إليكِ في وحشةِ الصَمت
عدنان كنفاني
هنا… في هذا المكان، بين هذه الجدران الوطيئة، وراء غبش النافذة المطلّة على بحيرات البؤس، وروائح الدماء، وضباب مجزرة، شريكتي السجينة فيه لوحة تعيسة لعجوز بقي وحيداً، يعزف لحن وداع، يباعد بين ناظريه الكليلين وبين أوتار كمانِهِ العتيق، ويسرّب من بين أصابعه الراجِفَة أنّات حنينٍ، ولوعة فقد ما أدرك عتبات الأمنيات.
هنا… على إفريز النافذة، وُريقات ريحان كثيفة وصغيرة جداً، تتنفّس بؤسها على عيدان رفيعة، نابتة من قلب تراب جافر ما ذاق طعم الندى، وتكتمُ روائحها عن فراشة تأتيها في كلّ صباح، تلاعب طيوفها من وراء الزجاج، وتلامس بجناحيها الزهريّين صمتها المصقول شفيفاً، جداراً يباعد بينها وبين أمل ما كفّ عن التوثّب.
أوراق صفراء منثورة بفوضى فوق الأثاث البالي، تحشو في تجاويفها ذاكرة خَرِفَة، وتاريخاً عبثياً زاخراً بالنفاق والكذب، وكتباً تكتم أنفاسها على فيوضٍ من تفاهات، وأشياءَ صغيرة وكبيرة مركونة على رفوف خشبية لم تعد تنهَدُ بريقها الذي كان… ومروحةً كسولةً تلهث وراء غبارٍ لا يكفّ عن الصخب.
هنا… تحاصرني عناكب الكآبة، تسيّج حولي دوائرَ مجدولة بأشواك الصبّار، تباعد في كلّ يوم بيني وبين صخب الصارخين وراء أقفال الأبواب.
ـ افتح النافذة للشمس!
عن أيّ شمس تتحدثون؟ ومنذ متى كانت نوافذ البؤساء تَفتَحُ على خيوط الشمس؟
إنها تشرق في فضاءات أخرى… بعيدة، وغريبة عن طقوس عازف الكمان النبيل، وعني.
الفراشة تضرب بجناحيها الشفيفين زجاج النافذة، ووريقات الريحان تَنصَبُّ إليها شوقاً. حاولتُ أن أفتح ظلاً من شقوق النافذة، وجدتها قد تكلّست منذ زمن غارقٍ بالدهشة.
تضيء الشاشة، هذه المسكونة بي، تأتيني كلّما تلعثَمت حروفُ مفردةٍ على لساني بكثير من الشدو الموشّى بمواعيد برّاقة، تمسك بتلابيب قراري، أحسبه فيوض غناء، فيلامسني، وهو يزجي إليّ شدوه، برعب الآتي، تتسرّب تلك الفراشة حبيسة الضياء من أسفل الشاشة، تجرّ ذيل فستانها الأبيض الطويل، وتسكن حجرات قلبي.
ـ أتَوّجُكِ مليكة على فصول وحدتي.
أنتِ… أيتها السابحة إليّ بعنفوان الرضا الشاحب، أخيراً، ستكونين رفيقة عمري الباقي.
كانت مواكب الشحنات السوداء المعبّأة بتخاريف الكشوف التصويرية، وتهويمات الباحثين عن ثرائهم بين لفائف البائسين، تقذف من رئتيّ المتعبتين لواعج حبيبات حمراء.
قال ذلك الأفّاق وهو يلوي نظارته الرقيقة:
ـ رحلة قاربت على مستقرّ لها أخير!
الفراشة تداعب حروف الشاشة المضيئة، تلامس خافقي المتعب بصفاء ألوان معشّقة على طرفي جناحيها، تحوم كالقدر، فتغرقني في لجاجات الدائرة، دائرة شُغفتُ بها، ولكن هذا الصخب في صدري لا يزال يعلن الأفول!
تارة… أعيش صبوة دوراني في قلب الدائرة، يحاصرني محيطها المحفوف بألق الأمنيات، وترانيم الصبوة المباحة، بكثير من انشداد الودّ، وأوتار الكمان الملتصق بعنق العجوز تداعب حلماً كثيراً ما أقصيته عن عالمي، لكنه يضعني والفراشة في قلب دائرة لها مذاق السحر.
في أحايين أخرى كثيرة، لا أجيد غير التحويم بلا هدف، وبلا بوصلة، وبلا صعقة النشوة خارج الدائرة.
أرنو إلى شبح الشاشة، هذه الساكتة ضياء، لا شيء يأتي غير دوائر واهمة ليس لها أثر، تضيف إلى قفل يقيّدني، أقفالاً جديدة، تحمل مع صديدها الأحمر مسمّيات جديدة، ومفردات جديدة.
أسقطُ في متاهات ذاتي، ويعلنني الانتظار حليفاً صابراً أتقنت فنّ البقاء طويلاً أمام رجفات شاشة تعلن في كلّ لحظة جفافها.
وعندما يطلّ شبح وهم من وراء الزجاج البعيد، لا أجدها، بل أجدني أحوم حول الدائرة، أبحث عنها، أسمع قهقهات العجوز المتغضّن وراء كمانه العتيق.
تغادر الفراشة، لا أعرف إلى أين يمضي بها المسار، كأنني لم أكن ذلك البريق المكين.
ربّاه… ماذا أفعل؟
يصارعني الوقت، يعلن في كلّ ومضة أنه قارب على فتق رتوق الشرايين.
هل أغرق في الأحمر الموشوم بلسعات السواد المتمكّنة مني!؟
أصابع العجوز ترجف حثيثاً على نبض الأوتار، والفراشة تمارس فنّ الشدو، وأنا أغرق في لجّة ذاتي المطحونة بالوجع.
هل أخرج إلى فضاءات النور المتماهي وراء زجاج نافذتي؟
هل أطحن خفق جناحين ملوّنين بألوان القوس القديم يمارسان عليّ جنون الانتظار؟
هل، وهل، وهل…؟
وهل يمهلني الوقت لأصنع من ذاتي ذلك القرار، أم أتعلّق ذات يوم إلى جانب هذا العجوز، خشبة من دون أوتار، ونغماً صامتاً ليس له صدى.
أتحنّط وراء دائرة لم تعد لي، ولم أعد أطير في حومتها، وأبقى أطير حولها.
أطير وأطير إلى أن ينهكني بحث الكاشفين عن علّة هزالي، ثم… سريعاً أو بطيئاً تخنقني سطوة الدماء الطافحة.
يومذاك، تعود الفراشة تبحث من وراء الزجاج، عن قصفة ريحان معبّأةٍ على أعواد وتريّة.
بينما يعلن الوقت البائس عن مجزرةٍ جديدة، وسياسات جديدة، وإفكٍ جديد!