الطائف في الميزان
بشارة مرهج
على الرغم من أنّ النظام السياسي في لبنان يعتبر نظاماً مركزياً حسب الدستور إلا أنه في واقع الحال أقرب ما يكون الى نظام فدرالي ينازع السلطة المركزية صلاحياتها عبر الظاهرة الطائفية التي تخترق مراتب النظام كلها. وقد تكرّست طائفية النظام اللبناني رسمياً منذ نجح القناصل الأجانب في إقامة نظام المتصرفية على قواعد طائفية لم يستطع لبنان التحرّر منها حتى اليوم.
وعندما ابتُلي لبنان بالانتداب الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى تكرّست الطائفية واشتدّ لهيبها، إذ اعتبرت فئات لبنانية انها انتصرت ولا بدّ من ترجمة هذا الانتصار في الميزان السياسي كما في مراتب الدولة، فقامت في وجهها فئات لبنانية أخرى تطالب برفع الغبن وتحقيق التوازن.
ولما برز تحدّي الاستقلال عام 1943 اكتشف اللبنانيون، الذين اكتووا جميعاً بنار الانتداب الذي نكّل بهم وانتقص من كراماتهم، انه لا بدّ من تجاوز الانقسام وتوحيد الصفوف للتحرّر من الاحتلال المقنّع وتحقيق الاستقلال. في تلك اللحظة تكرّس ميثاق وطني بين اللبنانيين كانت إرهاصاته تتوالى من قبل كلما شعروا بوطأة الانتداب وعبثية الصراع في ما بينهم.
والميثاق لم يكن مكتوباً حتى صدر البيان الوزاري لحكومة رياض الصلح في عهد بشارة الخوري عام 1943 وفحواه التفاهم بين المسحيين والمسلمين على تحقيق الاستقلال والتخلي عن فكرة الحماية الأجنبية من جهة، وفكرة الاتحاد بسورية من جهة أخرى، على أن يكون لبنان حراً سيداً مستقلاً ذو وجه عربي لا مقراً للاستعمار ولا ممراً.
وبموجب الميثاق أصبحت السلطة شراكة بين الفريقين. لكن ميزان القوى بينهما كان لصالح الفريق المسيحي فأصبحت الشراكة موضع تنازع يقوى ويخفت حسب الظروف وتبعاً لحكمة كبار المسؤولين.
ولم تتجاوز تلك الصراعات السقف السياسي إلا في عام 1958 عندما خرج الحكم بقيادة الرئيس كميل شمعون وانحاز الى الغرب وخضع لمطالبه ودخل في أحلافه مما اعتبره لبنانيون كثيرون ومن كلّ الطوائف خروجاً على الميثاق. فأدّى ذلك الى أحداث عام 1958 المعروفة حيث اضطربت الأوضاع الداخلية وانتشرت الصراعات المسلحة وتفشت العصبيات الطائفية.
وبعد استفحال الحرب اللبنانية والتي انفجرت في 13 نيسان 1975 حيث تداخلت فيها عوامل إقليمية ودولية وجد اللبنانيون أنفسهم في مهبّ الرياح وبحاجة الى تسوية توقف الحرب وتفتح آفاق السلام والبناء. وترافقت تلك الحاجة مع رغبة واسعة لدى الدول العربية والمجتمع الدولي في إيقاف النزف واستيعاب الوضع فكان اتفاق الطائف الذي تمّ التوصل اليه بحركة لبنانية واسعة ومشاركة عربية فعالة ومتابعة دولية نشطة.
وعندما صدرت مقرّرات الطائف رأت فيها أكثرية اللبنانيين حلاً مرحلياً يفسح في المجال لعودة السلم الأهلي وإعادة بناء الدولة وإعمار البلاد.
أقرّ الطائف مبدأ المناصفة في مجلس النواب ومجلس الوزراء وموظفي الفئة الأولى. وإذ كرّس الطائف الجانب الطائفي في الصيغة اللبنانية التي كانت قائمة من قبل عدّل في الوقت نفسه في الجانب السياسي في هذه الصيغة عندما أعاد توزيع الصلاحيات داخل السلطة التنفيذية وعزّز موقع رئاسة الحكومة ورئاسة المجلس النيابي.
