هل تسقط «ثورة» خليل الخطوط الحمر؟
محمد حميّة
لم يكن المؤتمر الصحافي لوزير المال علي حسن خليل مجرّد ردّ على موجة الاعتراضات الشعبيّة حول لائحة من الضرائب الجديدة المفروضة على ذوي الدخل المحدود التي تمّ تسريبها على مواقع التواصل الاجتماعي، بل شكّلت بداية ثورة سياسيّة وإعلاميّة وماليّة على الشركات الكبرى وقطاعات المصارف والعقارات والأملاك البحرية الذين يتهرّبون من الضرائب منذ عشرات السنوات، لكن هل تنجح هبّة وزير المال في الحؤول دون الانفجار الاجتماعي في الشارع المنتفض على تحميله مجدّداً أخطاء السياسات المالية والاقتصادية للحكومات المتعاقبة منذ العام 1992؟ وهل تؤدّي إلى تصويب الخلل الذي يعتري مشروع الموازنة الحالي لجهة السياسة الضريبيّة والمضيّ قُدُماً في اقتحام مواقع التهرّب الضريبي، التي شكّلت لعقودٍ من الزمن الخطوط الحمر بحيث لم تستطع العهود ولا الحكومات السابقة سبر أغوارها وتخطّيها وإسقاطها؟
لقد نجح حراك الشارع في الحؤول دون فرض أيّة ضرائب جديدة على الشرائح الشعبيّة الفقيرة، أراد البعض ربطها بإيرادات تمويل سلسلة الرتب والرواتب، كالضريبة على القيمة المضافة التي أعلن خليل إعادة النظر فيها ومناقشتها، ما يسجّل له كوزير للمال حرصه على مصالح المواطنين، لكن من جهة ثانية تمكّنت «جماعات الضغط المالية والاقتصادية» من تطيير السلسلة وتجميد الضرائب المفروضة عليها في مشروع الموازنة الحالي.
يبدو واضحاً كيف استغلّ «اللوبي المالي والاقتصادي» في الحكومة والمجلس النيابيّ ربط سلسلة الرتب والرواتب بإيراداتها، وبالتالي إنّ تجميد السلسلة سيقابله إجهاض سلّة الضرائب التي تطاله، علماً أنّ تصحيح الأجور هو حقّ مكتسب في كلّ دول العالم، وبالتالي فصل السلسلة عن حجم وموارد أيّة ضرائب جديدة تفرضها الدولة.
لم يعد خافياً على أحد مكامن ومواقع وطرق وأساليب التهرّب الضريبي التي لا تُعدّ ولا تحصى، كالعقارات والمصارف والأملاك البحريّة والمرفأ والجمارك وغيرها، التي حرمت الخزينة من عشرات مليارات الدولارات سنويّاً بعلم وتواطؤ أو جهل الحكومات وأجهزتها الرقابيّة والقضائيّة وحملت الطبقات الفقيرة وحدها الأعباء الضريبيّة.
أمّا المفاجأة التي فجّرها خليل، والتي شكّلت فضيحة ماليّة من الوزن الثقيل، هي حجم الخسائر الهائلة جرّاء التسرب الضريبي، بقوله «ما كان يجب تحصيله من شركات الأموال والمصارف منذ العام 2014 وحتى اليوم يعادل مليارَي دولار، وإذا تأخّرنا فسنخسر المزيد، وسأسعى إلى تحصيل ضرائب على الأرباح الاستثنائيّة التي حصّلتها المصارف من الهندسة المالية، والتي وصلت إلى 5 مليارات دولار».
أمّا الفضيحة الثانية، فهي ما كشفه خليل عن عرض قدّمته المصارف لوزارة المالية بدفع مليار دولار من المليارات الخمسة التي كسبتها جرّاء الهندسة الماليّة في العام الماضي، مقابل تراجع وزارة المال عن بنود الضراب على المصارف، ما يشكّل رشوة علنيّة وابتزاز للدولة ومؤسّساتها. واللافت أنّ ما قاله خليل، والذي يُعتبر إخباراً يحرّك النيابة العامّة المالية تلقائياً مرّ مرور الكرام.
السؤال الذي يُطرح في الأوساط الشعبية هو مصير السلسلة والموازنة، وما إذا كنّا دخلنا في مرحلة من الصراع بين أصحاب رؤوس الأموال والدولة الممثّلة بالعهد الجديد؟
تقول مصادر مطّلعة لـ»البناء»، إنّ «المشكلة ليست في رفع الضريبة على فوائد المصارف من 15 إلى 17 في المئة، بل تكمن المشكلة الحقيقية بأنّ المصارف لم ولا تريد تطبيق القانون لجهة دفع ضريبة الـ 15 في المئة في الأصل، بل تدفع جزءاً قليلاً منها والجزء الآخر تدفعه من خلال ضرائب الفوائد على الودائع التي تحصّلها الدولة، ودَور المصارف هنا فقط «ساعي بريد أو جابي الضريبة من المودعين لصالح وزارة المالية».
وتوضح المصادر، أنّ «قطاع المصارف كان ولا يزال يتلقّى الدعم من نصف الطبقة السياسيّة الحاكمة، وأبرزهم رئيس الحكومة سعد الحريري الذي يتبنّى وجهة نظرهم بالكامل ويرفض هو وفريقه السياسي والمالي، لا سيّما الرئيس فؤاد السنيورة، المساس بهذا القطاع الذي تزيد أرباحه عن مليارين ومئة مليون دولار سنوياً من دون دفع الضرائب المتوجّبة عليه».
المصادر ترى بأنّ «معركة قد بدأت بين «تكتّلات رأس المال» وبين عهد الرئيس ميشال عون، لكنّها تجزم بأنّ ثلاثة قوى أساسيّة حسمت أمرها في المواجهة وعزمت على الذهاب بموضوع الضرائب على القطاعات الرأسمالية حتى النهاية، وهي رئيس الجمهورية ورئيس المجلس النيابي نبيه برّي وحزب الله.
وترى المصادر، أنّه في حال لم تُحلّ عقدة الضرائب على المصارف والشركات التجارية الكبرى، فلا حلّ في الأفق لسلسلة الرتب والرواتب ولا للموازنة، وستعود القوى السياسيّة عندها للبحث بقانون الانتخاب لاحتواء الشارع وتمرير الوقت من جهة، ومحاولة اختراق في مكان ما للأزمة في ظلّ انسداد أفق الحلّ على صعيد الموازنة من جهةٍ أخرى.
وتضيف المصادر، أنّ الشارع من خلال التظاهرات المتتالية تمكّن من فرض أجندته، لكنّه أدّى إلى إعادة السلسلة ومعها مشروع الموازنة إلى أدراج البرلمان ومجلس الوزراء»، وأيّدت المصادر إصرار وزير المال على فرض ضرائب على أرباح المصارف الناتجة عن الهندسة الماليّة بين المصارف والمصرف المركزي»، ولفتت إلى أنّ «هذه الهندسة كانت ضروريّة إبّان مرحلة الفراغ في سدّة الرئاسة الأولى وشلل الحكومة، وذلك بهدف الحفاظ على الاستقرار المالي والنقدي وثبات الليرة، لكن اليوم هناك رئيس للجمهوريّة وعادت المؤسسات إلى عملها وتقلّص الخطر على الاستقرار، وبالتالي باتَ من الملحّ أن تُدوّر هذه الأرباح وتدخل في الدورة الاقتصادية وتموّل جزءاً من السلسلة والعجز في الخزينة وخدمة الدين العام.
ويوضح خبراء اقتصاديون لـ»البناء»، أنّ «لا علاقة بين تجميد السلسلة ومصالح المصارف المالية، فالسلسلة لها علاقة بالصراع بين الحكومة وبين المتحكّمين بالقرار المالي في الدولة والموظّفين، أمّا همّ المصارف الرئيسي هو كيفيّة التهرّب من سلّة الضرائب الجديدة التي تطالهم في مشروع الموازنة، أمّا المتضرّرون الأساسيّون من السلسلة هم القطاع الاقتصادي والتجار، لذلك ضغطوا لإجهاض السلسلة في المجلس النيابي.
ويرى الخبراء، أنّ «لا خروج من الأزمة الماليّة الاقتصادية في لبنان إلّا بحلّ جذري مشروط بأن يرفع السياسيّون أيديهم عن القرار المالي وإعادة هندسة المديونيّة»، ويلفتون إلى أنّه حتى لو أُقرّت السلسلة هذا العام، سنواجه المشكلة نفسها في العام المقبل».
وتقول مصادر نيابيّة معنيّة بالسلسلة والموازنة، إنّ «إعادة النظر في مشروع الموازنة ومن ضمنه السلسلة وفي السياسة الضريبيّة، لن يُطرح في المجلس النيابي قبل إجراء إعادة تقييم لمشروع الموازنة وما حصل في الشارع، وبالتالي لن يدعو الرئيس برّي إلى جلسة قبل تبلور رؤية واضحة».
وفي حين لم تُدرَج الموازنة على جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء التي دعا إليها الحريري الجمعة المقبل، فإنّ عقبات عدّة تحول دون إقرار الموازنة:
الخلاف الحادّ بين الدولة وأصحاب رؤوس الأموال والشارع حول السياسة الضرائبيّة.
عملية قطع الحساب لموازنات السنوات الماضية منذ العام 2006، وتحديداً مبلغ الـ 11 مليار دولار، وتقول مصادر بعبدا في هذا الإطار لـ البناء إنّ رئيس الجمهورية لن يوقّع قانون الموازنة من دون قطع الحساب.
سلسلة الرتب وإيراداتها وضررها الاقتصادي الذي سترتّبه في حال إقرارها من دون رقابة دقيقة وفعّالة على الأسعار.