رواية «الانتزاع»… برهة حوارية لاستحقاقٍ إبداعيّ
أحمد علي هلال
توطئة…
حالما فرغت من قراءة رواية «أرض السهل» وعيش مناخاتها، والتجوال في خطوط سردها، لم أغلق الكتاب/الرواية، فقط تركته مفتوحاً على ذاكرتي وبذكرتي، وبدأت الانتباه بعين فاحصةٍ لأستخلصَ من معايشتي متونها الحكائية، أن الروائيّ موسى العلي المبدع الذي سكنه هاجسُ التعبير الروائي، قد استأنف ما يمكن أن أدعوه بأدب المقاومة تأسيساً ورؤية، ليس لحيازته، سمات أدب المقاومة من التفاؤل الثوري، والولادة من رحم المأساة، والتبشير بالنصر، كما تواضع على ذلك درسنا النقدي، بل لأنه حرَر المعنى في منظومة المقاومة، لا سيما المعاني الفكرية التي تستعيد بداهات الصراع ومنطلقاته، المسبوقة بصيرورة الوعي لينتج معرفة، وهذه المعرفة إن أنتجت بدورها في غمار الرواية بوصفها جنساً إبداعياً له خصوصيته وفرادته، أي في استثمار وجهة النظر أو الرؤية ـ الرؤيا، فستذهب بنا إلى تأمل كيفيات الصوغ السردي ـ الروائي، وطريقته ـ خطابه، مضافاً إليه ـ بطبيعة الحال ـ توظيف تلك القيم الفكرية، ليتعاضد في النسيج الروائي المستويان الفني والفكري، ما أقصده هنا أن ثمة مشروعاً لدى مبدعنا ـ العلي ـ سوف تحمله شواغله الروائية اللاحقة في غالبيتها الأعمّ.
إذن، ثمة صيرورة لتلك الهواجس المشروعة حقاً في سياق ما يدَونه الروائي وما ينتخب له من عناوين دالّة بزخمها اللغوي والإيحائي والدلالي، وهذا ما يقودنا في هذه البرهة/ الإضاءة، إلى روايته الراهنة «الانتزاع».
وعلى رغم الكثافة التعبيرية التي يستبطنها العنوان، كدالّ نحويّ، ثمّ موضعته في منظومة إشارية كعتبة أولى للرواية، إلا أن الروائي سعى إلى انفتاح دلالة العنوان في متون روايته، لتأخذ في كلّ منحى، معنى يوسع حاملها اللغوي، وفي غير سياق، لترد في تواتر مقصود، لا يقصر دلالتها على معنى بذاته، لتكَرر غير مرة كاشفة مضمرها، ومشكّلة في الوقت نفسه حافزاً تأليفياً. وعليه، فإن دلالة العنوان سوف ترد وفقاً للسياقات التالية، منها بوصفها عملية الانتزاع للضمائر والبصائر، أو انتزاع القلب، الانتزاع الأبدي، انتزاع القلب والكرامة، وهكذا. ولكن، أين يجري ذلك الانتزاع، إنه في الفضاء أو الحيّز، السجن الذي يقاد له «ناصر»، البطل الفرديّ ـ الجمعيّ الذي سوف تبدأ معاناته مع «الجنرال» المتعاون مع الاحتلال، على أن الروائي وهو يجعل من «السجن» بؤرة روايته ومسرح فعالياتها السردية بدرامية اللغة، وتراكيبها المُفعّلة لدلالة «الانتزاع» على المستوى الرؤيوي والبلاغي، فإنه لا يكتفي به، إنما جعل منه مَولِدَ فضاءات أخرى، تجري فيها فعاليات المقاومة برموزها: «عماد» و«مريم» و«سكينة»، وفي المقابل «عمران» و«الجنرال» نموذَجَي الاستبداد والعمالة مع أعداء الوطن.
على خطّ أفق ذلك التوازي، تنهض رواية «الانتزاع»، لا بوصفها رواية «أدب السجون»، فذلك الوصف الغائم والملتبس يحيل إلى عموميةٍ، لا تتّسق من وجهة نظري إلا بما يخدمُ درساً نظرياً مجرداً ناقص الدلالة، والأصح وصفها بأدب الحياة، الحياة في مواجهة نقائضها من القبح بكل مسمّياته وتعييناته برمزية الجنرال وأعوانه، و«عمران» وفلسفته للتفاوض مع الاحتلال، وبانفتاح دلالة المقاومة الفردية والجمعية، المقاومة لا تكون بإرادة منفردة، إنما هي إرادة وصنع شعب. هذه المقولة التي سوف نرى تعميقاً لها في ما يمكن تسميته بالبرنامج السردي المؤلف للرواية، انطلاقاً من بؤرة مكانية يمثل فيها «ناصر» ـ وعلينا الانتباه إلى دلالة اسمه أيضاً ـ راوياً ضمنياً، وراوٍ ضمير يمثل ميثاق الحكاية، وأزمنتها التتابعية، وما يشتق منها من مفهوم الزمن الزنزاني، واللحظة الزنزانية، واليوم الزنزاني، واللافت محاكاتها معنى عذابات الشخصية الرئيسة ـ «ناصر» ـ الزمن فيها قطرات من العذاب والصبر المرير، وأيّ عذاب وصبر، إنه عذاب الزنزانة.
ويلفت الكاتب إلى أنّ الزمن الزنزاني عصيّ على الوصف، لا يمكن لكاتب أن يصل بقارئه إلى إدراكه، وإن حاول فإنما هو يطحن الوهم وقد يصيب قارئه بطرفة من زمن زنزاني.
لذا، يبرع الروائي في تصوير عالم الاعتقال الرهيب، وفي رسم لحظاته واستقراء زمنه الخاص بموازاة ما يبدع في ظلمته السادرة، وما يرد من تفاصيل جوانية ولحظات صراعية بوصفها صورة من عالم تتبادل الظلمة والنور، المواجهة والتحدي، الألم والأمل أدوارهما على خشبة طليقة هي «الزنزانة» وبما تحمله من كثافة تعبيرية تستحق منهجاً نفسياً لمقاربتها فهي خلاصة إنسانية وخبرة ادراكية شعورية بما يغني ذلك المنهج من دينامية الانزياح القهري ومعادله التحدي كإبداعٍ مكتف يخلق حوافز حريته، وكمعادل للهشاشة كيف تصير صلابة، فتمهيداً لتأسيس فكرة المقاومة بمعنى أن الأبعاد السيكولوجية لذات البطل/ الشخصيته، ستصبح قيمة مضافة للرواية برمّتها.
فـ«ناصر» المواطن الذي لم يأت من بلد آخر ولم يتآمر على وطنه، إنما جاء آخر لينتزعه من وطنيته، هو الذي سيعطي «الانتزاع» دلالته الحاسمة، وهو الذي يقوم بالفعل الرئيس وعليه تعلّق الآمال، لينهي واقعاً بعينه، ويبدأ ما هو أسطوري، يعبر رحلة عذابه القصوى وألمه المطلق، الذي لا ألم يطاوله، ولا يمكن لإنسان إدراكه أو تصوّره من دون معاناة. ليصمد أمام سجّانية، يصمد في عملية الانتزاع، ويتاح له أن يبتكر طريقة للحوار مع زميل وراء الجدار، تلك النقرات المدهشة التي تتهجّى الأسماء والمواعيد وشكل الزمن، وأن يجد سلكاً معدنياً سيصبح أداة للكتابة، وأن يتأمّل ـ كمبدع ـ فراشتين أصبحتا نزيلتَي زنزانته، لا يدري إن كانت مفاهيمه قد توحّدت مع مفاهيمهما، أو ذلك الجُعل الذي تسلل إلى عزلته متسلّقاً الجدار الرطب، فيسقط معيداً المحاولات الفاشلة للصعود، يقول: «كل الجعل سلكت الطريق ذاته».
يذهب «ناصر» إلى صوغ رؤيته الفلسفية في الكون والوجود والأفكار، يتساءل عن الحياة والهدف من وجوده، لماذا يعيش، ولِمَ أنجبَ، ولماذا حَد ذاته بأذهان الخلق وهو قادر مطلق الحرية في أن يقرر الوجود أو العدم.
من دون أن يغيب عن الذهن أن ذلك النزوع الفلسفي/ التأملي، ليس مجانياً أو تزييناً، بل هو حافز إضافي، نصّي ليستنهض الراوي العليم أسئلة الحرية، لو يشاء تعميمها على الوجود والطبيعة والانسان لتنفتح مغاليق الكون، ويبدو الانتزاع في وجهه الآخر تجذّر وانتماء وبحث مضني عن الهوية والوطنية والا ختلاف، وفي ذلك تتعيّن الرواية بفضائها الواقعي والاجتماعي والفكري، وفي منظورها السردي الحامل كثافة المقولات والأفكار، وما تبثّه أنساقها ومضمراتها على مستويين: الأول أعداء الوطن والشعب، لاسيما نموذج شخصية «عمران»: «الذي يريد أن يتم الاستقلال وإنهاء الاحتلال على يديه بالمناورات واللعب بالديمقراطية السياسية التي لم ولن تفلح يوماً في تحرير الشعوب من الاستعمار»، والثاني نموذج أفراد عائلة «مريم»، الذين يؤمنون بما تؤمن، هم مع المقاومة والشعب، لكنهم ليسوا منخرطين فيها، غير قادرين أن يرتقوا إلى مستوى نضالها.
