فارس: صوَرٌ وموسيقى وإيقاع تتّحد لتجعل من الشعر رفّة عصافير
طوني أكرم مطر
صدر كتاب جديد للشاعر الكبير صلاح ستيتية بعنوان «صيف الغمام العظيم»، وقد قام بترجمته إلى العربية النائب الدكتور مروان فارس.
وردّاً على سؤال: لماذا صلاح ستيتية مجدّداً بعد 45 سنة على كتابه الأول «الماء البارد محفوظ» باكورة أعماله؟ وقد عرّبه أيضاً النائب فارس، فيقول: النص الشعري عند ستيتية لا يتوقف عند مرحلة في كتابة الشعر، فالكتابة عنده تتفوّق على كلّ المراحل، ما يجعل النصّ الشعري منزلاً إلى مرحلة هي دائماً غير المرحلة التي يكتب لها».
في مواجهة النصّ الشعري مع ذاته، يقول ستيتية: «أنا أخاف من الموت، لأنّ الموت حاضر في كتاباتي». ولا تفارقه فكرة العشق، ما يجعل صلاح ستيتية ركناً من أركان الصوفية الجديدة. صحيح أنّه متأثر بابن عربي، متأثر بالحلّاج، وبكلّ الشعراء الذين تتلاحق الرؤى عندهم لعالم غير هذا العالم الموجود.
فبين الوجود واللاوجود، تنبسط الجمل الشعرية عنده داخل اللغة، ليصبح الشعر في حدّ ذاته ما بعد اللغة. كلّ هذه المفاهيم يتفوّق فيها صلاح ستيتية على كثيرين من أقرانه الذين كتبوا باللغة الفرنسية، ولذلك صلاح ستيتية عبر لغته الجديدة هو من المجدّدين في هذه اللغة.
يقول في الصفحة 24 من كتاب «صيف الغمام العظيم»:
وها هو البرد،
لا أحد في مطلق الصقيع: أنا
اذهب بطرقات عديدة، تحت أنظار عمياء.
أذهب إلى نبعة التقاء الرياح
بطرقات وحدائقها الصامتة
والعنادل قد ذهبت منذ زمن بعيد
والدوري والشحارير والأفكار
كلّها من الآن فصاعداً لها صوت الصمت.
غريبة هذه الرؤية التي تجمع بين الصوت واللاصوت، فالصمت له صوتٌ لا يعرفه الناس.
لذلك، يبتعد صلاح عن مشكلة اللغة لتصبح اللغة هذه منزّهة عن أدرانها، صافية كالماء الذي يجري وكالأغنية التي تبتدئ فلا تنتهي.
أهمية الشعر عند ستيتية أنّ له بداية هي بدايات، وله انتهاء هو انتهاءات.
عندما نكتب عن صلاح ستيتية ترتجف الريشة التي هي غير موجودة، ليتحوّل شعره إلى مرحلة أخرى من مراحل الصمت الذي عشقه مالارميه بعد بول فاليري. بين الرمزية والصمت تنساب القصيدة من رفّ من العصافير غير الموجودة في كتاب ستيتية «صمت الغمام العظيم».
إنّه غمام من الصيف، وإن كان غمامه بدعة من بدائع الشتاء. أمّا الشاعر صلاح ستيتية الدبلوماسي العريق الذي عشق اللغة الفرنسية وصار أحد كتابها الفرنكوفونيين الكبار، وكان صديقاً لعدد من الشعراء مثل أدريه برونون ورينيه شار وسيوران وإيف بونوا.
ستيتية له كتاب عام 1972 «الماء المارد محفوظ» تعريف د. مروان فارس أيضاً. ستيتية المولود في بيروت وابن أسرة بيروتية عريقة هو شاعر وناقد وكاتب مقال. كان شغوفاً على الدوام بقضايا الشعر المعاصر، أسّس ملحقاً أدبياً أسبوعياً باللغة الفرنسية لوريان ليتبرير ، لعب دوراً كبيراً كوسيط بين الإبداعات الجديدة في الغرب عموماً وفرنسا خصوصاً، وبين انبثاق أنماط كتابة وتفكير جديد في لبنان والعالم العربي والشرق. وفي فرنسا، ساهم كتابة وتنظيماً في كبريات مجلات الإبداع الأدبي والشعري، مثل لي ليتر توفيل، لانوفال ريفونسيز ديوجين وغيرهم.