وقد تكرّس هذا الأمر في الصيغة الدستورية الجديدة التي أقرّها مجلس النواب، وهو المجلس المنتخب عام 1972 والممدّد له أربع مرات بسبب الحرب.
وإذا كانت الصيغة الجديدة لم تقفل الباب على أيّ تعديلات جديدة يتفق عليها اللبنانيون في المستقبل إلا انها لم تكن مستقبلية وإنما كانت تسووية ومرحلية تستمد قوتها من معطيات الماضي بما فيها ثغراته وإشكالاته.
قبل الطائف كان رئيس الجمهورية يمارس الحكم يعاونه رئيس الحكومة والوزراء دون ان يكون مسؤولاً أمام المجلس النيابي. أما رئيس الحكومة فكان هو الذي يتحمّل وزر الحكم أمام المجلس. وهذا ما كان يعتبر خللاً في النظام وإجحافاً بمبدأ المشاركة، فجاء الطائف لينيط السلطة الإجرائية العليا بمجلس الوزراء مجتمعاً فأصبحت السلطة جماعية بعد ان كانت شبه فردية.
أصبح لمجلس الوزراء كيان قائم بذاته له مقرّ خاص وهيكلية إدارية، ومن حقه ان يجتمع برئاسة رئيس مجلس الوزراء بغياب رئيس الجمهورية، ويصدر قرارات نافذة على غير ما كان الوضع سابقاً عندما كان مجلس الوزراء ينعقد برئاسة رئيس الجمهورية، ويصدر القرارات النافذة بينما كان المجلس الوزاري ينعقد برئاسة رئيس الحكومة للبحث في الأوضاع والقضايا المطروحة دون ان يملك صلاحية اتخاذ قرارات نافذة بشأنها.
وبعد ان كان رئيس الجمهورية قبل الطائف يعيّن الوزراء ويسمّي من بينهم رئيساً أصبح الرئيس ملزماً بعد الطائف بتسمية رئيس الحكومة بحسب رأي الأكثرية النيابية وبعد التشاور مع رئيس مجلس النواب.
أما صلاحية إقالة الوزراء التي كان يتمتع بها الرئيس قبل الطائف فقد أصبح ملزماً بالاتفاق مع رئيس الحكومة لإصدار مراسيم بعد موافقة ثلثي أعضاء مجلس الوزراء على الأقلّ.
وبعد ان كان لرئيس الجمهورية قبل الطائف ان يحلّ مجلس النواب بقرار معلل وبموافقة مجلس الوزراء أصبح بعد الطائف مقيّداً بشرطين محدّدين: أولهما امتناع مجلس النواب عن الاجتماع طوال عقد عادي او عقدين استثنائين متتالين لغير أسباب قاهرة، ثانياً في حال ردّه الموازنة برمّتها بقصد شلذ يد الحكومة عن العمل.
أما بالنسبة لنشر القوانين والمراسيم فللرئيس بعد إطلاع مجلس الوزراء حق طلب إعادة النظر في القانون مرة واحدة ضمن المهلة المحدّدة لإصداره. ولا يصدر القانون إذا وافق المجلس على الردّ بالغالبية المطلقة من مجموع الأعضاء الذين يؤلفون المجلس قانوناً. وفي حال انقضاء المهلة دون إصدار القانون أو إعادته يعتبر القانون نافذاً ووجب نشره.
أما بالنسبة لقرارات مجلس الوزراء فلرئيس الجمهورية الحق بطلب إعادة النظر في أيّ قرار خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ إيداعه رئاسة الجمهورية، واذا أصرّ مجلس الوزراء على القرار المتخذ او انقضت المهلة دون إصدار المرسوم او إعادته يعتبر القرار او المرسوم نافذاً حكماً ووجب نشره. والإشكالية الأساسية هنا ليست في تقييد سلطة رئيس الجمهورية فكلّ سلطة يجب ان تكون مقيّدة بسلطة موازية، ولكن الإشكالية القائمة هنا تتجلى في انّ الرئيس مقيّد دون سواه في السلطة التنفيذية حيث لا مهل في هذا المجال تقيّد رئيس مجلس الوزراء والوزراء.
من كلّ ذلك نستنتج انّ الطائف قد حدّ من سلطات رئيس الجمهورية ولكن ليس للحدّ الذي يدّعيه البعض متباكياً او مديناً، فقد ظهر بالملموس من خلال التجربة التي عاشتها البلاد بالأمس ان شغور سدة الرئاسة أمر لا يُحتمل ويعرّض مسيرة الحكم للخطر ويشلّ هيكلية الدولة. فلئن تقلّصت صلاحيات الرئيس وبعضها لم يكن يمارسه أصلاً إلا أنه يبقى صمّام الأمان في البلاد ورئيساً للدولة وواسطة عقدها ورمز وحدتها المؤتمن على سيادتها ودستورها واستقرارها. ولا بديل عن توقيعه القوانين والمراسيم له الحق متى حضر ان يترأس مجلس الوزراء والاطلاع مسبقاً على جدول اعماله وطرح المواضيع الطارئة في جلساته وهو الذي يترأس مجلس الدفاع بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة.
وإذا كان الطائف أخذ من رئيس الجمهورية لصالح مجلس الوزراء مجتمعا فإنه عزز موقع رئيس الحكومة الذي أصبح رئيساً لمجلس الوزراء يترأس جلساته إلا إذا حضر رئيس الجمهورية، ويجري الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة ويوقع مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيلها ويطرح سياسة الحكومة العامة ويتحدّث باسمها ويوقع مع رئيس الجمهورية جميع المراسيم ما عدا مرسوم تسميته رئيساً للحكومة ومرسوم قبول استقالة الحكومة او اعتبارها مستقيلة.
وهو الذي يدعو مجلس الوزراء للانعقاد ويضع جدول أعماله وينسّق بين الوزراء ويتابع أعمال الإدارات والمؤسسات العامة التي يرتبط معظمها بسلطته.
وعند تشكيله للحكومة لا يرتبط بأيّ مهلة اما استقالة الحكومة فلم تعد مرتبطة بإرادة رئيس الجمهورية وإنما به شخصياً وباستحقاقات نص عليها الدستور.
ومقابل هذه السلطات فهو مسؤول عن تنفيذ السياسة العامة والقرارات التي يتخذها مجلس الوزراء بصفته السلطة العليا في البلاد عندما يكون في حالة انعقاد.
الى ذلك فإنّ رئيس الحكومة رغم مكانته الرفيعة يبقى مقيّداً بالثلث المعطل كما بأكثرية الثلثين. فإذا استقال من الحكومة ثلث أعضائها اضطرت الى الاستقالة وإذا طرح رئيس الحكومة مشروع قرار يتعلق بالقضايا الأساسية فهو بحاجة الى ثلثي أعضاء مجلس الوزراء لإقراره مما يضطره أحياناً إلى مراعاة أطراف قد يكون لها مطالب بالمقابل.
لقد أعطى الطائف حلولاً لبعض المشاكل، كما أنه طمأن أوساطاً أخرى لجهة النص على عروبة لبنان، كما طمأن أوساطاً أخرى لجهة النص على نهائية الوطن اللبناني، لكنه بحكم قواعده الطائفية طرح على أقطاب الحكم واجبات مضاعفة للحفاظ على وحدة السلطة وفعاليتها، إذ أصبح التفاهم بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة شرطاً لا بدّ منه لتسيير آلية الحكم، وتأمين انتظامها، وتسخيرها للصالح العام الذي يتضرّر ضرراً فادحاً كلما استبدّ خلاف بينهما سواء كان الخلاف شخصياً او موضوعياً.
