التغيير الفعلي ليس وشيكاً…
د. وفيق إبراهيم
ما يبعث على الفرح في أوساط الطبقة الحاكمة في لبنان أنّ الصراع السياسي المتفاقم حالياً يندلع في إطار ملعبها فقط، وبين قواها الأساسية وليس مع تيارات حديثة تريد نظاماً مدنياً.
لا ترمي هذه المعادلة إلى إشاعة اليأس في صفوف الطامحين إلى بناء نظام حديث على قاعدة المواطنة المتساوية، لكنها تقدّم توصيفاً موضوعياً يدركه كلّ متابع دقيق للتطورات المتسارعة.
بداية، لا بدّ من الإشارة إلى مرحلة ما قبل 1982. كان للمطالبين فيها ببناء الدولة الحديثة أهمية في الشارع، واستعملوا كلّ ألوان التعبير لإيصال مطالبهم، لكن التنظيمات الفلسطينية التي كانت موجودة في لبنان فرضت إيقاعها على الأحزاب الوطنية والقومية واليسارية، فبدا المشهد مضطرباً.. تظاهرات من أجل تحرير فلسطين وتغيير النظام في آن معاً.. معارضون آخرون يتظاهرون من أجل المشروع القومي وهم يهاجمون النظام الطائفي، وكأنّ الأنظمة العربية الأخرى أكثر تقدّماً.
وكان أن حجّمت الحرب الداخلية العسكرية والسياسية كلّ أحجام المطالبين بالتغيير لمصلحة تموضع قوى النظام الطائفي وإيلائها امتيازات تعادل ما للملوك وربما أكثر. وابتداءً من 1995، أصبح الخط التغييري مجرد شخصيات تاريخية ترمز إلى مرحلة حميمة، لكنها لا تمتلك قواها.. فاتفاق الطائف أتاح فرصة لتعزيز النظام معيداً تأسيس الدولة بشكل أقوى ومدعومة بالحراب الداخلية والإقليمية والمال العام والدين والإعلام والنقابات والمصارف.
تحوّل الصراع إذاً إلى داخل قوى النظام بعد أن كان بين قوى تطالب بالتغيير وبين الأحزاب الطائفية، وتحكّمت هذه القوى بكلّ مفاصل البلاد تحت راية الرئيس الراحل رفيق الحريري، فلم تبقِ متنفّساً لأحد على قاعدة أنّ الدولة تبني لبنان الجديد لمرحلة ما بعد «السلام مع إسرائيل». فتراكم انقطاع الكهرباء وتلوّث المياه وجبال النفايات والأمن السائب وخروج معظم البنية التحتية من الخدمة بفضل أسلوب التحشيد المذهبي والطائفي. هذا العجز الهائل هو صراع القوى الطائفية على تقاسم المغانم والأسلاب بينها علناً ومن دون خجل أو مواربة.
هذه الصراعات بين قوى السلطة انتقلت إلى وسائل الإعلام، فعرف الناس ماذا يجري، إنما من دون قدرة على الاعتراض. فتحوّلت دهشتهم إلى ثرثرات في المقاهي والزوايا والتكايا، لم يجد أهل النظام فيها خطراً، فاعتبروها لضرورات التنفيس عن الاحتقان والغضب. وهنا عادت الظروف المؤاتية لتسمح بتشكيل حلقات اعتراض شبابية عكست وجدان الرأي العام، ايّ ما يبطنه الناس، لكنهم لا يقولونه خشية خسارتهم لوسائل معاشهم وحياتهم من وظائف وأعمال.
وما آزر تحركات القطاعات الشبابية هو الصراع الداخلي بين القوى الطائفية نفسها، فكان الحزب الفلاني يدفع بشبابه لمساندة المعترضين، وذلك لمهاجمة زعيم آخر فقط.. وهكذا فعل أنصار الزعيم الآخر محاولين دفع الشباب لمهاجمة القائد المعارض لهم، أيّ لاستعمالهم في التقاتل بين قوى الطوائف من دون أن يعرفوا. هذا ما أدّى إلى احتواء نمط التحرك الحديث بأبسط الأثمان.. هذا التحرك الذي اقتصر على ندوات تلفزيونية في وسائل إعلام حاولت استغلاله في معاداة زعماء آخرين يعادونها، فلم يبق في «ميدان» السياسة إلّا «حديدان» الطوائف.
وانحصر الصراع تماماً بين مَن يريد نظاماً طائفياً بتحالفات ضيّقة، أو مَن يريده بتوازنات طائفية واسعة.. وهناك استحقاقات لعبت دورها في لجم اندفاعة العهد الحالي، فلا يمكن له أبداً تعميم نظرته الرئاسية إلا بعد إنجاز مسائل عدة: المجلس النيابي الممدّد له، والذي شارفت ولايته الحالية على الانتهاء، ومشروع قانون انتخابات لم تتمكّن القوى الحاكمة من التوصّل إلى تسوية حوله. فلو كانت القطاعات الشبابية «متشكلة» لكانت استغلّت القتال بين القوى الطائفية لمصلحة تنشيط حراكها. لكنها صمتت على وعود مكرّرة عشرات المرات من مسؤولين لم ينفذوها، حتى أنّ نقابة الأساتذة الثانويين قبلت بوعد «رئاسي» «كمّوني» وأوقفت تحركها، مع الإشارة إلى نقطة أنّ نقابة هذا القطاع أصبحت تنتمي إلى أحزاب النظام منذ مدة.
فهل تتمكّن قوى الدولة من إنتاج قانون انتخاب والتمديد لمجلس النواب؟ يبدو أنّ معظم هذه القوى تربط بين الاستحقاقين بشكل وثيق، فلا إمكانية للتمديد إلا مع إنتاج قانون انتخابي، وهذا ما يصرّ عليه العهد وحزب الله وحركة أمل، مقابل أحزاب المستقبل والاشتراكي و«القوات»، الذين يلعبون على عامل الوقت لفرض واحد من أمرين: التمديد للمجلس النيابي لعام على الأقلّ، ومحاولة التوصّل إلى قانون انتخاب جديد في هذه المدة أو العودة إلى الانتخابات ضمن قانون الستين لمرة واحدة وأخيرة، على حدّ تعبيرهم. مع الإشارة إلى أنّ هذه القوى لم تتمكّن من الاتفاق على قانون انتخاب منذ عقد تقريباً، والسبب أنّها تنام على حرير الامتيازات وصمت الرأي العام.
لكن العهد وحزب الله وحلفاءهما كانوا يُصرّون على النسبية الكاملة، ولا يقبلون بالتمديد إلّا على أساس تحقيق هذا الشرط، وعادوا ليقبلوا بنسبية على أساس دوائر موسّعة، لكن المشكلة لا تزال تراوح مكانها، فكلّ فريق يقيس الدوائر على قياس انتشاره الاجتماعي ومصالح حلفائه، والكلّ مجمع أنّ اللعب لا يجوز إلا ضمن الحلقة الطائفية… فأيّ لبنان نريد، وأيّ نظام ننتظر؟!
وبالإضافة إلى قانون الانتخاب والتمديد للمجلس النيابي، تتراكم أيضاً ملفات الفساد والكهرباء والأمن والإرهاب والبنية التحتية والدَّين العام الذي لا ينفكّ يتراكم بسحر الطلب على المغانم والأسلاب.
إنّ عملية بناء دولة تستلزم وجود قوى تؤمن بنقل «المزرعة» إلى مرحلة «الدولة» وليس العكس. لكن ما يجري هو فقط محاولة لإحداث تغييرات في التحالفات الرئيسية لقوى الطوائف نتيجة لتغيّرات طرأت في الآونة الأخيرة، وأولها انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للبلاد. وهذا يعني فوراً أنّ حزبه التيار الوطني الحر هو الممثل الأقوى عن المسيحيين، ويجب بالتالي أن يحلّ بدلاً من مسيحيّي السلطة التابعين لحزب المستقبل. وكذلك فإنّ صمود الدولة السورية باعتراف أميركي أوروبي روسي صيني، وبدعم عسكري مباشر من حلفائها اللبنانيين والإقليميين، لا يعني إلّا ضرورة تحسين وضع القوى اللبنانية التي تنتمي إلى هذا المحور ضمن تراتبية قوى النظام. ما يؤدّي عند تحقيقه إلى تراجعات إرغامية بحكم المنطق لقوى تمسك بمفاصل الدولة في أحزاب المستقبل و«القوات» والمسيحيين المستقلين والاشتراكي، ويتبيّن بالاستنتاج أنّ بناء معادلة طوائفية جديدة تأخذ بعين الاعتبار التغيّرات الداخلية والإقليمية هي التي توفر القوة للنظام الحالي، وإلا فإنّ الاستمرار في لعبة التجاذبات السياسية قد لا يفسح المجال لتغيير جذري لعدم وجود قوى فاعلة، لكنه يدخل لبنان في نفق اضطرابات غير محسوب مداها، مسهماً في تضعضع الكيان السياسي.
إلى أين نحن ذاهبون؟
هذا ما ينتظره اللبنانيون من نتائج المفاوضات السياسية التي ترتفع حيناً وتهبط حيناً آخر، لكنّ الوقت في هذه المرحلة من ذهب، فلا تمنحوا الفرصة للإرهابيين المهزومين في سورية والعراق بتدمير لبنان.