رواية مشبعة بموضوعها ومستبطنة لتاريخ بعينه لكنها تنهض على أكتافه لتبّث رؤية وسيرة مواربة، تفيض عن الميثاق الأوتوبيوغرافي، «السيرة الشخصية» لتستنبت سيرة لزمن جديد يختزن إرهاصاتٍ لتجدّد فكر المقاومة، خارج زمن «الجنرال» و«عمران» في نهايتهما التي تجهر بهما الرواية كإعلان لارتحال الظلام، فالوطن كلّه يتلألأ تحت شموس لا تغيب. والناس يلفّهم إعصار النصر، يتّحد المجموع «ناصر» و«سكينة» وأبناؤهم و«عماد» و«مريم» بفارس المقاومة وبطلها. تبرع الرواية هنا باستدعاء مفهوم البطل وتخليق الفضاء المحايثة له، وتستدعي الحرية للمقاومة، بضميرها الجمعيّ «كلنا للقضية.. لا فرادى». ذلك ما قالته «مريم» بنموذجها النسوي المقاوم، بمشروطية الوعي والثقافة اللّذين يتردّد معادلهما الجمالي والفكري في نسيج رواية تتداخل فيها سير شتى، تتّحد لتجد جمعاً، لا فرداً يقاتل من أجل حرية الوطن ومن أجل الدفاع عن القيم الأخلاقية والوطنية التي ينتمي إليها المثقف، واستنهاض بعد معرفيّ قوامه معرفة المعارف التي راكمها النسق الثقافي من أجل الاستمرار بها وتطويرها.
في مستوى آخر، تظهر الرواية علاقة عضوية مع الواقع، لكن الواقع بمنظورها، يحيلنا إلى زمن وقائعي يجعل من متخيّل الحكاية داخل الرواية واقعاً مزدحم الصور والعلامات، يشي زخمها الوصفي بوظيفة خلّاقة لما يمكن أن يقودنا إليه أدب الحياة والتقاط لحظات التاريخ الفاعلة التي لا تجعل الرواية تاريخية خالصة، بقدر ما تكون هي تاريخها. وهكذا، فإنّ «الانتزاع» لم تستغرق في جدلية الشكل والحداثة، كي لا تنفصل ببنيتها خارج موضوعها، وإن كان لا يستقيم الفصل بين الشكل والموضوع، أزعم أن موضوعها هو شكلها بقيمه التعبيرية المضافة ليحاكي مدوّنة لا تتأسس بغير تاريخها، كنهر يحفر مجراه، وفي الحفر يأخذ شكله الجديد، تلك طريقته وخصوصيته في آن، تمنحانه جماليته الخاصة، أي: مثلما يحتضن الغصن الماء الرطيب، فإن إرادة الحرية تحتضن إرادة الإنسان المقيد، تلتفّ على القيد وتكسره.
أسلوبية رواية «الانتزاع» للروائي موسى العلي تجعل من الثقافة بطلاً، وتجعل من الرواية بذاتها في مهبّ ذهب الأسئلة المنتجة للنوع الروائي الذي لا يتوسّل التقنيات، وضروب التكنيكات الروائية، بقدر ما يؤسّس لأدب لا يحيل على الوطن من حيث هو تداخل بين أرض وتاريخ، إنّما يحيل أولاً على الانسان الحالم بإعادة صوغ التاريخ والانسان والوطن. وأجدني في مقام الامتنان للمبدع موسى العلي الذي جعل من واقع الرواية إعادة لتأويل واقع آخر، بوصلته المقاومة ضدّ الغزاة الصهانية، باختباره الشكل المعرفي أو الوضوح المعرفي، وفي الرهان على ثقافة ترتقي إلى مفهوم الوطن، وأن عامر أرض السهل هو عامر الانتزاع، وأن الرائعين غسان كنفاني في «ما تبقى لكم»، وسحر خليفة في «لم نعد جواري لكم» روايتيهما الشائهتان وقد انضافت إليهما «الانتزاع»، ليكون أدب الحياة مقاوماً لأنه آتٍ من المستقبل من عشق الشرق والامتلاء به.
كاتب وناقد فلسطينيّ سوريّ