العلاقة الأساسية بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة هي علاقة سياسية محكومة بالنصوص الدستورية، وبالتالي لا مناصّ من التفاهم حول القضايا السياسية المطروحة وسواها من القضايا، ولا بدّ من العمل في حال وجود تباين من أجل حصر هذا التباين وحلحلة كلّ الإشكالات وصولاً الى التفاهم الكامل، لأنّ مثل هذا التفاهم ضروري في كلّ الأوقات من أجل قيادة السفينة اللبنانبة والوصول بها الى برّ الأمان، خصوصاً في أجواء الفوضى والحروب التي تسود المنطقة. وكلما كان التعاون على قاعدة الدستور وعلى قاعدة الفهم المشترك للقضايا المطروحة والتنبّه للمخاطر التي تحيط بنا كلما تمّ تسهيل الأمور وكلما خطونا خطوات مهمة على طريق حلّ الكثير من الإشكالات التي تعترض مسيرة البلاد.
وهذا ما ينطبق على علاقتهما او على علاقة كلّ منهما برئيس مجلس النواب الذي عزز الطائف وضعه سواء على الصعيد الفردي أو المؤسّسي.
وقد دلت التجارب المؤلمة والمكلفة التي مرّت بها البلاد بعد الطائف كم هي الحاجة ماسة الى نسج علاقات موضوعية إيجابية بين مواقع السلطة الرئيسية تستند إلى الدستور وتتسم بالحكمة لضمان استقرار البلاد وتأمين المصلحة العامة.
ثمة قضية مهمة تبقى في الحسبان عندما نضع الطائف في الميزان، فعندما نصّ دستور الطائف في أحكامه الأساسية على اعتبار إلغاء الطائفية السياسية هدفاً وطنياً أساسياً يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية، ثم عاد فأكد على هذا الأمر مرة أخرى في المادة 95 طالباً من مجلس النواب تشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية تضمّ رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء وشخصيات سياسية وفكرية واجتماعية، فإنما كان يوجه رسالة حاسمة الى اللبنانيين بضرورة الخروج من الصيغة الطائفية التي تكاد ان تحوّل المجتمع اللبناني الى مجموعة غيتوات، والدولة اللبنانية الى مجموعة دويلات، ذلك تمهيداً للدخول في الصيغة الوطنية الديمقراطية التي تؤمن بالمؤسسات، وتؤمّن المساواه بين الجميع، وتنزع الغطاء عن الفاسدين والمتملّقين، وتنصف أهل الجدارة والاستحقاق، وتخلص الإدارة من المتسلّطين والطفيليين وتضعها في خدمة الناس والمجتمع بعد ان طال اعتقالها واستغلالها.
وفي الطريق إلى ذلك لا بدّ تكريس القضاء سلطة مستقلة محرّره من النفوذ السياسي، والعمل الفوري لتطبيق اللامركزية الإدارية التي نص عليها الطائف وتغاضى عنها أهله كي يحصروا السلطة بأيديهم بعد ان ارتدّوا على وزارة الشؤون البلدية والقروية وألحقوها، خلافاً لأيّ منطق عصري، بوزارة الداخلية زيادة في مركزة السلطة واحتكارها.
غير انّ كلّ ذلك لا يستقيم بدون أمرين بديهيّين بقدر ما هما مهمّين.
أولاً: إقرار الموازنة العامة بعد ان تمادى أهل الحلّ في تغييبها خلافاً لأحكام الدستور وكلّ المبادئ التي تقوم عليها الدولة التي حوّلوها الى مملكة لا تحلّ ولا تربط.
الثاني: إقرار قانون انتخاب جديد يحاكي العصر ويؤمّن صحة التمثيل الشعبي على أساس النسبية والدائرة الموسعة.
ويمهّد الطريق لإلغاء الطائفية السياسية التي تكاد تقضي على الدولة نفسها.
محاضرة ألقيت في قاعة مركز العزم الثقافي طرابلس
وزير ونائب سابق