ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…

ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…

تُخصّصُ هذه الصفحة صبيحة كل يوم سبت، لتحتضنَ محطات لامعات من تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، صنعها قوميون اجتماعيون في مراحل صعبة من مسار الحزب، فأضافوا عبرها إلى تراث حزبهم وتاريخه التماعات نضالية هي خطوات راسخات على طريق النصر العظيم.

وحتى يبقى المستقبل في دائرة رؤيتنا، يجب أن لا يسقط من تاريخنا تفصيل واحد، ذلك أننا كأمّة، استمرار مادي روحي راح يتدفق منذ ما قبل التاريخ الجلي، وبالتالي فإن إبراز محطات الحزب النضالية، هو في الوقت عينه تأكيد وحدة الوجود القومي منذ انبثاقه وإلى أن تنطفئ الشمس.

كتابة تاريخنا مهمة بحجم الأمة.

إعداد: لبيب ناصيف

الأمين رشيد حبيب الأشقر… العملاق جسداً وصاحب الروحية القومية الاجتماعية

عرفته قومياً اجتماعياً بكلّ ما يعني ذلك من مناقب والتزام نهضوي ووفاء للقسم، وعرفه رفقاؤه في المتن الشمالي، وفي غانا، رفيقاً متفانياً فأميناً مستمراً في التزامه، مواظباً على عمله الحزبي، مساهماً في كلّ ما يخدم القضية التي باتت تعني له كل وجوده.

وعرفته الحركة الثقافية في أنطلياس عضواً فاعلاً يساهم في نشاطاتها، فلقّبه أعضاؤها بـ«خال الحركة». وعُرِف كثيراً بمكتبته الغنية جداً، التي كان يصرف ساعات نهاره فيها، مراجعاً، مرتباً، موضّباً، محافظاً على إرث كبير من وثائق ومخطوطات ومؤلفات.

وكان كاتباً، مترجماً، ومساهماً في نشر كتب ومؤلفات كثيرة… عنه هذا القليل:

– ولِد الأمين رشيد الأشقر في ديك المحدي عام 1928.

– تعلّم في مدرسة الناشئة الوطنية، للرفيق الأديب والمؤرخ جورج مصروعة في الفريكة 1 .

– أكمل دروسه الثانوية في معهد الرسل ـ جونية.

– سافر إلى غانا، حيث عاون والده في عمله التجاري.

– انتمى إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي عام 1943، وتولّى فيه مسؤوليات إدارية منها: مفوّض من قِبل عمدة الإذاعة بإدخال المقبلين على المبادئ القومية في جونيه 1944 1945، ناموس مديرية العرين ديك المحدي بيت الشعار 1946، عضو في مكتب «مام» 2 1947، مدير مديرية أكرا 1945 1950، ناموس مديرية أكرا 1950- 1956، خازن عام فعميد للمالية 1976، ناموس مفوضية غانا 1977 1978، مدير مديرية ديك المحدي 1991، رئيس لجنة منح رتب الأمانة 1996.

– تزوج من ناديا منصور، ورُزِق: حبيب، وربيع، وابنة وحيدة: سماح.

– عمل في حقل التجارة، ثم غادر إلى شاطئ العاج، ثم عاملاً في مجال الصناعة في غانا.

– عاد إلى الوطن سنة 1957، ثم غادره بسبب الحرب سنة 1975.

– مارس الصحافة في جريدة «اليوم» لصاحبها النقيب عفيف الطيبي.

– نقل كتاب «تاريخ المسلمين» للبطريرك الدويهي، من الكرشونية إلى العربية.

– انضم إلى الحركة الثقافية أنطلياس، وكان عضواً فاعلاً ومرجعاً.

– ترجم كتاب «حياتي وكفاحي» لرئيس غانا الدكتور كوامي نكروما.

– حقق نتاج أنطون سعاده الأدبي، وأصدره بحلّة جديدة تحت عنوان «الآثار الكاملة أدب».

– صحّح كتباً قديمة ومخطوطات، صدرت عن «دار صادر» في مزرعة يشوع.

– جمع مؤلفات نسيبه الخورأسقف بطرس الأشقر، وأعاد طبع روايتين له، بمعاونة رئيس بلدية ديك المحدي الرفيق أمين الأشقر.

– عشق الكتاب والمطالعة، وجمع الوثائق، فصار مرجعاً للأدباء والباحثين، من خلال مكتبة ضخمة، أنشأها في منزله، وشكّلت مرجعاً كبيراً مهماً.

وفاته

وافت المنية الأمين رشيد الأشقر بتاريخ 17 كانون أول 2007، ويوم 19 كانون الأول شهدت كنيسة مار الياس في ديك المحدي، وباحتها، وقاعتها المجاورة حضوراً حاشداً للرفقاء، ولأهالي ديك المحدي ومناطق أخرى، وقد تقاطروا لينضموا إلى عائلة الأمين رشيد في واجب تشييعه.

ألقى الأب سيمون فضول خلال الصلاة كلمة مؤثرة عدّد فيها مزايا وصفات الأمين الراحل. بعد القداس ألقى عميد الإذاعة في حينه، الأمين كمال نادر، كلمة مركز الحزب، ثم حُمِل نعش الأمين الراحل على أكتاف رفقائه ملفوفاً بعلم الزوبعة، وأدى له القوميون الاجتماعيون تحية الوداع قبل أن يوارى في الثرى.

كنت أتولى مسؤولية عميد لشؤون عبر الحدود عندما فوجئت بنبأ وفاة الأمين رشيد، وكنت قد تفقدته قبل ذلك بثلاثة أيام، فوجّهت إلى فروع ورفقاء عبر الحدود النعي التالي:

يأبى الموت إلا أن نُفجع من حين إلى آخر برحيل رفقاء أعزاء نريدهم أن يبقوا معنا في نضالهم، وفي حضورهم، وأن يكونوا في حزبهم يعطونه من إيمانهم ومن صدق التزامهم، وهو الأحوج في هذه الظروف إلى كل رفيق تفولذت نفسيته بصلابة الإنتماء القومي الاجتماعي.

لم أكن أتوقع أني، بزيارتي الأمين رشيد الأشقر يوم السبت الفائت، كنتُ ألقي النظرة الأخيرة عليه، وأستمع إليه للمرة الأخيرة، وأسرّ بلقائه وهو المشعّ دائماً بمزايا النهضة، والصادق دائماً في التزامه الواعي.

الأمين رشيد الأشقر أحد سنديانات هذا الحزب العظيم، ليس بهامته الشاهقة فقط، إنما بما كان عليه على مدى سنوات انتظامه من نضال مستمر، وتجسيد رائع لفضائل النهضة.

سيكتب عنه الكثير، مذ كان في غانا، إلى أن عاد إلى الوطن منضماً بعقله وساعديه ووجدانه إلى رفقائه، وبانياً في حزبه ضمن أصول النهضة ومناقبها، فما خلَّ يوماً بواجب، ولم يُعرف عنه أنه تعاطى خارج مزايا حزبه.

ننعيه بأسى وحزن كبيرين، ونقف مع عائلته، ومع المئات من رفقائه الذين عرفوه جيداً وفرحوا به، بخشوع صامت، إذ أن الكلام مهما كثر لن يفي الأمين رشيد حقه علينا، نحن الذين عرفناه جيداً، وعرفنا كم كان قومياً اجتماعياً منكبّاً على مصلحة حزبه.

ذكرى الأربعين

في ذكرى الأربعين لرحيله المصادف 27 كانون الثاني 2008، وُزِّعَ في نهاية القداس كرّاس عن الأمين الراحل تضمّن نبذة عن سيرته، وعدداً من الكلمات التي قيلت في رحيله.

ندوة تكريمية

دعا مكتب الدراسات العلمية لحضور ندوة تكريمية للأمين الراحل رشيد الأشقر، وذلك يوم الجمعة 18 نيسان 2008 في دارة الأمين منصور عازار في بيت الشعار تكلّم فيه كل من:

– الأمين منصور عازار: كلمة ترحيبية.

– الأب الدكتور أنطوان ضو: رشيد الأشقر كما عرفته.

– المؤلف أنطوان بطرس: مؤسسة في رجل.

– الباحث الرفيق جان داية: مكتبة رشيد الأشقر.

– الأب مارون الحايك: رشيد المؤمن.

– الكاتب الرفيق سليم سعدو سالم 3 : رشيد الأشقر الصديق والرفيق.

– الآنسة ميساء شقير: كلمة العائلة.

وجرى في المناسبة توزيع كرّاس خاص، قدمه الأمين منصور عازار بالكلمة التالية:

ترك الأمين رشيد الأشقر فراغاً في محيطه، وفيَّ أنا بالذات. إني أذكره صباحاً ومساءً، وأفتقد إلى إشعاع روحه وعقله وإيمانه العظيم في هذه النهضة الجبارة التي كانت مدار حياته، والتي عمل لها فكراً وثقافة، وآمن وحفظ الكثير من المراجع والمؤلفات في مكتبة تبقى إرثاً لأجيال لم تولد بعد.

قيل فيه

– كان الأمين رشيد الأشقر وجدان هذه النهضة، وذاكرتها الحية والمدوّنة. تلتقيه فينتعش إيمانك، وتدخل مكتبته فيستيقظ تاريخ النهضة. الأمين يوسف الأشقر

– حسْبُ الأمين رشيد في مثل نهضتنا، أنه باقٍ في الذاكرة أحد أبرز الأمناء الراشدين. الأمين فهد الباشا

– رشيد الأشقر مناضل في سبيل ثقافة الأصالة، والإنفتاح، والحوار، والابداع. ديمقراطي وجداني التزم بوحدة الأمة السورية، وباستقلال لبنان معاً. رفض تجارب وحدة الدمج بالقوة والاستقلال بالإنعزال. كان مع الإعتراف بالآخر واحترامه، ومع التواصل والوحدة في التنوع والعيش معاً بكرامة وحرية وعدالة ومساواة وسلام ومحبة. الأب الدكتور أنطوان ضو

– كان الأمين رشيد الأشقر يشارك في القداس، وفي الصلوات في كنيسة بلدته ديك المحدي، ويعترف بخطاياه للكاهن، ويتناول القربان المقدس، وتعمّق رشيد الأشقر في أصل الكنيسة السريانية السورية، الأنطاكية المارونية التي كانت أساس إيمانه بعقيدته الاجتماعية، وانتمائه إلى سعاده. الأب مارون الحايك

– تميّز الأمين رشيد الأشقر عن معظم أمناء المكتبات الخاصة بأنه فتح بوابة مكتبته أمام جميع الباحثين، والمثقفين، وبلا مقابل. الرفيق جان داية

– لقد بنى رشيد الأشقر خزاناً معرفياً يغرف منه كل من يشاء من الكتّاب، والمؤلفين. الباحث أنطوان بطرس

– لو تجسّد الوفاء رجلاً لكان رشيد الأشقر. الرفيق سليم سعدو سالم 3

– رشيد الأشقر من جيل المؤمنين بالنهضة القومية الاجتماعية، والمثقفين الذين حملوا مبادئها السامية ونشروها، وعملوا لانتصارها على عوامل التفرقة والتعصب المغلق. آمن بالحزب القومي طريقاً لإصلاح أوضاع البلاد وترقية حياة الشعب، وكان يرى أن المارونية تزدهر وتزهو في جو الإنفتاح على البيئة السورية والعالم كله، وتخبو إن حصرت في إطار الخوف وردّات الفعل الدموية. الأمين كمال نادر

– كان ذاكرة الحركة يجمع أرشيفها ومحاضرها وبياناتها ومنشوراتها. كان علمانياً في فكره وسلوكه، وإنساناً طيباً يبادر إلى مساعدة الآخر. تفقد الحركة في غيابه ركناً أساساً! الحركة الثقافية أنطلياس

– رشيد الأشقر مثال كبير بإنسانيّته ووفائه وصدقه، ومرجع هام لنا في ديك المحدي في مختلف الشؤون الاجتماعية والثقافية. رئيس بلدية ديك المحدي أمين ادمون الأشقر

– كبير كالوطن… غني ودافئ ومعطاء فكراً وقلباً، ليضم الأمة ويتألم لأحزانها. نفتقده ويبقى معنا. بسام أبو شريف

– افتقدت في رحيلك احترام الآخر والقدرة على الاصغاء، والصدق، والشهامة وحماية الضعيف، ايها الصديق كنز الثقافة والمعرفة. غريتا الشاعر الطويل 4

في الأمس كان معنا

نشر الرفيق سليم سعدو سالم الكلمة التالية في جريدة «الديار» بتاريخ 03/02/2008، ننقل أهم ما جاء فيها:

في ذكرى الأربعين لوفاة الأمين رشيد حبيب الأشقر، كلمة من القلب لا بدّ أن تقال. وسام الشهادة ليس وقفاً على من يسقط جسده في المعركة دفاعاً عن أرض الوطن، بل هو يُكتسب أيضاً لكل من كرّس نفسه وجهده حتى النفس الأخير لوطنه وشعبه، قدوةً ومثالاً، مقاتلاً بالكلمة الحق وبالموقف الراسخ، وبأخلاقية المبادئ التي آمن بها، ومن هذه الفئة المناضلة كان الأمين الأمين.

لم يكن من مشاهير المجتمعات المخملية، ولا من مشاهير السياسيين، بل كان شخصية عرف قيمتها محبّوه وأصدقاؤه وكل من احتكّ به أو تعامل معه، بل كان بذاته قيمة اجتماعية ومناقبية، له من يضاهيه، ولكن ليس من يسبقه أو يتفوّق عليه. هذا هو رشيد الأشقر، عفو القلم، الأمين الجزيل الاحترام رشيد الأشقر.

ولم يكن من الأدعياء ومحبي الظهور، ولا من متسلقي المناسبات وحملة المباخر، لأنه كان مثالاً في التواضع ومقداماً في التضحيات، لا يتزلّف ولا يمنّ على أحد بما يفعله.

من المحزن أننا لا نتذكر فضائل رجالنا إلا بعد موتهم، ولا نتذكر تضحيات أبطالنا إلا بعد سقوطهم في المعركة، معركة إثبات القيم والثبات على المبادئ، وليس من الضروري أن تكون معركة بالسلاح والنار، نعم، من المحزن أننا لا نقدر البطولة إلا إذا اقترنت باسم شهيد يسقط في المعركة، بينما البطولة أوسع وأعم وأشمل من الحدود الضيقة التي يحاول العاجزون عن فهمها، تقييدها وحصرها.

البطولة أن تعاني وتتعذّب وأن تصمد وتقاوم في سبيل مبدأ وعقيدة تؤمن بها، وكنت قد رفعت يمينك وأقسمت بشرفك وحقيقتك ومعتقدك أن تكون لها السيف والدرع، كما هي لك الهداية والمنارة.

هذه زخات قليلة من إيمان، تتدافع في العقل والوجدان بعد أن توارى عن محبيه الأمين جزيل الاحترام رشيد الأشقر، وقد كان الأمين الأمين يوم كانت الأمانة الأمانة عبئاً ووساماً، عبئاً لا تتحمله إلا القلوب المؤمنة والسواعد الجبارة، ووساماً يزيّن صدور الأبطال.

عرفته منذ الخمسينات، فهل يحق لي أن أنبش كل الماضي؟ بل هل استطيع؟ وهل يتسع المقام لكل ذلك الدفق من الحب والوفاء والصداقة والقيم التي تجمّعت وتجسدت لتكون بمعناها الأسمى في إنسان هو الأمين رشيد الأشقر؟

أترك للمسؤولين في الحزب أن يذكروا المناصب التي شغلها، والمسؤوليات التي تحمّلها وهي كثيرة.. منها مسؤولية الخازن العام، ومنها أيضاً مسؤولية رئيس لجنة منح رتب الأمانة، مكتفياً ببعض ما أعرف.

كان الأمين رشيد الأشقر موسوعة متنقلة، وكان ملاذاً وراعياً لكل من طلب المزيد من العلم والمعرفة، مكتبته التي تحوي آلاف الكتب القديمة لم يغلق خزائنها في وجه أحد إطلاقاً، بل كانت كبيدر القمح في موسم الحصاد، غذاء لكل من يريد الرجوع إلى مستند تاريخي أو حزبي، وإن عجزت المكتبة عن تلبية حاجات المحتاج انبرت ذاكرة الأمين لتسد الفراغ، وكانت ذاكرته أمينة له حتى آخر لحظة من حياته بيننا ومعنا.

قبل مغادرته إيانا بيومين عبّر عن رغبته في أن أحمله بسيارتي إلى معرض الكتاب، وقد عجز جسمه المنهك عن القيام بعبء الانتقال. لم يمل الإدمان على المطالعة والتزوّد بالمعرفة واقتناء الكتب القيمة، وإن سمع بكتاب ذي قيمة فكرية حاول بكل وسيلة أن يقتنيه ليطلع على ما فيه ويضمه إلى مكتبته التي صارت مقصد الباحثين والكتّاب في شتى ميادين المعرفة، واعتبرها البعض أرشيفاً حزبياً في كثير من الحالات.

كانت مكتبته، بل كان بيته مُشرع الأبواب دوماً لكل قاصد، وتسأل لماذا يفعل ذلك وهو من ذاق الأمرين اغتراباً وتشريداً، مع معاناة من قلة الوفاء بعض الأحيان. هل كان يفعل ذلك انتقاماً من كل المساوئ التي تشوّه تاريخ أمتنا وقيمة الإنسان في هذا الوطن ليثبت قول سعاده مخاطباً أبناء أمته: إن فيكم قوة لو فعلت لغيّرت وجه التاريخ؟ ذلك ممكن طبعاً، وقد كان موقفه هذا البرهان القاطع على أن نداء الخير والحق والجمال في وجدانه هو النداء الفاصل في تاريخ الأمة الرامية لأن يكون لها مكان الصدارة تحت الشمس.

الأمين جزيل الاحترام رشيد الأشقر كان سيد جلسات النقاش، بمعرفته وعلمه والأهم من ذلك كله، بأخلاقه المثالية، لا يمكن أن يجرح محاوره مهما تباعدت بينهما المواقف، ولا أن يساير من يقترب منه فكراً وحجة، ولا تأخذه في الحق لومة لائم، حتى في مناقشاته وحواراته مع أفراد حزبه والمسؤولين فيه.

لو أردت اختصار كل ما أعرفه عن الأمين الجزيل الاحترام رشيد الأشقر، وعلاقتي به بكلمات قليلة لقلت أنه الوفاء بأجلى معانيه، وأنه المحبة بأصفى ما تكون المحبة، والصدق حين تتلعثم الألسنة. وأنه الرجل حين تستدعي الرجولة التضحية. كان الأب الحنون والزوج الوفي، كما كان الصديق الصدوق والرفيق الأمين.

في الأمس كان معنا، بل كنا معه، في بيته وفي مكتبه، وفجأة مثل وميض النجم قبل غيابه، رحل عنا

مؤسسة في رجل

ليس من السهل ان يكون المرء صورة كاملة عن امرئ مبنية في معظمها على علاقة مهنية بحتة قصيرة الامد ومحدودة الإطار. ولكن كان لراحلنا الكبير، رشيد الأشقر، من الخصال المهنية ما يجعلني اعوّض قدر الإمكان عن الجزء الناقص في علاقتي به ويسمح لي بأن أحصر كلامي في جانب، وأهمل، مع الاسف الشديد، جانباً آخر أعرف كم كان هو غنياً به. وأثق ان الزملاء الكرام سوف يوفونه حقه في هذا المجال أكثر مني.

بداية، كنت أصادفه لماماً في إطار الحركة الثقافية في انطلياس، ابان الحرب الأهلية الماضية، المستمرة حتى الآن بشكل آخر. وكان يلفتني ذلك الرجل الطويل القامة، القليل الكلام، الذي تغلب عليه المهابة مغلفة بمسحة حزن لا تفارقه ولكنها لم تمنعه إطلاقاً من ان يكون في ذروة التواضع والمبادرة في تقديم أية خدمة. وكان تقديري له يتعمق، واحترامي يزيد، كلما التقيت به او تعاملت معه.

ويشاء القدر ان نجتمع اليوم في لقاء مخصص له بعد رحيله.

وأول ما يتبادر إلى ذهني أرثه الغني الذي وحده يسد الفراغ الذي تركه.

بدأت لقاءاتي التفاعلية معه في منزله والأصح في مكتبته المتخصصة يوم انهمكت بكتابة سيناريو للشهر الاخير من حياة سعاده واكتشفت أهمية السند الكبير الذي توفره مكتبته للباحثين والكتاب والمؤلفين وطبعه السمح في إعارة ما تحتويه مكتبته من مراجع نادرة بالغة الاهمية. كان مؤسسة في رجل.

واستمرت إطلالاتي لعنده طوال فترة العمل على تحضير المراجع. بعدها كنت التقي به في المناسبات الاحتفالية التي كان يحرص على حضورها برفقة وعناية صديقه المخلص سليم سعدو سالم، وكان يبدو جلياً، عاماً بعد عام، تردي صحته وتثاقل خطواته دون ان يفقد إطلالته وشموخه… وشغفه بالكتاب.

لكن هذه العلاقة المحدودة تركت اثراً في نفسي. كنت ألاحظ انه ينظر إلى الكتّاب الذين يقصدونه كفريق ينبغي التفاني في خدمتهم، فيلبي الطلب حاملاً المرجع المطلوب، ويقترب ببطء وصمت ليرتاح على اريكته وسط الكتب وفي جو العمارة الهندسية القديمة ويتطلع إليك بصفاء حزين كأنه وجه أيقونة من أيقونات الرسل الانجيليين الصابرين، مدى الدهور، في قباب الكنائس البيزنطية وهم يحملون لوحات من الإنجيل المقدس، وكأني أراه حاملاً إنجيل سعاده بانتظار القيامة.

إن مثل هذا الشغف بجمع الكتب ووضعها بمتناول المؤلفين أمر غير اعتيادي بل شيء مهم إن لم نقل نادر. فأنا لست اذكر انني أعرت كتاباً لأحد منذ أكثر من عشر سنوات كما وامتنعت في الوقت نفسه عن الاستعارة عملاً بالآية الكنفوشية السلبية «لا تفعلوا بالآخرين ما لا تريدون ان يفعلوه بكم». ولأن رشيداً كان ابن النهضة فكان اقرب إلى مفهوم فلوبير القائل «إقرأ كي تحيا»، منه إلى الجاحظ القائل «الكتاب أن خلوت لذاتي، وأن اهتممت سلوتي».

الكلمة التي القاها الباحث أنطوان بطرس في الندوة التي أقيمت تكريماً للأمين الراحل رشيد الأشقر.

هوامش:

1 – جورج مصروعة: أديب ومؤرّخ. نشرتُ عنه سابقاً. مراجعة قسم أرشيف تاريخ الحزب على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية wwww.ssnp.info. يصحّ أن يصدر عنه أكثر من مؤلف وأن يُكتَب عنه: أديباً، ومربياً، وروائياً ومؤرخاً ومناضلاً قومياً اجتماعياً.

2 – مام: المكتب الاعلى المختص، وهو الجهاز الأمني الحزبي،

3 – سليم سعدو سالم: من الجنوب السوري. كان منح رتبة الامانة إنما سقطت عنه وعن جميع حامليها بعد مؤتمر ملكارت، ولم يحصل أن رُشّح لنيل الرتبة بعد ذلك. تولّى مسؤوليات حزبية عدّة في أواخر الأربعينات، والخمسينات. ننتظر باهتمام صدور مذكراته.

4 – غريتا الشاعر: عرفتها كما شقيقيها الرفيقين يوسف والدكتور رامح. نشط الرفيق يوسف في كلية الآداب الجامعة اللبنانية وكان من مؤسّسي العمل الحزبي فيها، في السنوات التي تلت الثورة الانقلابية إلى جانب رفقاء منهم حاتم بركات وشوكت حكيم. غادر إلى تشيلي وفيها وافته المنية وهو في عزّ نشاطه.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى