محاورات الرواية العربية مع الأدب العالمي… «فرنكشتاين» و«أصابع لوليتا» أنموذجاً
سورية ـ دعد ديب
إذا كان مفهوماً أنّ فنّ الرواية العربية، جنسٌ أدبيّ وافد من الثقافة الأوروبية، وتحديداً إبان عصر النهضة التي سادت أوروبا وأخذت تجلّياتها بالفنون عموماً والرواية على وجه الخصوص، وانعكاسها على ما عرف كذلك بعصر النهضة في العالم العربي، فإنّ تسرّب المهيمنات الأساسية والنماذج الكلاسيكية الأوروبية، إلى نماذج الرواية العربية في الألفية الثانية، ظاهرة تستحق الدراسة والتشخيص. فما فتئت طائفة من الروائيين العرب، تستعين بإحداثيات تلك المنجزات الكلاسيكية في الرواية الأوروبية، لا بل تستعير أحياناً بناها المضمونية، محاكاة مرّة، وتقليداً أخرى، واستلهاماً لنصوصها، أو حتى إعادة صوغ طرق مقاربتها، وهنا يمكن أن أحدّد مثالين على ذلك، لروائيين عربيين من جيلين مختلفين، هما الجزائري واسيني الأعرج والعراقي أحمد سعداوي. فالأول مغاربي، والثاني مشرقي، لكن هذا التباين الجغرافي في المكان والبيئة الاجتماعية، لم يمنع المغاربي والمشرقي من أن يلتقيا عند ضفاف أخرى، وربما «يخضعا» للتأثيرات ذاتها القادمة من مكان آخر. فواسيني الأعرج وهو الروائي ذو التجربة الطويلة في الكتابة، يقدّم لنا منذ عنوان روايته «أصابع لوليتا» إعلاناً واضحاً بأنّه يستعير أضواء الروسي فلاديمير نابوكوف التي اخترقت ظلاماً لم يكن هيِّناً تماماً لتشعّ بنورها، في حقبة صعبة، بفعل معالجتها لبنية حكاية كانت تبدو محظورة في عصرها، لما انطوت عليه مما كان يبدو «شذوذاً» بالنسبة للعامة، والمتلقي الذي لم يعتد مثل هذه البنية الحكاية المختلفة، قبل أن يطالعنا علم النفس بتفسيراته المضنية لمثل هذه الحالات. لقد كان التركيز على الهوس الجنسي لرجل في خمسينياته بالفتيات الصغيرات، غير مألوفٍ فعلاً في الرواية الأوروبية، قبل أن يضعنا نابوكوف في أجواء سردية ونفسية تعطي بطله تبريراً لنزوعه بوصفه نوعاً من التعويض عن عشق صباه بفتاته المفقودة التي لم يستطع نسيانها رغم مرور الزمن ، فكأنه كان يستعيد بهذا النزوع تمثيل حلمه المهدور، وعيشه في حياة أخرى تجعل من ذلك الزمن المفقود، زمناً موجوداً، ومتكرراً عبر عشيقات في غضاضة الصبا وريعان الشباب.
لكن هذا التبرير في سياق رواية نابكوف، لا نجده متاحاً لدى الأعرج، فالأخير لا يقدم لنا ذلك المسوغ النفسي والظلال الداخلية الكثيفة التي خلقت لديه ذلك النوع من النزوع، بل يكتفي بوصف الحالة، وشرحها بنوع من التقريرية.
كذلك فإن لوليتا الأعرج، لا تبدو مراهقة تماماً! فهو يظهرها في حالة قريبة من التوازن الإنساني فهي عدا عن كونها استحضاراً لعشق مراهق أول العمر، فإن نموذج العشق بينها وبين البطل، يتسم هو الآخر بنوع من العشق المتوازن كذلك، فهو عشق متبادل من طرفين، و«لوليتاه» تهيم به وَلهاً، وهي قارئة جيدة لرواياته، ولا تنقصها المعرفة والإحاطة بتاريخه الشخصي وحكاية نفيه من بلده ومعاناته مع السلطات الحاكمة، في صفحاتٍ وظّفها في سرد جانب من تاريخ الجزائر وثورته المغدورة، وكذلك موقفه من السلطة التي اقتنصها من تاجروا بدماء البشر مروراً بالفكر التكفيري الإرهابي الذي يلاحق بطله عبر العالم كونه تجرأ على المقدسات بروايته «عرش الشيطان» ليحيلنا نفسياً لرواية سلمان رشدي «الآيات الشيطانية» وما لقيت من عسف فكري وملاحقة وهدر دمه.
ما زال أصحاب هذا الفكر الجدانوفي يعتبرون أنفسهم محتكرين للحقيقة والتاريخ ويحاولون فرض نمط رؤيتهم على كل من تسول نفسه مخالفتهم وأمثلة التاريخ كثيرة من نجيب محفوظ لفرج فودة.
هذه المكابدات يظهرها لنا واسيني الأعرج في روايته على أنها الفكر المضاد للقيم الجمالية، فيصور الغرب من خلال نموذج «باريس» تحديداً كمناوئ له، لكن ثمة مفارقة هنا كان حرياً بالأعرج التنبه لها وعدم إغفالها، وهي أن الفكر الإرهابي لا يمكن عزله، لا عن منبته، ولا عن مشغليه ومغذي نزعاته وتمويله فهو الابن الذي تمرّدَ حتى على خالقه.
هذه النبتة التي بدت وكأنها نبتة شيطانية! تقودنا إلى النموذج الثاني في هذه المقاربة، وهو راوية «فرنكشتاين في بغداد» للعراقي أحمد سعداوي الحائزة على جائزة البوكر العربية لعام 2014، فهي تحيلنا إلى نمط الشخصية الإشكالية في هذا العمل على صعيدي المخيال والفكرة، واستعارته منذ العنوان كذلك، لفرنكشتاين الروائية الانكليزية ماري شيلي مبتدعة شخصية فرانكشتاين في القرن التاسع عشر.
فالكائن المسخ الذي انفلب على صانعه وأضحى مصدر رعب وتهديد لمن أوجده، يجعلك في لحظة ما تتعاطف مع قبحه، بفعل حاجته لأنيس في حياته القاحلة ، لكنّ من أوجده في حالته تلك، لم يعد بمقدوره السيطرة عليه، ولم يعد يجرؤ على خلق أنيس له، إذ لا يمكن التنبؤ بالمدى الخطير الذي يمكن أن تبلغه شروره، كما أنه غير قادر على كبح جماح اندفاع نزواته العنفية وشهواته الدامية، وبهذا فقد غدا هذا الكائن المسخ نوعاً من «العقوبة» التي تطال مِنْ بين مَنْ تطال صانعه، وغدا إثمه الشخصي ولعنته التي تطارده، بفعل تجرؤه على فعل الخلق! وشروره التي تنعكس عليه قبل الآخرين.
فرنكشتاين ماري شيلي بالدلالة المسخية العنفية، وبالهوية الأسمية، يتكئ عليها صاحب البوكر العربية، ليصيغ شخصية خرافية شكلت أجزاءها من بقايا الضحايا، فتدبُّ فيها الحياة وتنهض لتنتقم من مسببي الجريمة، ليدور فرانكشتاين، ويدور معه القارئ في دوامة العنف القائم في بغداد، بعد الاحتلال الأميركي وتركه البلد تتقاتل وتتقطع أوصالها، وهنا يظهر لنا الصانع، صانع فرنكشتاين، مجازياً وإن كان ينسبه لشخصية «هادي العتاگ» بائع الخردوات، بمعنى أنّ من خلقه هو ذاته المسبب في الموت والدمار، لكن المخلوق يرتد على خالقه ليرد الجريمة بمثلها، وكما يقال في علم النفس، «الجريمة تجر الجريمة والعنف يولد العنف» فقد كان على هذا المسخ أن يبقي يديه ملوثتين دائماً بدماء ضحاياها الأبرياء،، ليستمر هو، بحالة اطرادية، على قيد الحياة. وهكذا فإنّ «مسخ بغداد» الذي خلقته قوى الدمار وارتد عليها تهديداً وانتقاماً، سيظل طليقاً شاهداً على القتيل والقاتل معاً.
هذا الاقتراب، حدّ التشابه في العناوين والفكرة، وطريقة التخييل، واستعارة الشخصيات الرمزية في الأدب العالمي، هل هو نوع من «االمثاقفة» المعبر عنها في عمل أدبي معجب بالأصل؟ أم هو نزوع نحو إيجاد فهم عالمي وانتشار لهمومنا المحلية الفكرية منها والحياتية؟ أم هو مجرد اتكاء على عمل حقّق شهرته وعالميته واستقر في كلاسيكيته؟ أم هو لجوء إلى الجاهز بسبب الافتقار إلى فكرة أصيلة تجسد هول الواقع؟ أم لعله التناص الذي لا مناص منه في زمن العولمة حيث « ما من نصٍّ إلا ويبنى على نص سابق» بحسب رولان بارت، فذاكرة الأدب بحر متلاطم من إرث الشعوب، لا سدّ يمكن له الوقوف في وجه من يصطاد درره.
حيث تبدى النتاج الجديد لكلتا الروايتين بحرفية عالية وفنية محلية لغة وتفاصيل تستدرج واقعاً له خصوصية عميقة في وجدان المتلقي الشرق متوسطي تجعله يحس بتنوع وتفوق الجديد واتساع افاقه ومد جذورله في واقع اشبه برمال متحركة من معوقات تتخذ اشكال عدة على اكثر من منحى واتجاه.
كل هذه الافتراضات متاحة، في تفسير التشابه الذي أشرت إليه، لكنها مهما تعدّدت فإنها لا تلغي حقيقة أنّ فرادة الفكرة المبتكرة، تبقى برسم صاحبها الأول، وما تنفك تلقي بظلالها الكثيفة على اللاحق، مهما اجتهد المجتهدون من بعده.