العربدة وحتمية دفع الثمن…!

محمد ح. الحاج

الشعور بالقوة المطلقة وإنْ كان كاذباً ترافقه أوهام تدفع إلى الغطرسة والعربدة بدءاً من الأفراد وصولاً إلى الدول، قد ينجح أحياناً، في حالات ومواقف قد تكون نادرة أو متكرّرة، لكنه لا يضمن النجاح الدائم، فالغطرسة وأوهام القوة تدفع بصاحبها إلى ارتكاب أعمال لا يحسب نتائجها، وربما يعتقد أنّ قوّته تضمن له الإفلات من العقاب أو انعدام ردّ الخصم بسبب الخوف من البطش أو تكرار العدوان بوتيرة أشدّ وأعنف.

العدو الصهيوني الذي يمتلك بفضل الدعم العسكري الأميركي أحدث أدوات التدمير على مستوى الجيوش في المنطقة المشرقية، وأكثرها تقدّماً على الصعيد التقني بفضل الالتزام الأميركي وسيطرة اللوبي الصهيوني على الإدارة الأميركية ومراكز صنع القرار، بحيث يتمّ تزويد جيش العدو بأحدث ما تتوصّل إلى إنتاجه الصناعات العسكرية الأميركية وحتى قبل وضعه في الخدمة بيد وحدات الجيش الأميركي ذاته، وبسبب ضمان الموقف القوي للإدارات الأميركية المتعاقبة ومعها حلف الناتو في الدفاع عن أمن الكيان الصهيوني ومنع إدانته عالمياً في أوساط المنظمة الدولية، كلّ ذلك دفع بهذا العدو عبر تاريخه منذ نشوئه عام 1948 وحتى اليوم إلى ارتكاب المجازر وسلسلة من الاعتداءات والحروب على شعب ودول الجوار بعد أن قام بتهجير أغلب الشعب الفلسطيني واحتلال أراضيه تحت الحماية والرعاية البريطانية والغربية بشكل عام، وصمت ما يسمّى المجتمع الدولي، وتخاذل الأنظمة العربية وتآمر بعضها مع دوائر الغرب الاستعماري والتزامها السري بحماية الكيان، وبعضهم نص التزامه على فعل ذلك حتى تصيح الساعة.

لم تتورّع دول العالم بخداع حكومات المنطقة وغشها في نوعيات الأسلحة الموردة أو المتعاقد عليها، وبعض الشحنات كانت بتواطؤ من قادة وسياسيين عملاء من نفس الحكومات، وبعضهم تواطؤ مع العدو وذهبت الشحنات لصالحه وهكذا، كان عمل الحكومات الغربية بهذا الشكل هو الضمانة الأولى لحماية العدو الصهيوني وبث روح الهزيمة والقنوط في شعوب المنطقة والجوار، وبعض حكومات المنطقة كان تأثيرها كبيراً على مجريات الصراع كما في الأردن والعراق ومملكة آل سعود، ولأنّ فلسطين جزء من الأرض السورية، ولأنّ سورية هي المستهدف الرئيس بالمشروع الصهيوني فقد كان قدرها أن تتولى المواجهة منفردة، وانضمّت إليها مصر بعد ثورة 1952، ليستمرّ الصراع بأشكال مختلفة بضمنها عدوان العام 1956 ومحاولة القضاء على الثورة، ثم توّجها عدوان العام 1967 واحتلال مساحات واسعة من أراضي الدولتين الشقيقتين إضافة إلى كامل فلسطين بدعم أميركي وتواطؤ سعودي يمكن مراجعة مراسلات السعودية مع إدارة جونسون والتعهّد بدفع تعويضات للعدو إذا ما ضرب الجيشين المصري والسوري ، ولكن هل توقفت العربدة والغطرسة الصهيونية، وهل بقي ذلك دون عقاب أو دفع الثمن ولو بمواجهة الدول الكبرى؟

مضت سنوات ست على العدوان بلغت فيها غطرسة العدو أقصاها فارتكب مجازر عديدة ضمن الأراضي المصرية والسورية، بحر البقر وداعل وغيرها وكانت الردود قاصرة لأسباب تكتيكية رغم نشوب معركة هنا وأخرى هناك، لكن التحضيرات والتدريبات والحشد والاستعداد وتطوير الأسلحة كان يجري على قدم وساق، في الوقت الذي كان العدو مأخوذاً بنشوة خادعة مطمئناً إلى قوة الدعم الغربي وخاصة الأميركي وشحنات السلاح المتوالية ونوعيتها المتفوقة، لكن ثمن العربدة الصهيونية جاء باهظاً وبالغاً مع انطلاقة حرب تشرين التحريرية، والتي أرادها السادات حرب تحريك، مع ذلك كان من نتائجها الأولية انهيار في القيادتين العسكرية والسياسية للعدو، واستعداد قطعان المستوطنين لرفع الرايات البيضاء، وانطلاق الاستغاثة باتجاه أميركا والغرب ومبادرة هؤلاء إلى التدخل المباشر ودخول الحرب دفاعاً عن العدو، وسقط الهيكل وانهارت الغطرسة وتوقفت العربدة وتأكد للجميع أنّ للعربدة ثمناً قد لا ينفع معه أيّ موقف أو مبادرة غربية كانت أو محلية عن طريق الخيانة والتواطؤ.

بعد حرب تشرين وسقوط مقولة «الجيش الذي لا يُقهر»، وفي المقابل استعادة الشعور بالكرامة العسكرية لدول المنطقة وارتفاع المعنويات، نشط الغرب على جبهة المفاوضات وما سمّي «التسوية العادلة» للقضية الفلسطينية، في الوقت الذي كانت الدوائر السرية المعادية تعمل جاهدة على تمزيق الصف العربي واحتواء نتائج الانتصار السوري المصري وتحطيم ما ظهر من تضامن عربي مع الدولتين بفعل موجة المشاعر الشعبية بحلاوة النصر وهزيمة العدو بعد طول انتظار، واستمرّ ذلك لأكثر من عقد تمّ خلاله تحديث وتطوير السلاح الصهيوني وتأمين تفوّقه النوعي والكمّي ليبدأ باستعادة معنوياته عبر العدوان على لبنان الذي كانت تتخذ منه المقاومة الفلسطينية قاعدة ومنطلقاً بعد طردها من الأردن، ولكن لم يكن العدوان دون ثمن، وكان للموقف السوري تأثيره البالغ في ذلك على أنّ الموقف الرسمي المصري ولا مبالاة القيادة المصرية بما يحصل أو في أفضل حال اتخاذها دور الوسيط لوقف العدوان، جعل من كفة العدو الأرجح دولياً فكسب الرأي العام العالمي إضافة إلى موقف الدعم السري من أنظمة عربية بعينها قامت برفع الغطاء عن المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، وحجبت كلّ دعم مالي أو سياسي عن المقاومة الفلسطينية مستخدمة ذلك وسيلة للضغط على الفلسطينيين للقبول بتسوية أسموها اتفاقية اوسلو حقق فيها العدو الجانب الأهمّ من أهدافه وبضمن ذلك إسقاط حق العودة، سورية التي دافعت عن المقاومة وعن سيادة لبنان واستقلاله دفعت ثمناً باهظاً، آلاف الشهداء من أبناء جيشها والكثير من السلاح والعتاد، لكن العدو دفع في المقابل أيضاً، وأن يُقال إنه لم يتأثر فبسبب الدعم الغربي وتعويض خسائره، بل وتخصيص مليارات عدة سنوياً من الموازنة الأميركية لهذا الغرض بعد تحييد مصر نهائياً وانفضاض أيّ تأييد عربي لسورية في موقفها المدافع عن الشعب الفلسطيني وحقوقه المنهوبة، وأيضاً دخول القوات العسكرية الغربية إلى لبنان أميركية وفرنسية وإيطالية لضمان أمن العدو.

معرفة العدو أنّ لكلّ عدوان ثمناً لم تردعه لأكثر من سبب، هو نظام قائم بالأصل على العدوان، وضمانة استمراره كوظيفة ومشروع رهن باستمرار اعتداءاته التي يقوم حسابها على كسب الجبهة الداخلية وإدامة وضعها في حال من الاستعداد والاستنفار لتأييد عمليات الجيش الذي يعتبرونه ضمانة استمرار الكيان والمستوطنات على حدّ سواء، ومن جهة أخرى الحشد الإعلامي على ساحة الغرب والظهور بمظهر الكيان الصغير المستهدف من محيط معاد أشبه بالبحر دون إدراك أنّ معظم هذا المحيط مخروق هو تحت سيطرة الغرب، وهكذا تتالت عمليات العدوان على سورية ولبنان على الساحة اللبنانية وعلى الفلسطينيين في الداخل الفلسطيني رغم اتفاقية اوسلو التي لم يطبق العدو أيّ من بنودها والتي كانت بحاجة إلى عدد من الاتفاقيات لتفسيرها.

تكفلت مواقف الغرب وعلى رأسه الإدارة الأميركية بمنع معاقبة الكيان الصهيوني ولو معنوياً، على العكس كانت القرارات تصدر مساوية بين العدوان وبين من وقع عليهم العدوان، لا بل تحميلهم المسؤولية واعتبارهم معتدين وليسوا مدافعين عن أرضهم وحقوقهم، وبدا أنّ الأثمان التي يدفعها العدو ضئيلة جداً بسبب التكتم، أو النشر على دفعات على قاعدة التقسيط، وأيضاً بسبب التعويضات الفورية للتجهيزات وآلة الحرب المفقودة وخاصة في مجال الطيران والأعتدة الصاروخية الحديثة إضافة إلى تطوير أنظمة الدفاع ضدّ الصواريخ بعد حرب الخليج والتخمة التي أصابت الكيان ما بين باتريوت وحيتس إلى آخر السلسلة، وهي بالمحصلة لم تمنع وصول الصواريخ إلى الداخل المحتلّ وإجلاء مئات الآلاف من قطعان المستوطنين إلى جهات أخرى أكثر أمناً، أو المكوث في الملاجئ لأيام سواء في حرب تموز 2006 أو العدوان على غزة 2009 وأيضاً في كلّ اشتباك مع المقاومة فيها حتى تاريخه.

مع بداية الحرب المؤامرة على الدولة السورية، انتهز العدو الصهيوني الفرصة، ولأنّ الحرب بالأساس لصالحه، وتحت ستار مكافحة تهريب الأسلحة النوعية للمقاومة في لبنان، كرّر اعتداءاته على المواقع والمعسكرات والمستودعات العسكرية السورية، وجاءت هذه الاعتداءات لتدعم موقف أدواته على ساحة الوطن الذين بادروا منذ اللحظات الأولى للفورة إلى استهداف الدفاعات الجوية السورية والتي لا تأثير لها على ما يجري في الشارع الوطني حتى لو كانت ثورة لأنّ سمة الثورات الحقيقية المحافظة على مقومات البلاد وثرواتها ومنشآتها وخاصة الدفاعية منها، وكان لافتاً إصرار من أسموا أنفسهم بالثوار على مهاجمة هذه المواقع دون مبرّر أو تفسير منطقي سوى أنهم يتلقون الأوامر من الخارج، ولقد تكرّرت عمليات العدوان الجوي الصهيوني مراراً دون ردود تذكر إلى أن نشرت وسائل الاعلام الصهيونية خبر انفجارات وحرائق في مطار صهيوني قبل حوالى شهرين وبعضها عزا ذلك إلى ردّ سوري عبر قصف المطار بالصواريخ ما أدّى إلى دمار كبير وأضرار لم يجر الإعلان عنها، وبقيت القصة موضع تساؤل وتشكيك إلى أن جاء العدوان الجوي الأخير على مواقع في السلسلة التدمرية، ومعلوم أنّ هذه السلسلة الممتدة من شمال وشرق دمشق إلى ما بعد تدمر أطلق عليها الغرب والصهاينة… ومنذ عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد جمهورية الصواريخ تحت الأرض أما القول الصهيوني باستهداف شحنة صواريخ حديثة للمقاومة فهو الأبعد عن الواقع إذ لا تشكل المنطقة طريقاً أو معبراً لهذه الغاية، والتفسير المنطقي أنّ الغارة الصهيونية كانت انتقاماً من الصواريخ السورية أو رسالة صهيونية ذات مغزى، لكن الرسالة قوبلت بردّ في زمانه ومكانه لتتناثر أشلاء واحدة من طائرات العدوان في المثلث السوري الأردني الفلسطيني ولتلاحق الصواريخ السورية الطائرات المغيرة إلى مطاراتها ما استدعى استخدام مضادات الصواريخ وإطلاق صافرات الإنذار والهروب إلى الملاجئ ودبّ الذعر في أوساط القطعان الصهيونية في القدس وما حولها.

بعض من المسؤولين الصهاينة أبدى استغرابه من الردّ السوري قائلاً إنّ الردّ جاء دون استشارة الروس أو الإيرانيين، وربما كان يعتقد هو وحكومته أنّ القرار بالردّ لم يعد بيد القيادة السورية، وهو اعتقاد خاطئ ينسف أحلام الصهاينة من أساسها، ويؤكد أنّ للعربدة ثمناً لا يؤجل، بل يجب دفعه في حينه مع سبق الإصرار والترصّد على أن يكون مماثلاً أو يزيد عن فعل العدوان في عملية ردع بلا حدود ولا نهايات، وهذا ما يجب أن يكون مفهوماً للجميع.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى