فليُرحم الإبداع!

نجاح إبراهيم

كلمة لا بدّ منها، هي بمثابة عتبة: «على الوردة تنمّ رائحتها، وعلى الطريق يُستدل بالعصا، والجثة مهما فوّح الشمّاسُ حولها من عطر ستبقى ».

هي كلمة أقولها، تشبه إلى حدّ ما حالة الرّاقص في المتعبين، وجأجأة الضوء في الظلمة، وصوت المغنّي في آذان الصمّ.

ما الإبداع؟!

هو ولا شك تجاوز للمألوف، ثورة، كلمة يخطها المبدع على الورق «إن كان كاتباً» في لحظة أشبه ما تكون بلحظة مناولة القديسين، صفعة تتلقاها وأنت ترحّب بسيل الصفعات، لا بل تسترحم الصافع ليهبك غيرها وغيرها.

الإبداع: خطوط متقاطعة تولّد فعلاً لا خطّاً مستقيماً ينبت أمام العين ببلاهة فيبعث فيك السأم والرتابة.

ذلك التجاوز، تلك الثورة تلك الكلمة، تلك الصفعة، تلك الخطوط المتقاطعة التي تغزل حركة وحياة، أين هذا كله ممّا جرى من تكريم أقيم تحت مظلة الإبداع مؤخراً في الرقة؟

بداية، أقدّمُ اعتذاري إلى كلّ مبدع حقيقي يقبع في محرابه، يواصل إبداعه بصمت خاشعٍ، ويؤول ما أقوله ثم يبتسم ابتسامة نبي.

عذراً من حبره المقدّس، من صوته المقدّس، من لونه المقدّس، من إزميله المقدّس، من يأسه المقدّس، وإن تلامع في عينيه خيطٌ رفيعٌ من يأس لما آلت إليه الأوضاع، فهو ولا شك يشعرُ بخيبة تشبه خيبة شاعرٍ معروفٍ، حين سأل ذات زمن مبدعة قال لها: «كيف تجدين كُتبَ المشاهير من الشعراء والروائيين والمسرحيين تُباع على الأرصفة وتكادُ تطؤها أحذية المارّة، ألا تشعرين باليأس ممّا تكتبين؟».

بيد أنني لا أجزم أنه يأسٌ قاتلٌ، بل يأسٌ رفيع المستوى ينتاب هؤلاء المبدعين الحقيقيين الذين أعرفهم، والذي يكون كزيت في مشكاتهم، ولكنّني أجزم أنّ هذا الذي صلبوه من دون أن يعرفوه، وقد قالوا: «خبرناه وقرأناه ورأيناه»، أجزم أنه لن يقهر، ولن يعبث به طويلاً، مهما حاولوا إيصاله إلى الدرك الذي أوصلوه إليه، لأسأل الآن:

كيف يُختار المبدع ليكرّم، ويحتفى به وبإبداعهِ؟ ومن هم القائمون على هذا الاختيار؟

هل أقول إنه يُختار على أساس ما يخلف من آثار لها نَفَسٌ إلهي، تدفعنا من دون إرادةٍ منا لرفعها إلى مستوى كتابٍ مقدّس؟ وما يبعث فيّ وفيك من جرّاء إبداعهِ، كما يبعث الناقوس في الناسك.

ذلك الذي نركض خلف صدى صوته بعدما سمعناه، فنلملم ذلك الصدى، لنقرنه مع رعشة الدهشة، التي خلّفها نصّه أو «إبداعه» متأرجحةً بين أهدابنا، رعشة توالدت من جرّاء نداءٍ غامض هُتف بنا. يُختارُ على أساس أنه يقرّبنا أثناء قراءتنا إبداعه، من السماء، فنقرأ الغيوم، وما بعدها، نقرأ الغيب، ثم ندفع بأيدينا لنلمس العرش كالحالمين، فنحسّ بأننا نشارك في الخلق، ونمارس الفعل.

هكذا يُختار إذاً!

لا أن يُختار على أساس أنه كاتب فحسب، وأثناء استماعنا له في أمسية ما، ينشغل كلُّ متلقٍّ بجهازه الخلوي، ليفتحه على صوت هرّة تموء، مستعيضاً بذلك عن سماعه نصّاً مملاً بدا كمطارق تضرب الأذن.

الكلام الفضفاض موجود في كلّ مكان، وحالات الحبُّ، التي يكتبها المسنون، والتي تناسب المراهقين، أعتقد أنّ الكثيرين من الكتبة يبتدئون بها كتاباتهم.

فهل يعقل أن يكون مبدعاً من يسرد حالات عشقه العادية، ومناجاته لحبيب موهوم وهو في الستين على أسماعنا؟! أو يكون مبدعاً من أطلقَ كلاماً يستطيع أن يقوله كلّ جالسٍ أمام الدّور الشعبيةِ يحتسي الشاي الغامق، و«يكشّ» الذباب من أمام وجهه الأسمر الذي ينظر إلى الأشياء بحيادية مقيتة؟!

من هم القائمون على الاختيار؟ هل هم هؤلاء الذين يتذوقون الطبخ وبطونهم فارغة؟ ومن يجدون مأوى بعد يومٍ طويل عابث، فيبيتون ليلتهم هي ليلة على أيّ حال ـ أم الاختيار يكون بمقياس شق شارع يراد تزفيته، أو مجرورٍ «زقم وبهدل الدنيا» لا أظنك تريد غناءً للجائع فيسمعك بمعدته، ثم يكيل لك المديح على «أبو جنب» ولا معطفَ، أو جدران تحتضن المشرد الممرّغ بحيرة الجهات المستذئبة في الليالي، ولا ورقة عملٍ تملؤها بمنجزٍ تغافل بها من هم أعلى رتبةٍ منك!

إنما أنت مثلي، تريد أن يكون الأدباء والمثقفون هم الذين يختارون المبدع الحقيقي ويزكونه ليحمل راية الإبداع، ويحتفون به كما يُحتفى بقائدٍ منتصرٍ.

لأنّ الأدباء وحدهم يقرؤون آثار غيرهم بتفحصٍ كبير، وينقبون فيها، وبالتالي لهم المعرفة ولا أحد سواهم.

أمّا لو سألت القائمين على اختيار المبدعين في هذا الزمان، فإنهم يهزّون برؤوسهم هزاً عنيفاً إلى أعلى وأسفل، وأعلى وأسفل آلاف المرات، كناية عن معرفتهم بكلّ شيء، ويؤكدون بأنهم ألمّوا بالأعمال الكاملة لمن يريدون تقييمه، فيسرفون في التكريمات، وإشعال فتيل المناسبات الضرورية، وغير الضرورية، وإعلان عجيج الغبار وبث جلجلة في غير وقتها كبائعي جرار الغاز أثناء فترة القيلولة.

تكريم الإبداع لا يكون طبطبة على خدود الأرامل والعوانس والمطلقات، وتعويضاً عن حالة مادية سيئة ألمّت بشبه كاتب أسرف في مدّ موائده أمام الجياع.

تكريم المبدع يكون لفرد مبدع، يرى كلّ مبدع نفسه فيه، فيكون تمثيلاً للكلّ، وبالتالي كوكبة فرح تعمُّ الجميع، وتثلج صدورهم.

فلنشفق على ما وصلنا إليه، لنشفق على اليبوسة التي وصلت بالقائمين على انتقاء المبدعين، لنشفق على بصرهم، فالمبدعون كثر، وما زالت إبداعاتهم تشبه الصفعة حين تقرأ لهم، يصفعونك بشدة، فتبقى برهة مذهولاً، صامتاً، لا تعي ما تفعل وبالتالي ترغب في أن تمسك بالقلم أو بالريشة أو بالإزميل، وترعف بالمدهش والمتميز، وحين يغيبون عنك قليلاً تناضل لتأتيك صفعاتهم، وأنا وأنت نتبع ما يُدهش أيها الـ… مثلي.

أما أنتم أيها الـ…، ففتشوا عن الإبداع الحقيقي، لأنّ حين تُفتح الأوراق ذات زمن قادم، أخشى أن تسرعوا وتفتشوا عن أقنعة تحول بين نظراتنا وبين وجوهكم، ارحموا الإبداع، فالإبداع كليلة القدر لا يراها إلا من هو جدير بها، ليلة مضيئة تكون لمن يستحقها، فعلام تسلطون ضوءاً صوب الأعين الغافلة، التي تمكن النعاس منها، وتوهمونها بأنه سطوع ليلة القدر، دعوا النائم يكمل سباته، فهناك عددٌ من المتهدجين أصواتهم المندّاة بالتبتل تأتينا.

وأخيراً، أريدُ أن أهمس في أذن المبدع الحقيقي، ذلك القابع في محرابه وخيط رفيع من اليأس في عينيه، أريد أن أهمس له بمقولة شكسبير:

«لا المرمر، ولا آثار الملوك الذهبية، سوف تعيشُ أطول من إبداعك».

كاتبة سورية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى