التحليق عالياً بجناح من قلق وجناح من جنون!

نجاح إبراهيم

كنت أقرأ كتاباً حملته معي من الكويت، بعنوان «صدى الإبداع الكويتي»، وهو مجموعة قصص قصيرة، جاءت باللغتين العربية والإنكليزية، من اختيار د. هيفاء السنعوسي، ولا أدري من انتشل الآخر؟ أنا، أم القصّة التي جاءت بعنوان «بقعة لون» للكاتبة ثريا البقصمي؟!

إذ ما كان لافتاً اختيار القاصّة لحظة أساسية في حياة فنانة تشكيلية، وموظفة في إحدى المؤسسات، درست الشخصية دراسة داخلية وقدّمتها عبر صفحات قليلة، مكثفة، ابتدأت بحدثٍ لينتهي في ما بعد من خلال زمنٍ مناسب غير ممطوط، يجسّد الانفعال الداخلي للشخصية بجنون الإبداع، عبر لغة رشيقة متمكّنة، وبعنوانٍ موارب، ونهاية تكاد تكون مفتوحة لتعطي القارئ فسحة من الوقت يستطيع من خلالها التفكير والتأويل حول معطيات النصّ، وطبيعة الحدث.

وأيّ حدث؟

لم تترك قماش اللوحة رخواً، متهدّلاً، لأنّ القماش الرخو سيعيق انتشار الألوان فوقه وهي لا تحبّ الأشياء الرخوة، ولا حتى الناس الذين بهم رخاوة سمكة الخثاق . بيد أنّ الدافع الأكبر لهذا الشدّ هو القلق، ذلك لأنّ ثمّة مبدعة داخلها تتهيّأ لأن تباشر أولى خطوات تخلّق عملها، والمترهل لا يمكن أن يدركه الإبداع، لأنّ الإبداع قلق، والقلق المبدع إن لم يصاحبه جنون لا يكون إبداعاً، لهذا نشأ صراعٌ بينها وبين ذاتها في أن تكون. فالبطلة فنانة تشكيلية تصارع الوقت لكي تنجز ما يحمل رأسها من أفكار، لكن تلك الوظيفة التي تقتل وقتها الثمين، جعلتها حائرة ومضطربة!

فكيف تقسّم الوقت، وتجعله يكون كما تريد؟

حين حملت الفرشاة بين أصابعها، بعد أن شدّت القماش على خشب اللوحة، ومزجت الألوان المرغوبة، ألقت باللون المكوّن من ثلاثة ألوان، أحمر، أسود، بنفسجي، على جسد القماش، مما نتج عن ذلك بقعة لونية لوّثت البياض.

لماذا جاء إلقاء مزيج الألوان هذه المرّة تلويثاً؟

لأنّ ثمّة قلق في داخلها و رغائب أنثى لا تحدّ!

لأنّ ثمة موضوع يؤرّق المبدعة في داخلها، والذي أججه و أشعله لوحة زهرة عباد الشمس للفنان فان كوخ، تباع بسعر جنونيّ في المزاد، ولأنّ وظيفة مقيتة عليها أن تذهب إلى مكتبها وتمارسها بغير رغبة، وبجلوس وراء المكتب والإصغاء لزملاء يجيدون الثرثرة المجّانية.

حين لامست أناملها أوّل ورقة بيضاء على مكتبها، اضطربت وشعرت بوخز حادّ في ذاكرتها، ففي مرسمها الذي غادرته، قماش أبيض مشدود كالطبل الأفريقي، وعليه بقعة لونية تخدش النظر، أمّا هي الآن فوراء طاولة لا تعمل شيئاً، سوى الضّجر الذي يطحنها، لهذا شعرت بالخيانة، خيانة من نوع آخر، خيانة تشبه الخيانات العظمى، لقد خانت موهبتها منذ أن التحقت بوظيفةٍ حطمت أجنحة إبداعها فحرمت من الأفكار المقدّسة التي تنبثق بغتة، وتمّ حشو الوقت بلا طائل، عليها أن تمرّره ببطءٍ قاتلٍ، لهذا أحسّت بالموت يزحف إليها، وما الوقت الذي يمرّ على هذه الشاكلة سوى كفنٍ أبيض لمشاعرها الجامحة: «فهي تريد أن تبدع، وهم يهمّون في إتمام مراسيم دفن قدراتها الواحدة تلو الأخرى».

ما هذا الذي فعلته؟

في طفولتها كانت تصنع فقاعات الصّابون، تنشرها في الفضاء، وتغدو كالحلم، تلتمع ثمّ تنفجر، فتثير ضحكها ولهوها وحيويتها، أمّا الآن: «فحياتها اليومية قد تحوّلت إلى فقاعة كاذبة، تنفجر مئات المرّات لكنها لا تدفع للبهجة، بل تثير الكآبة المتغلغلة في جذورها».

