الديوان السوري المفتوح… بطاقة عشق في زمن الحرائق
محمد رستم
عجزت شرنقة الذاتية أن تسجن رؤاه الشعرية، فنداءات أمه سورية تمور في أعماقه بركان عشق، لذا انتفضت أحاسيسه وهو يرى كيف بات الزمن يقترن بالوجع والعتمة ونعيق الغربان، وبدا الواقع ينبعث ناتئاً حادّاً يبعث على الرعب وشلالات الدم السوري باتت مطراً يومياً.
ولأنه يدرك أن دور الأدباء رياديّ في معركة الوطن وهو يمزّق حجب الظلام، فالأدباء يحملون شرف الكلام السامي، وهم يعملون على تدميث الروح وتحويل النفس إلى كينونة حضارية.
لذا، فقد حرص على أن تكون حروفه مشاعل نور تطيح بهلاميات الفكر البدائي المتخلف. فهو يعلم أن حماية ظهر حرّاس الفجر يكون بشعاع الحرف الوطني الشفّاف.
لذا، فقد تأبط الكلمة سلاحاً يذود بها ويحيك منها رحماً وقائيةً لفرسان النور ظلّ اللّه على الأرض.
فانطلق ينافح بلا هوادة جاعلاً الكلمة قذيفة والديوان السوري المفتوح أحد أهم أسلحة التدمير الشامل للأفكار السوداء السامة.
ولأنه معلّم في مدرسة البوح، ويرى بعينَي زرقاء اليمامة، فإنه ارتأى أن يتابع مسيرة أسلافنا في مواجهة حرائق الجهل بندى حروف النور المطرّزة بدفء الوفاء للإرث الحضاري والتشبث بالهوية السورية.
وهاله أن يرى زُناة الليل، وبراغيث المستنقعات الآسنة، فطريات الظلام،
ووحوش ما قبل التاريخ، وهم يعملون على إعادة إنتاج الجهل والتخلف،
ورأى أن واجبه التصدّي لهم وحشرهم في قمقم الهوامش التالفة،
فرماهم بالديوان السوري المفتوح، الذي أراده حماماً زاجلاً يحمل طيّ أوراقه رسالة سورية الحضارية التي عزفت سمفونيات حبّ على مدّ العصور.
أراد لكلّ قصيدة أن تكون نجمة تنير عتمة الدرب، تحكمه في ذلك
شهوة ترميم ما تهدم والوصول إلى واحات الأمان.
ويريد للديوان أن يكون سليل جذور ضاربة في عمق المكان تتشبث بأمجاد وطن تجهد رياح السموم أن تجعله يذوي ويتهاوى، يريده أن يكون شهقة الحياة للانعتاق من مستنقع الواقع والإطلالة على ألق المستقبل. لذا، تعزف حروفه أنغام العشق الوطني. فتترنم أرواحنا مع أناغيم الجمال المتهادية في تراتيل الوله والعنفوان.
وكان للديوان شرف النقل الحيّ والمباشر لتلك اللحظات القاسية من حياة سوريتنا.
وقد رأى فيه الأديب أحمد علي هلال مشروعاً تنويرياً، وقال عنه الشاعر عبد الكريم الناعم: «هو مشروع كبير يسدّ ثغرة في غياب المجلات الأدبية الفاعلة التي كانت تربط أقطار العروبة ببعضها». ووصفه الأديب غسان كامل ونوس بأنه اخضرار بظرف متصحّر وهو توثيق إبداعي وضروريّ.
ورأى فيه حفيد عبد القادر الجزائري الأديب محمد الصالح الجزائري قلباً شامياً بأوردة إنسانية. يضخّ دم فرسان نبلاء غايتهم شموخ سورية إلى أبد الآبدين.
وقد حدّد مؤسسه، الأديب الشاعر حسن سمعون، هوية المنجز من خلال التسمية «الديوان السوري المفتوح»، إذا هو سوري الهوى، ويفتح ذراعيه لكلّ عشّاق سورية. همّه ترسيخ الهوية السورية ولملمة شظايا المرايا المهشّمة من لوحة الفسيفساء السورية التي تطايرت على قارعة الزمن الفاجر.
فجمع ما جادت به قرائح أرباب الحرف الراقي المشعّ ألقاً وطنياً الذين راحوا يسكبون على شرشف الضوء أوردة أرواحهم أنغاماً متعدّدة الألحان، يسرجون كبرياء الحرف ويروّضون أعنّة الهمسات لترتقي فضاءات التألّق في عرس قيامة الوطن.
يبدعون في معظم الأجناس الأدبية ومن جهات الأرض كلّها. تجمعهم لُحمة العشق السوري. فوثّقوا بالحرف المغمّس بنجيع الروح لحظات قاسية كانت أمّنا سورية قاب ارتعاشتين وتنهّدة من حافة الهاوية.
ولكنّ الفينيق، الذي هو السوريّ أباً عن جدّ، انتفض من تحت رماد الموت، وقام الوطن المذبوح، يمدّ ذراعيه رغم الألم ليحتضن ـ وبحنان الأمّ ـ من ضلّوا الطريق.
وفكرة هذا المنجز الوطني السامق بامتياز لم تأتِ من فراغ، بل من هاجس متأصّل في أعماق الشاعر. ففي أيّ حوار معه، يحيلك إلى خارطة الوطن يطوف بك في أرجائه طواف التبرّك. فهو مسكون بسوريته،التي تشكل جغرافية فكره.
وكطيف حلم ممتع يرتحل بك على بساط الحرف معاكساً تيار الزمن فيوغل في أعماق الحقب، ويحرص على ألّا يتجاوز تخوم سورية فها هنا روحه وهواه. لذا يشكّل هاجس العشق السوري لُحمة أدبه وسداه، وكوّنت الميثولوجيا السورية قاع ذاكرته وخيوطها نسيج فكره.
تتعشق هيلانة حين يصفها لك، وتقدّس إنانا على السماع، وتقف احتراماً لبعل حين ترسمه لك ريشته الفنية… ويغريك بأن تعبّ من دن أوغاريت وخابية عشتار. وينتشي وهو يعدّد لك الملكات السوريات اللاتي حكمن روما حين كانت تفرد جناحيها على العالم.
وبعدما يزفر بحسرة ممّا يجثم على صدره من آلام الواقع، يرفع بصره إليك ويقول: «عند قدمَي زنوبيا ما يزال التاريخ راكعاً».
وبلغة الواثق يكمل: «هكذا، نحن السوريين، كنا وسنبقى حَمَلة مشعل أصحاب حضارة». وإذ يحدثك يفوح من حروفه عبق الصعتر البرّي ونكهة الدردار وطعم الهندباء، ويهمس لك باعتزاز: «إنني ابن الأرض، الذي على بازلتها نقش المسمار السوري أبجدية الحياة». فتكبر الحروف لتغدو بيادر قمح وقداسة زيتون ونقاء، تعزف على ناي العشق ألحان الكروم والبيادر، فترقص الأرواح على إيقاع الميجانا والعتابا.
لكنه لا يودعك قبل أن يتأكد أنه غرس في قلبك بذور الأمل. فهو يبشّر دائماً بالخلاص قائلاً: «لقد قام الوطن… حقّاً قام».
كيف لا والوطن سورية، سورية الشام، وما أدراك ما الشام؟
هي مسقط رأس الشمس، بِاسمها لثغ التاريخ وهو يتهجّى أوّل حرف في سجلّ البشرية. فغدا كلّ حجر فيها يروي لك ألف حكاية وحكاية تصل حدّ الأساطير. لك أيتها السورية نرفع رايات المجد. ولكلّ من يعشقك ألف غيمة عطر.
كاتب سوريّ