حاز ستيتية على جوائز أدبية كثيرة تأتي في طليعتها جائزة الفرنكوفونية الكبرى عام 1995، إضافة إلى جائزة الصداقة العربية الفرنسية عن كتابه «حملة النار»، وجائزة ماكس جاكوب عن «تعاكس الشجرة والصمت»، وجائزة المفتاح الذهبي لمدينة ميديريغو في صربيا.
صلاح ستيتية المولود عام 1929 تأخّر حتى جاهر بشعره، فباكورة أعماله التي عرّبها مروان فارس، وهو بالطبع كتبها باللغة الفرنسية «الماء البارد محفوظ»، وكان عمره 43 سنة، وها هو يصدر كتابه المعرّب، «صيف الغمام العظيم» وقد بلغ من العمر 88 سنة.
وفي كتاب مذكّراته الضخم الذي بلغ 700 صفحة، يقول ستيتية: «وما هي الحياة إلّا ضرب من ضروب الجنون؟ نعيش فيها ونموت من غير أن نعرف من أين بدأنا وإلى أين ننتهي، نتقاتل، نتصالح، نتقارب ثمّ نتباعد، نواجه عواصف ومطبات فنقع ثمّ ننهض ونكمل الهرولة لنقع ثانية بطريقة هزليّة كأنّنا نعيش فعلاً حفلة جنون».
اختار ستيتية مذكراته «قصة حياتي» وهو يشدّد على كلمة قصة قائلاً: «كل حياة هي في النهاية قصة». ويقول: «والآن، عليّ أن أضع النقطة النهائية لكنّها لم تحن بعد». ويؤكّد في مكان آخر أنّ الحياة وهم، علماً أنّ المرحلة الأكثر تأثيراً في حياة ستيتية تجسّدت في ما سمّاه المرحلة الباريسية. وبأسلوب طريف يعتمد فيه أحياناً السخرية والتهكّم، يكشف المؤلف عن آرائه السياسية.
اللغة عند ستيتية مدهشة في غزارتها وجماليّتها وشعريّتها. يقول في قصيدة إنّها ساقية وتجري ص 40 من الكتاب.
لا تتركوها، لا تتركوها تذهب
احتفظوا بها.
تعدّد إنّها تعدّد النجوم
إنّ السبب بحبها، بين فخذيها، إنّها ضروس
إنها ساقية وتجري
من الآن فصاعداً إنّ القمر خفيف
مثل لا شيء، شرفة من رخام.
يقول في القصيدة العنوان: ص 69
أحب منك المرأة الهاربة، وصباح ناعم
إنّ انحناءات أحشائك تهدئها البحار
هنا عصفورة أحلام وسطحها من ماء!
وقد جعلت دار النشر الغلاف الأخير جزءاً من المقدمة التي قالها فارس بستيتية، وهي: «إنّه كتاب للشعر الذي يصلح أن يكون مقدمة لانبلاج عصر من عصور الشعر الحديث، ذلك لأنّ الشعر الذي يتميّز به يطرح جملة من الأسئلة حول ماهية الشعر. هل هو رؤية أم جملة من الرؤى تتهاوى في تساقط العقل من انحدارات اللغة إلى مرتبة جديدة من مراتبها، وهي تتربّع على الأحلام والخوف والرؤى، في داخلها موسيقى تظهر رويداً، كما الشمس، وهي تطلع من ظلمة الكلمات؟
إنّ الموسيقى عند صلاح ستيتية تطلع من إيقاعات تفوق الكلام. تتلازم مع الأغنية التي تترافق أصولها مع الإيقاعات المفترَضة في داخلها. الإيقاع الداخلي هذا في الصورة الشعرية يجعل من هذه الصور مرحلةً من مراحل الغناء. فالصورة والإيقاع والغناء، جميعها تصطفّ في رفَّة العصافير عنده.
إنّ اللغة والموت وجسد المرأة، كلّها مفاهيم متساوية في ظروف الإبداع، فلا يفترق الإبداع هذا عن اللغة، التي هي الإبداع في جوهره، وإن كان آتياً من خارجها إلى الداخل فيها.
هذه اللغة هي لغة العصافير. فيبقى صلاح ستيتية وحيداً، مرتجفاً على حافة الغابة التي يركض فيها الرجال إلى علم الألوان الجديد».