هل تترك نفسها هذا اليوم ككلّ الأيام التي مرّت؟

لقد قرّرت أن تكون قاتلة، فتغرس سكيناً حادّة في عنق السّاعة العنيدة، فجأة انتصبت أمام مديرها تطلب الخروج، ليتساءل عن السبب، لم يكن ليتفهم عذرها، ومع ذلك قالت بجنونٍ وهوس: «هناك شبح يتربع في أعماقي، والسبب بقعة لونية تركتها على قطعة قماشٍ بيضاء، وبياض اللوحة يستغيث…».

تريد أن تنقذ البياض!

لأنّ بشاعة قادمة ستكبر وتكبر إن مكثت هي الآن ساعات أخرى، هذه البشاعة ستنتقل إلى هنا، إلى مكاتب المؤسسة التي تعمل فيها لتغمر كلّ شيء، حتى عقرب السّاعة الذي غرس في الأعناق!

بهت المدير بها، بماذا تهذي هذه المرأة؟

لكنها لم تنتظر أكثر، غادرت باتجاه مرسمها لتزيل تلك البقعة التي أرقتها، ودور الفنان والمبدع في أيّ مجال، أن ينقذ العالم من التلوث، أو يشير إليه، و ما كان على القماش سوى تشويه لهذا العالم المرتجى، لهذا كان عليها أن تنقذ العالم / القماش، فأحسّت به نبياً مصلوباً على خشبة اللوحة بدون ذنب سوى أنه طائعاً لألوان ريشتها التي مزجتها في سرعة، ولهذا تضخّم إحساسها بالذنب، وهرعت للإصلاح.

وفي سيارتها عبثت بمفاتيح الإنارة، تشعل الأضواء رغم ضوء الشمس المبهر، لكن لهذا الأمر مسوّغ ومغزى عند الكاتبة، لا يلتقطه سوى المبدعون.

لقد استطاعت الكاتبة /الفنانة أن تؤجّج الصراع داخل البطلة وجعلتها كمبدعة، دائمة الاضطراب، موّارة، تهدر عواطفها الدّاخلية فيها، ولا تهدأ حتى عندما ركبت سيارتها ومضت كانت قد أمسكت بالخرزة التي تدرأ الحسد عنها وألقت بها بعيداً، وما إشعالها للنور في وضح النهار إلا لفعل شيء فريد، لا يفعله الناس العاديون، وإنّما هذا تجاوز ودليل قلق واضطراب، وإبراز عدم الرّضا عن النفس لأنها بحاجة إلى الكمال، وما مقارنتها بالفنان فان كوخ إلا تعبيراً عن ذلك التوق في الوصول إلى مرحلته الآن، ومكانة فنّه بين البشر، والإدراك بحسّها المرهف على التقاط الدّافع المجنون وراء فنه.

وما صراعها إلى استعادة حريتها ورغبتها في التغيير – والتغيير تجديد وخلق – إلا لتكون بمثابة فان كوخ، بيد أنّ الوظيفة تقتل حلمها، وتجعلها كهؤلاء الذين يمرّرون الوقت بالثرثرة وراء مكاتبهم، فلوحة الفنان زهرة عباد الشمس، تلك الزهور الصّفراء التي تميل برؤوسها مطيعة للنور، والتي تباع, ومطرقة المزاد تدقّ بعنفٍ أمام ثمن باهظ،ثم تسقط لترتفع الزهرة إلى كبد السّماء، والبطلة تضيء أنوار السّيارة في وضح النهار-صراع وقلق، وإبداع مجنون – خيول إبداعها المرتفعة وفرحها الذي طال كبد السماء، سقطا في تلك البقعة اللونية حين انعطفت بشكلٍ مفاجئ أمام سائق متهوّر، و « صوت مطرقة المزاد يدوي من جديد، كالانفجار لتتناثر بذور زهرة عباد الشمس على قماش اللوحة.»

لقطة سينمائية محبوكة بإتقان وبراعة، تدفعنا لأن نتساءل: «ماذا تريد ثريا البقصمي أن تقول حين تحرّرت من مكتبها، ومن عقرب السّاعة؟ والفنان كما قال عنه ألفرِد دي موسيه: «لم يخلق للاستعباد والأسر». ثمّ مضت نحو الشمس، كانت المطرقة تدفع بطرقة أخرى ليصار إلى بيع لوحة فان غوخ، وقد انفجرت فتناثرت البذور، وما تناثر البذور إلا بداية لمرحلة زرع جديدة، ثم انتظار مواسم مقبلة.

بقعة لون قصة للكاتبة ثريا البقصمي، رغم صغرها إلا أنّها ترصد عوالم لا حدّ لها من خلال فكرة رائعة وعبارات جميلة، مكثفة، تختزن في داخلها حلم امرأة / فنانة تشكيلية، تقاوم كونها مبدعة صراعاً لا يحتمل، ورغبة قوية إلى الكمال.

كاتبة سورية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى