النوم مع الشيطان…
أسامة العرب
منذ بضعة أشهر، أعلنت الإدارة الأميركية الجديدة حربها على الإرهاب بالتزامن مع تصريحات أطلقها الرئيس دونالد ترامب تفيد بأنّ التنظيمات الإرهابية ككلّ كانت صناعة الإدارة الأميركية السابقة، وبأنّ الحرب التي أعلنتها الولايات المتحدة الأميركية من قبل لم تكن حرباً حقيقية، وإنما أشبه بمسرحية هزلية.
وكثيراً ما أثارت دهشتنا تصريحات السياسيين الأميركيين القائلة بأنّ الحرب مع التنظيمات الإرهابية سوف تكون طويلة الأمد، وبأنها قد تستمرّ لعقود عدة، لا سيما أنّ هذا الكلام ليس ملقى على عواهنه أو نوعاً من التمنيات، وإنما يدخل في نطاق تنفيذ أجندات شيطانية، كمشروع برنارد لويس التفكيكي والذي وافق عليه الكونغرس الأميركي بالإجماع في جلسة سرية لتفكيك كيانات جميع الدول العربية والإسلامية، وتفتيت كلّ منها إلى مجموعة من الكانتونات والدويلات العرقية والدينية والمذهبية والطائفية.
وكذلك، مشروع هنري كيسنجر الدموي الذي يدور حول«حرب المئة عام بين السنة والشيعة» ورغبة الإدارات الأميركية المتعاقبة باحتلال سبع دول في الشرق الأوسط من بينها إيران، حيث يقول ما حرفيته التالي: «ستكون إيران المسمار الأخير في النعش الذي تجهزه أميركا وإسرائيل لكلّ من إيران وروسيا، بعد أن تمّ منحهما الفرصة للتعافي والإحساس الزائف بالقوة. وسيسقطان وإلى الأبد، لنبني مجتمعاً عالمياً جديداً لن يكون إلا لقوة واحدة ودولة واحدة هي الدولة اليهودية المستقبلية، وقد حلمت منذ نعومة أظفاري بهذه اللحظة التاريخية… إذا سارت الأمور كما ينبغي، فسيكون نصف الشرق الأوسط تحت مظلّتنا».
وفي متناول الرأي العام شواهد وعِبَر بليغة عن حقيقة الدوافع والأسباب التي تجعل أميركا تمتهن فنون صناعة الإرهاب، كتصريحات ترامب إبان صراعه مع الاستخبارات الأميركية، عندما قال بأنّ «سي أي آي» هي التي زوّرت التقارير حول امتلاك صدام حسين لأسلحة دمار شامل بهدف احتلال العراق وسرقة نفطه وكالتقرير الذي نشرته صحيفة «واشنطن بوست» والذي يقول بأنّ الولايات المتحدة الأميركية أنفقت مليارات الدولارات لتزويد أطفال المدارس الأفغانية والباكستانية وأطفال دول شرق أوسطية بكتب تعليمية مليئة بالصور العنيفة، المدعّمة بأحاديث دينية محرّفة وبرسوم للمدافع والجنود والرصاص والألغام، مؤكّدةً بأنّ جميع المناهج الدراسية الأساسية في النظام المدرسي الأفغاني وغيرها منتجة بالتنسيق مع جهاز الاستخبارات المركزية الأميركية. وأليس رئيس وكالة المخابرات الأميركية السابق جيمس وولسي هو مَن قال في العام 2006 عن الدول العربية والإسلامية: «سنصنع لهم إسلاماً يناسبنا، ثم نجعلهم يقومون بالثورات، ثم يتمّ انقسامهم على بعض النعرات التعصبية. ومن بعدها قادمون للزحف وسوف ننتصر… سننجح في النهاية كما نجحنا في الحرب العالمية الأولى والثانية والحرب الباردة ضدّ الاتحاد السوفياتي وسوف أختم بهذا سوف نجعلهم متوترين«.
وبحسب كتاب «النوم مع الشيطان» لروبرت باير، الضابط الميداني السابق في الاستخبارات المركزية الأميركية، والذي شغل مناصب عديدة أبرزها رئاسة محطّة «سي أي آي» سابقاً في لبنان عام 1983، بالإضافة إلى مناصب أخرى في العراق وأفغانستان، فإنّ شراكة استراتيجية قامت بين الولايات المتحدة الأميركية وقوى إقليمية هدفت لصناعة «الإرهاب» وتوظيفه للإطاحة بخصومهما، في أفغانستان وغيرها. ويؤكّد هذا الأمر الكاتب البريطاني جورج مونبيوت في جريدة «الغارديان» البريطانية، حيث يقول «إنه يوجد في مدينة فورت بينينغ بولاية جورجيا معهد خاص لتدريب الإرهابيين يطلق عليه ويسترن هميسفير للتعاون الأمني، مشيراً إلى أنّ عدد ضحايا هذا المعهد يفوق قتلى انفجارات 11 أيلول وتفجير السفارتين الأميركيتين في أفريقيا»، أما الأسقف جوان جيرادي فيقول بأنّ المذابح التي ارتكبها متخرجو معهد هميسفير راح ضحيتها ملايين من الأبرياء.
لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه: هل الإدارة الأميركية الجديدة جادّة اليوم برغبتها في محاربة الإرهاب الذي أنشأته الإدارة السابقة وسلّحته وموّلته؟ وهل هي جادّة برغبتها في التوقف عن بناء الأحلام المدمّرة للمنطقة والمشعلة لنيران التفرقة المذهبية والإثنية فيها؟ أم أنّ كلّ الشعارات التي أطلقها الرئيس ترامب سوف تكون فارغة من مضمونها، باعتبار أنّ المستعمر لا يعرف ثقافة القانون الدولي ولا العلاقات الدولية، ولا ثقافة الأخلاق ولا الفضيلة، وإنما ثقافة استعباد الشعوب وسلبها مقدّراتها؟
يذهب كثيرون من المحللين الشرق أوسطيين إلى رغبة واشنطن وتل أبيب بالمضيّ قدماً بمخططهما الرامي لإذكاء الصراع السني – الشيعي، كالمستشار الثقافي الإيراني السابق في القاهرة حجة الله جودكي، الذي قال بأنّ« قادة إسرائيل يخططون لإشعال حرب سنية شيعية، والمتطرفون من المذهبين يوفرون وقوداً هائلاً لحرب قد تستمرّ لسنوات». وأضاف: «السعي لإشعال الصراع بين الشيعة والسنة فى المنطقة ناتج عن مؤامرة غربية وكخطة بديلة لمواجهة التهديد الذي تمثله بعض دول المنطقة لمصالحهم، وكان نتيجة هذا أنهم قرّروا إشعال حرب طائفية.«
دعونا نتكلم بصدق، ألا تسأل هيئات المجتمع الدولي نفسها عن الحروب والمجازر الوحشية التي شنّتها «إسرائيل» برعاية أميركية كاملة؟ أو تلك التي قامت بها أميركا في كوريا وفيتنام واليابان والعراق وأفغانستان، والكثير من العمليات القذرة التي قامت بها سواء من خلالها جيشها أو مخابراتها؟ ولعلّ أفضل من وصف الشخصية الأميركية الاستعماريّة هو سيمون بوليفار أحد أبرز أبطال محاولات الاستقلال في أميركا اللاتينية في أواسط القرن التاسع عشر، والذي قال: «يبدو أنّه كتب على الولايات المتحدة أن تقوم بتعذيب وإذلال الشعوب بلسم الحريّة» .
فالاستعمار الحديث مهما تبدّلت وتطوّرت أساليبه وأشكاله يظلّ حركة توسع من جانب الدول المستكبرة على حساب الدول المستضعفة لإخضاعها وإذلالها بحروب «الفوضى الخلاقة» أو «الحروب الناعمة» بهدف نهب ثرواتها الطبيعية، وتسخير طاقاتها البشرية في خدمة مصاحلها، لا سيما من خلال إخضاع الأنظمة السياسية والأمنية في البلاد المستضعفة لإرادة المستعمر الذي يسعى لإحكام قبضته عليها بهدف ترسيخ مصالحه فيها، أو من خلال احتلال كامل الساحات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المختلفة في البلاد المستضعفة عبر فرض ثقافة، وفكر وسلوكيات يريدها المستعمر.
ولهذا، فإننا لا نستغرب سعي الولايات المتحدة الأميركية الحثيث لتشويه صورة الأديان وتصدير المجرمين ولصق تهمة الإرهاب بالدول الممانعة لسياساتها، والتراجع عن مواثيقها في مجال حلول السلام؟ والمفارقة الكبيرة هي أنّ أميركا لا تريد على الإطلاق إجراء مراجعة سياساتها الخارجية القائمة على مبدأ القوة، رغم ما ألحقته من أضرار بالشعوب المستضعفة.
إذن، ومن هذا المنطلق فإنّ مقاومة الداء تفرض أيضاً مقاومة أسبابه، فالاستعمار الحديث وإنْ خلع ثوبه القديم إلا أنه قد ارتدى حلّة أشدّ فتكاً وقسوة، إنْ من خلال حروبه الناعمة أو من خلال مشاريعه الخلاّقة للفتن وللإرهاب حتى بتنا ما بين الإرهاب وبين صناعته ومكافحته بين فكي كماشة، فإما القبول بالفوضى والدمار والتشرّد والقتل وإما الرضوخ لإملاءات المستعمر ومشاريعه الظلامية. ولهذا، فلا غرو إنْ قلنا بأنّ العمل المقاوم هو الحجر المدماك لبناء الدولة الحرّة، الدولة التي لا تُملى قراراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية إملاءً، الدولة التي تخرج مواطنيها من عصر العبودية والقيود والأغلال، إلى عصر الحريات والعدالة والمساواة. وبالتالي، فإنْ كانت واشنطن ماضية قدماً بالاعتماد على مبدأ القوة الذي جلب لها الكثير من النفوذ وجعلها تمضي في مسلكيتها القائمة على منطق استعباد الشعوب، حتى ازدادت تجبّراً وطغياناً بعد استفرادها بصناعة القرار العالمي، إلا أنّ مبدأ ومنطق المقاومة هو الغالب، وهو الذي سوف ينتصر، وسينتصر…
محام، نائب رئيس الصندوق الوطني للمهجّرين سابقاً