعودياً بعد اليوم في ظل وجود الثقل الحوثي في هذه الحكومة، فإن أموراً كثيرة ستتغير وسيتجاوز التغيير الشأن السعودي المباشر، ليتوسع فيشمل المنطقة برمتها حيث للسعودية مطامع في امتلاك النفوذ والسيطرة عليها، والأدهى من ذلك هو ما تخشاه السعودية من تنسيق وتعاون مستقبليين بين حكومة اليمن الجديدة وحكومة طهران.

على هذا الأساس، فإن خروج اليمن من القبضة السعودية سيفعل فعله سياسياً واستراتيجياً في أكثر من اتجاه، أولها الاتجاه الداخلي السعودي، إذ ستشعر السعودية بالقلق والمرارة لخسارة منطقة نفوذ تشكل نواة فضائها الاستراتيجي الحيوي، ولقيام دولة على حدودها الجنوبية لا تنسجم معها في الخيارات السياسية، وتتناقض مع بعض مكوناتها في المسألة الدينية، وهي في كل الأحوال لا تملك القوة العسكرية الكافية لردعها أو إخضاعها، وسيكون لهذا الشعور بالقلق أثره في الخيارات السعودية في السياسة الإقليمية بشكل عام.

ومن جهة أخرى، إن خروج الحديقة الخلفية السعودية من يد الرياض، سيشجع دولاً أخرى في الخليج على السعي إلى حذو حذوها والسعي إلى التخفيف من وطأة القبضة السعودية عليها، ويأتي في طليعتها دولة الإمارات العربية التي قد تجد فرصاً مناسبة للتملص من القرار السعودي ورسم سياسة إماراتية شبه مستقلة تعيد إلى الأذهان الصراع التنافسي بين آل نهيان وآل سعود، ما سيضيف عوامل تفكك جديدة لمجلس التعاون الخليجي الذي قد تجد السعودية يوماً أنه لن يستوعب أكثر من دولتين أو ثلاث على الأكثر.

أما على الصعيد الإقليمي والعربي، نجد ابتعاد السعودية من مضيق باب المندب، ووهن ارتباطها بمضيق هرمز، وغموض علاقتها بقناة السويس، عبر العلاقة الغامضة حتى الآن مع مصر التي تبحث عن مقعد إقليمي استراتيجي يناسب جغرافيتها السياسية، مقعد لن يكون في أية حال خلفياً وراء السعودية، فالرئيس السيسي لن يتقبل فكرة التبعية للسعودية والقبول بما يروّجه السعوديون بأن المرتكز العقائدي للإسلام عندهم وليس للآخرين إلا وظيفة الدعوة فقط، ويختصرون الأمر بالقول «لنا العقيدة ولمصر الدعوة عبر الأزهر»، كل هذا لن يكون مقبولاً من قبل الحكومة المصرية بقيادة السياسي الذي يطمح لعلاقة ندية مع دول المنطقة إن لم تكن قيادة بعضها، لكنه لن يكون تابعاً لأحد بما في ذلك السعودية على رغم ما تعده به من أموال لدعم الاقتصاد المصري.

لقد استماتت السعودية في العبث بالشأن العراقي لمنع قيام حكومة عراقية لا تكون أزمتها بيد الرياض بذريعة أن أية حكومة لا تنقاد لها ستكون حتماً تحت السيطرة الإيرانية، وذهبت إلى البحرين عسكرياً لمنع الإصلاح السياسي بذريعة أن الإصلاح سيجعل الشيعة وتالياً إيران شريكاً لها في قرار الدولة، كما أنها ألقت بكل ثقلها من أجل الإطاحة بالحكومة السورية بقيادة الرئيس بشار الأسد لا لشيء إلا لأنه يعتمد المقاومة منهجاً يسير بمقتضاه للمحافظة على سورية والحقوق الوطنية والقومية ويتحالف استراتيجياً مع إيران من أجل ذلك، وأخيراً عطلت الحياة السياسية في لبنان لأن الحكم في لبنان أفلت أولاً من يدها، ثم لأنها تأمل أن تنهار محاور المقاومة، ما يمكّنها من الاستئثار بالقرار اللبناني منفردة مع إقصاء الآخرين جميعاً.

في ظل هذه المساعي، يأتي الحدث اليمني وينزل على السعودية كالصاعقة، التي تفسد عليها كل الأحلام وتعرض آمالها بالمحافظة على فضائها الاستراتيجي المثلث الأبعاد للخطر الشديد، من أجل ذلك نرى السعودية تغدق الأموال بسخاء كلي على ميادين القتال القائمة أو المرشحة للانفجار في المنطقة كما هي الحال في لبنان، ومن أجل منع تحول هذه الدولة أو تلك إلى ما يشبه التحول اليمني. وهنا يكمن الخطر الشديد الذي نراه في الأفق نتيجة تقاطع المصالح السعودية مع المصالح الأميركية في المنطقة، ولأجل منع هذا التحول قام التحالف الإقليمي الغربي بقيادة أميركية لتحشيد القوى تحت عنوان محاربة «داعش»، مع هدف خفي مستتر هو الأساس كما نراه في كل هذا التحالف، هو منع انتظام العلاقة وتناسقها بين الدول العربية الثلاث العراق وسورية ولبنان مع إيران ومنع تشكيل المحور القوي المناهض للاستعمار الأميركي والهيمنة السعودية.

على ضوء ذلك، نرى أن الزلزال اليمني عجّل في الانفجار الإقليمي الذي سيبقى إلى حين تحت السيطرة التي تمنع وصوله إلى حرب شاملة، كما تحول دون إخماد ناره للاستعادة الاستقرار، وهذا هو بالضبط ما كنا أشرنا إليه سابقاً بوصفنا للمرحلة المقبلة من الحرب بأنها حرب استنزاف مؤلمة، سيكون جديدها دخول مشاركين جدد وزج مناطق ودولة جديدة أخرى فيها، وبهذا يجب أن يفهم ما ألمح إليه وحذر منه السيد حسن نصر الله في كلمته الأخيرة، مبدياً الاستعداد لمواجهة الخطر على لبنان وواثقاً من الانتصار.

أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى