«وما زال الحلم»… رواية الحلم أم حلم الرواية؟
أحمد علي هلال
ما انفّكت ـ الرواية ـ تساءل الواقع، لا لكي تشبه أو تصبح صورة تعكس أحداثه، خلال سيرورتها كجنسٍ إبداعي، ولعّل السؤال الذي تستبطنه، طيّ مدوّنتها هو سؤال المغامرة، على مستوى الشكل، وعلى مستوى المحتوى، فهل يصبح واقعاً بعينه ـ لدى الرواية ـ واقعٌ بالمعنى الفنّي؟ ثمّ ما هي درجات التشابه والاختلاف في طبيعة المغامرة السردية التي تقارب الواقع؟
ومن هنا، تعيدنا رواية «وما زال الحلم» للأديب الفلسطيني جمال بنوّرة، إلى كلاسيكيات الرواية الفلسطينية من حيث تمثّلها مرجعيات السرد الفلسطيني الذي يحيلنا إلى سمات وخصائص درج عليها درسنا النقدي ومنها: مفهوم الأدب الواقعي، المتصّل في ثيماته بأسلوبية الواقعية الاشتراكية ومرجعياتها الفكرية والاجتماعية والفنيّة على الأقل.
جمال بنوّرة القادم من عوالم القصة القصيرة، والبحث التراثي، ولعل أول مجموعة له كانت بعنوان «العودة» ونشرتها مكتبة «صلاح الدين» في القدس عام 1977، كما يذكر ذلك القاصّ السوري المبدع الراحل جميل حتمل في سجلّ إحصائيّ ببلويوغرافي خصّه لتحقيب القصة القصيرة وأعلامها، وهو بدأ أوائل الستينات من القرن المنصرم ومن بواكير قصصه «حرمان»، «زوجة رجل آخر»، «امرأة ذات قيمة»، «موت الفقراء»، «في المشفى» وغيرها فضلاً عن مسرحية بعنوان: «وكأنّ الموت ونحن على ميعاد».
وتأخذ روايته الثانية «وما زال الحلم» امتداداً لروايته الأولى «انتفاضة» على مستوى حاسم هو مستوى الشخصيات، لنعاين صيرورتها ومآلاتها، لا سيما أن الكاتب سيعنى بزمن الانتفاضة ـ إن صحّ التعبير ـ وبزمن آخر هو ما بعد صفقة أوسلو، وتجليات هذه الأزمنة على حيوات شخصياته ومساراتها، من خلال حكايةٍ تقليدية سوف تتعالق معها حكايات صغرى تدور في فلكها، لكن الحكايات كلّها ستكون صورةً عن حكاية فلسطين في لحظتها التاريخية وفي أزمانها من الانتفاضة إلى أوسلو وما بعد أوسلو وما يمليه الواقع الجديد على الشخصيات من مواقف متباينة قد تكون وجهات نظر يضعها الكاتب في سياق متن حكايته.
يبدو رأفت سليمان كمؤلف ضمني في سيرته التي تتعالق مع سِيَر أصدقائه «شباب الانتفاضة» مروراً بعائلته وفلسفته للحياة والتي سنجد معادلاً لها في علاقته بنعيمة المرأة الفلسطينية التي تمثل أنموذجاً خالصاً لنضال المرأة النسوي في فلسطين المحتلة على مستوى اللجان الشعبية والدفاع عن المعتقلين. رأفت يعتقل لأكثر من مرّة ويدخل السجن إبان الانتفاضة نتيجة عمله النضالي ويخرج منه ليبدأ كتابة حكايته وفي ضمنها يتلامح اتفاق أسلو بنتائجه على مجتمع الانتفاضة، لا سيما أولئك الشباب الذين وقفوا على مسافة من أحلام بأن شيئاً ما سيتحقق وآخرون رأوه يقوض أحلامهم.
إذاً، تنهض رواية «وما زال الحلم» على أسئلة الواقع الذي لا نرى هنا أن الرواية تفارقه بل هي جد مخلصة في الاتكاء عليه كمرجعية، فالسؤال الأساس الذي تطرحه الرواية ليس مصير الشخصيات ونماذجها السلبية والايجابية بقدر ما هو سؤال التأسيس والبحث في ارهاصات انتفاضة جديدة فإن المعول عليه في ذلك النوع السردي الذي بين أيدينا هو أن تنهض الرواية على رؤية تفارق الواقع ولا تتمثله بالضرورة. بيد أن الوقوف على طبيعة الرؤية سيحيلنا بالضرورة إلى مساءلة الواقع الذي أنتج مقولات سنجد أنساقها طيّ الرواية، لا سيما في المتن الحواري الذي طغى في النسيج الروائي والذي كان أقرب إلى لغة السيناريو منها إلى لغة الرواية. وإن القول مجازاً بتراجيديا سقوط أبطال في مقابل نهوض آخرين سوف يظهرها الحلم الذي اعتمد تقنية طاغية لرواية «وما زال الحلم»، وإن الرواية بولوجها فضاء الأصدقاء ومنهم وليد فؤاد، إياد خليل، عصام لطفي والأدلّ بينها سامر عبد الله الذي استشهد إبان الانتفاضة، ولن يكون حاضراً إلى من خلال خطيبته رانيا عيسى. سوف تعني بأكثر من الأبعاد السيكولوجية لذوات الشخصيات إلى المواقف الأيديولوجية ـ الفكرية.
ثمة فضاء آخر للرواية هو فضاء الأحلام الصغيرة القائمة على ثنائيات الحرية ونقيضها والحب ونقيضه والرغبة ونقيضها، ما يعني أن استدعاء المضمر النسقي لمساءلته روائياً سوف يكون أحد شواغل الرواية، لا سيما على مستوى انتقاد العادات والتقاليد والأفكار التي سادت المجتمع الفلسطيني إبان الانتفاضة وما بعدها.
حكاية رأفت سليمان الشخصية الرئيسة في الرواية ستندغم في الحكايات الصغرى التي أشرنا إليها منها حكاية رانيا خطيبة الشهيد سامر التي يرفض رأفت الزواج منها يقول: «لا أستطيع أن أنسى أنها كانت خطيبة وأنا لا أتزوج خطيبة صديقي»، فيما يبدو أنموذج رانيا معارضاً لأوسلو لكنه سعيدٌ بعودة أبناء الشعب إلى الوطن بصرف النظر عن سيئات أوسلو تستبطن الرواية منظومة العادات والتقاليد المجتمعية وتذهب إلى الإشارات اللافتة للسجالات السياسية التي سادت المجتمع الفلسطيني بعد أوسلو، ومنها كما ورد على لسان البطل «لا نحدّ من حرية التفكير المستقل ولكن هناك ثوابت نختلف عليها، ماذا يفيد المعارضة، الاتفاق جرى برعاية دولية».
تقول نعيمة: «إذا كنا نطالب بحق شعبنا في تقرير مصيره أليس بالأحرى أن تكون المرأة صاحبة الحق في تقرير مصيرها، أليست حرية المرأة من حرية المجتمع؟».
وفي مستوى آخر يقول الطرف الذي يمثل السلطة الفلسطينية: «نحن لم نأتِ على ظهر دبابة، كل شيء تم عن طريق المفاوضات، هل كان من الأفضل أن نبقى في الشتات أن نأتي إلى هنا ونناضل على أرضنا؟ ألم تكن أوسلو التي هيأت لنا موطئ قدم ليكون نقطة انطلاق نحو التحرير الكامل لأرضنا؟». وأكثر من ذلك، فإن نعيمة التي ستصبح صحافية وتدير مكتباً خاصاً تقوم بتحقيق صحافي حول موقف الناس من اتفاق أوسلو.
تتكثف الحكايات في بؤرة الحكاية المركزية حكاية نعيمة ورأفت وحكاية الحلم بينهما وفي هذا يبني الكاتب متناً موازياً لروايته ليخاتل قارئه وليتساءل: «كيف نبتت في ذهني فكرة أن أكتب رواية شيء لم أختبره وليس لي به دراية مجرد رغبة تملكتني، هل أكتب عن الحقيقة التي عشناها أم الأحلام التي أضعناها، هل أكتب عن نفسي عن حياتي عما عايشته خلال فترة الانتفاضة، ليس لي تجربة سابقة في هذا المضمار ولم أقرأ إلا قليلاً من الروايات، علي أن أبدأ بتحديد الشخصيات والفكرة لا يكفي أن أكتب الأحداث حرفيا، ما الذي يجعلني أفكر في كتابة رواية وهل سأكتبها عن نعيمة أو عن عبير وإياد أم رانيا وسامر ألن أدع مكاناً لعصام لطفي هل أتخيل رواية أم أكتب رواية حدثت معي وكيف ستكون النهاية مع نعيمةً».
في هذا المتن نجد حوافز التأليف باديةٌ لرواية وما زال الحلم سواء انطلق الروائي من الواقع أم جعل من حكايته مع نعيمة بكثافتها ورمزيتها هي حكاية فلسطين ما بعد أوسلو في شكل النهاية الدرامية إذ تذهب نعيمة في رحلة بعيدة بحثاً عن ما يجعلها تتمسك بوطنها وهروباً من الذين سرقوا ميراث الانتفاضة في مقابل رأفت الذي يبقى لأنه ما زال يحلم ويقول إذا توقنا عن الحلم فسوف نتوقف عن تحقيقه فما دمنا نحلم فلدينا التصميم على تحقيقه أن الأرض ستعود لأصحابها طال الزمن أم قصر.
وعلى الأرجح، يذهب الكاتب إلى تنضيد شخصياته الواقعية كما الشخصيات الحالمة ليفاضل بينهما منتهياً على ما يؤكد وجهة نظره أن الحلم ما زال ممكناً.
رغم أن نعيمة لا تخفي قلقها من الكانتونات التي تطوق «إسرائيل» بها أرضنا الفلسطينية وعن الشوارع الالتفافية في مدينة القدس المغلقة في الوجوه.
هذه بإيجاز هي حكاية «وما زال الحلم» المشبعة بتقاليد الرواية الفلسطينية التقليدية، لكنها تؤثر تجاوز الواقع بالحلم لتكون رواية الحلم فحسب، فيما لا نلمح بلغتها السردية ذات التعبير المباشر ما تواضعنا عليه في مكونات الرواية الحداثية إذ أن الكاتب آثر أن يساير النهج الواقعي في ما يتصل بواقع الحياة في المجتمع الفلسطيني. بمعنى آخر آثر أن يضيء على تلك القضايا الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، لذا فقد تميّز أسلوبه السردي بالسهولة ليقدّم صورة للإنسان الفلسطيني البسيط، كان يمكن أن نرى أنموذج المثقف الفلسطيني في رأفت سليمان أكثر عمقاً على رغم أنه يكون ضحية صراعٍ بين المفاهيم الاجتماعية والتقاليد السائدة فكانت الرواية مشروع رؤية للواقع ولم تنهض لغتها على مستوى المأساة مع أنها سعت في محكيها إلى نقد المجتمع وتوسل كفاح الإنسان لتغيير وضعه، فهل ترى الرواية المجتمع في حالة تناقض وتحول أم تراه في حالة انسجام وتوازن، وكذلك ما هي مفاهيمها لعناصر الواقع كالعدالة والحرية والحب والموت والمرأة والسياسية والطبقة والدين والأسرة. على الأغلب أن رواية «وما زال الحلم» سعت إلى مقاربة ذلك ولكنها لم تخرج إلى إنتاج وعي مضادّ لكلّ ما يناقض حرية الوطن وحرية الإنسان.
فلا بد إذن من ارتباط المفاهيم بالرؤية وليس فقط التشديد على التناقضات الاجتماعية، وكذلك الأسلوب لا بد أن نراه متصلاً بالرؤية والمفاهيم اتصالاً وثيقاً، ندرك أنه لا يمكن تأويل الرواية إلا من خلال سياقها التاريخي ومرجعيتها كما بدت عليه أكثر إخلاصاً لتقاليد السرد الروائي الفلسطيني التقليدي. إذ إنّ الحياة الثقافية للشعب الفلسطيني ما زالت حالة تستحق التوقف عندها لما تتميز به من خصوصية اكتسبتها من خلال خصوصية القضية الفلسطينية، ففي وقت غلب اليأس والإحباط على الأدب العربي في مرحلة ما كان الأدب الفلسطيني ينهض بمهمة قيادة أدب آخر يدعو إلى النهوض من جديد، فسجل أدب المقاومة علامة متميزة في ذلك المجال.
إذن، رواية «وما زال الحلم» اندغم شكلها بمضمونها فكان شكلها هو المضمون الذي قدّمها باقتصاد التقنيات المصاحبة وبالتخفّف من التخييل لمصلحة الواقع ذاته لكنها تتميز بإثارتها للأفكار وبانتباهها للحلم كمفتاح للنهوض حلم الشعوب للتحرر من استعمار الأرض والإنسان، وتسجل قيمتها المضافة هنا في انحيازها إلى الحكاية المفتوحة لتراجيديا الشعب الفلسطيني برمّته في معركته الوجودية بالمعنى التاريخي ولا تنتقص الرواية وسمها بالواقعية بل أجدها أقرب إلى الوقائعية التي ذهب كاتبها بوصفه كاتباً كلّي القدرة لإنجاز وجهة نظره مما يدور على أرضنا لتبدو أقرب إلى المدونة منها إلى الرواية بالمعنى الاصطلاحي الدقيق. وفي ذلك ثمة مجال للاختلاف حول الجنس المبدع كيف يكون أسيراً للحلم أو للواقع، وتلك هي إحدى الأسئلة التي نطرحها على الرواية.
ناقد فلسطيني سوري