الإدارة بالانتقام… والربيع المزعوم

بشير العدل

التحوّل الديمقراطي والتغيير الإيجابي في المجتمعات المتحضّرة، يقوم على أساس الاعتراف بما هو جيد، حتى ولو كان من بناء الماضي، الذي يواجه رغبات التغيير، فالبناء في عقيدة تلك المجتمعات لا يقوم على أساس نسف الماضي بكلّ ما له وما عليه، وإنما يتمّ على أساس التكامل والاستمرار في العطاء، وتعلية ما هو قائم بالفعل.

غير أنّ تلك النظرة غابت وبشكل واضح عن كثير من الحركات والتنظيمات والإدارات التي ظهرت في دول ما يُسمّى بالربيع العربي، وللأسف منها إدارات نظامية رسمية.

ففي تلك الدول التي أصابها الربيع المزعوم، واجه مَن يطلق عليهم البعض «النخب»، في مختلف المجالات، إشكالية خطيرة بدت واضحة في أنها تنظر إلى محاولات التغيير بنظرة نرجسية، يغلب عليها طابع الانتقام من كلّ ما هو سابق عليها، وهو أمر لا يعكس بحال من الأحوال الرغبة الحقيقية في التحوّل الديمقراطي، بقدر ما يعكس مدى الهرولة وراء المصالح الخاصة، والرغبة في بناء مجد مزعوم.

ظهر ذلك في كلّ الدول ومنها بلادي مصر، التي شهدت وبعد أحداث كانون الثاني/ يناير من العام 2011 حالة من الإدارة بنظام الانتقام من كلّ ما هو قديم، وتجلّى ذلك في إلغاء الدستور وما ترتّب عليه من قوانين، رغم صلاحيتها لما بعد الأحداث التي تعرّضت لها الدولة المصرية، غير أنّ حالة الانتقام واتباع نظام إدارة قائم على تلك الفكرة، جعل الذين يتحكّمون في صنع القرار العام، وذلك على المستويين الرسمي والمدني، يفقدون قدرتهم على الإدارة، بعد أن أثبتت التجربة عجزهم عن صنع دستور أو قوانين بديلة. وهو ما يفسّر أسباب وجود تعارض بين القوانين تجاه بعضها البعض من ناحية، وبينها وبين الدستور من ناحية أخرى.

ومن أسف أنّ ذلك النظام، وهو الإدارة بالانتقام، امتدّ إلى التنظيمات النقابية أيضاً، التي تعرّضت إلى حالة من الانقسام الواضح بين أعضائها، الأمر الذي أدّى إلى خروجها عن الإطار الخدمي، ودخولها في مناطق ليست من اختصاصاتها.

نسي البعض أو تناسى، أنّ ما تمّ بناؤه في الماضي ليس نتاج جهود رئيس أو حكومة، وإنما هو نتاج لعمل رؤساء وحكومات متتالية، ومن ثم لا يمكن لأيّ نظام أن يستطيع تفوير ما هو قائم لاستحداث نظام بديل، وهذا ما سبق أن حذرنا منه مراراً وتكراراً.

الإدارة بنظام الانتقام مصيرها الفشل، وسوف تعود على أصحابها بنتائج وخيمة، غير أنّ تأثرهم بها، لن يكون أكثر ضرراً من تأثر المجتمع والدولة بها. وهو ما يعني أنّ انتهاج ذلك الأسلوب من شأنه أن يصيب البلاد والعباد بمشاكل خطيرة يصعب حصرها، أو البحث عن حلول لها. وهو الأمر الذي تكشفه الأوضاع في كثير من قطاعات الدولة وأجهزتها، وكذلك التنظيمات المدنية، وفي المقدّمة منها النقابات المهنية. بجانب ذلك كله الأحزاب السياسية التي من المفترض فيها أنها تمثل ركيزة أساسية من ركائز البناء السياسي الديمقراطي لأيّ دولة.

ولم يتبقّ من ذلك الربيع المزعوم، وبفعل الإدارة بالانتقام، إلا أنصاف الحلول، وفي أحيان كثيرة غيابها التامّ، لتبقى الأوضاع أسوأ مما كانت عليه في الماضي.

كاتب وصحافي مصري

مقرّر لجنة الدفاع عن استقلال الصحافة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى