انتصار الحق على الباطل!
أسامة العرب
في العام 1891 خطرت فكرة مجنونة في بال شخص يُدعى تيودور هرتزل تتعلّق بإيجاد وطن بديل لليهود، فسعى لإبرازها من خلال كتاب نشره العام 1896، قال فيه: «لديّ فكرة إقامة دولة اليهود. هذه الفكرة هي حلم اليهود الأول منذ فجر تاريخهم، ولكم تردّدت على ألسنتهم عبارة: العام المقبل في القدس، إذا تعاون عدد من اليهود على تنفيذها فستبدو منطقية تماماً، ولن يشكل إتمامها أية صعوبة، يتوقف الأمر فقط على عدد مؤيديها. وأحسب أن رواج الفكرة سيعتمد في الأساس على شباب اليهود المتحمّس الذين انغلقت أمامهم كلّ سبل التقدم، ويرون في الدولة اليهودية الغد المشرق الحامل لمعاني الحرية كافة».
هذه الفكرة القاتلة التي استسخفها الجميع بدايةً، سرعان ما أدّت لانعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية في العام 1897، ودعم يهود الدونمة في تركيا وأبرزهم جاويد وقره صو والمتر سالم لانقلاب حزب تركيا الفتاة على عبد الحميد الثاني، ومن ثم قتل قائد جيش الانقلاب محمود شوكت وتسليم الحكم صورياً إلى أخ عبد الحميد، محمد رشاد في العام 1909 مقابل تمهيد الطريق لهم للاستيلاء على فلسطين. ولاحقاً أمسكوا بسياسة الدولة العميقة من وراء الستار وأفلسوها اقتصادياً، ودعموا ثورة كرواتيا والجبل الأسود العام 1914، ليتقاسموا ميراث تركة الدولة العثمانية «الرجل المريض» مع الدول الغربية المنتصرة. وقد أثمرت جهودهم، حيث بدأت القوى العظمى آنذاك تستميت لإرضائهم وتتنافس على من يقدّم لهم أفضل الوعود، وكان من أبرزها وعد بلفور المشؤوم.
وتمضي 126 عاماً على فكرة تيودور هرتزل، لتأتينا فكرة مجنون آخر هو هنري كسينجر عن «حرب المئة عام المقبلة» في منطقة الشرق الأوسط، والتي قال فيها: «سنغرق العالمين العربي والإسلامي في صراع بين السنة والشيعة على غرار حرب المئة عام بين الكاثوليك والبروتستانت. فهذه الحرب هي التي أعادت صياغة أوروبا على هوى واضعي السياسة العالمية، وهي التي سوف تعيد صياغة الشرق الأوسط حيث البترول والغاز، على هوى الدولة اليهودية».
والمستغرب أنّ الحرب التي درات تاريخياً بين الكاثوليك والبروتستانت تُدعى حرب الثلاثين عاماً وليس حرب المئة عام. وهذه الحرب دارت بين الأوروبيين من العام 1618 وحتى 1648، وكلفت الأوروبيين الملايين من الضحايا، خصوصاً المانيا التي خسرت حوالي نصف سكانها. ولكن ربما يأمل كسينجر بأن تشتعل حروب السنة والشيعة وتستمرّ مئة عام، كي يتحقق حلمه وهو على قيد الحياة بأن يمسك كأس دماء الأبرياء ويتأمّل الجماجم والدمار ويقول: مهّدت الطريق لإقامة إسرائيل الكبرى. والمؤسف بأنّ الخطأ ذاته وقع فيه وزير الخارجية الفرنسي الأسبق برنار كوشنير، عندما تحدّث عن حرب المئة عام، وكأنّ ثمة توافقاً بينه وبين الأميركي أو ربما هي كلمة السرّ التي يُراد ترويجها في المنطقة كي تتحوّل إلى عامل يطيح بمكوناتنا الاجتماعية والإنسانية، وإذا ما وقع هذا المحظور الذي يُحاط بعناية فائقة من قبل «إسرائيل» فسيصبح سيفاً مسلطاً على رقاب المقاومين في كلّ مكان.
ولا يُخفى على أحد بأنّ هنري كيسنجر بصفته المهندس الأعظم للسياسة الصهيونية المعاصرة، قال أواخر العام 2013: «القضية في سورية هي صراع تاريخي بين السنة والشيعة، لذلك فإنّ على أميركا العمل من أجل التقسيم»، فيما يرى وزير الحرب «الإسرائيلي» أفيغدور ليبرمان أنّ نزاعات الشرق الأوسط يجب ألا تنتهي ما لم ترضخ الأطراف المتقاتلة لفكرة التقسيم المذهبي، ومن أهمّها تقسيم العراق وسورية من خلال وضع خطوط فاصلة بين مناطق الشيعة ومناطق السنة. ويتابع في السياق نفسه قائلاً، إنّ تأسيس العديد من البلدان في الشرق الأوسط قد تمّ بشكل مصطنع، وذلك كان نتاجاً لاتفاقية سايكس بيكو التي تمّت بناء على اعتبارات استعمارية قديمة، أصبحت قاصرة مع مرور الوقت على إشعال الخلافات الطائفية والعرقية العميقة داخل المستعمرات. وتتطابق رؤية الوزير «الإسرائيلي» مع مشروع نائب الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، الذي دعا في العام 2007، إلى تقسيم العراق ثلاث مناطق، كردية وسنية وشيعية، تتمتع كلّ منها بالحكم الذاتي.
إذاً القضية كلها تتعلّق بتطابق المصالح الاستعمارية مع المصالح الصهيونية، فدعم المشروع الصهيوني في منطقتنا ليس لحماية المصالح الاقتصادية لهذا الاستعمار وحسب، وإنما لإبقاء شعوبنا ضعيفة ومريضة ومفكّكة الأوصال، وهي أشبه بورقة اللوتو الرابحة والضامنة لمصالح القوى العظمى. فمن يراقب الكوارث التي حلّت علينا من أقصاها إلى أدناها يرى بوضوح أنّ هنالك خطة حقيقية تتنقل من بلد إلى آخر لتدمير الأوطان ذات السيادة، ابتدأت في العراق ومن ثم في السودان ومن ثم في ليبيا ومن ثم في سورية ومؤخراً في مصر. هذه الأجندة لا يسير فيها الاستعمار وحده، بل إنّ التنظيمات الإرهابية شريكة حقيقية في تدمير وتفكيك أوصال البلدان التي بُنيت بدماء الشهداء وبعرق أجيال وأجيال من رجالنا الشجعان.
ولا يُخفى على أحد، أنّ «إسرائيل» لا ينتابها الرعب والهلع إلا من سيناريو اعتماد نموذج حزب الله في الجولان، وأبلغ تعبير عن الذعر «الإسرائيلي» أتى على لسان رئيس الحكومة «الإسرائيلي» بنيامين نتنياهو عشية توديعه رئيس هيئة الأركان العامة السابق بني غانتس بالقول له «ثمّة تحدٍّ يحدث الآن أمام أعيننا حيث آلاف من المقاومين منتشرون في سوريا ويدخلون إلى جنوبها مقابل حدودنا». ولهذا، سارع نتنياهو برفقة رئيس مجلس الأمن القومي، يعقوب ناجيل، ورئيس شعبة الاستخبارات، هرتسي هاليفي، للقيام بجولة مكوكية على الدول العظمى يتوسّلهم فيها بعدم السماح بافتتاح جبهة الجولان.
فـ»إسرائيل» نمرٌ من ورق، هشّة خاوية ضعيفة، فبعد كل الإمكانيات المالية والأسلحة النووية المتطوّرة والسلاح الجوي النوعي الذي وضع بتصرفها، ما تزال تخشى القتال وبذل الدماء وتقديم التضحيات، لأنها تملك نفوساً ضعيفة ومقاتلين جبناء ولا تملك رؤية ولا هدفاً ولا مشروعية تؤمن بها، وإذا ما رفع الغطاء الدولي عنها فسوف لن تصمد يوماً أمام الزحف الذي سوف يتهدّدها من كل جانب وكل صوب.
السؤال الذي يطرح نفسه: هل باستطاعتنا كدول عالم ثالث مفتّتة متناحرة مهمّشة أنّ نرفض الانصياع لقرارات الدول العظمى وبطش الامبرطوريات وأن نتجاوز المصالح الدولية المتآلفة مع المصالح الصهيونية؟ قد تبدو الإجابة المنطقية على هذا التساؤل بالنفي، إنما في التاريخ الحديث شواهد بليغة على انتصار المظلوم على الظالم، كانتصار ثورة تاكفاريناس في نوميديا شمال إفريقيا على الإمبراطورية الرومانية، وانتصار الحرب الشعبية في الصين ضد الاحتلال الياباني بقيادة ماوتسي تونغ، وانتصار الثورة الكوبية فيدل كاسترو وتشي غيفارا في كوبا، وانتصار حركات المقاومة ضد النازية، وانتصار الجهاد الليبي ضد المستعمر الإيطالي عام 1911 بقيادة عمر المختار، وانتصار الريفيين ما بين 1914 و1926 بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي، وانتصار الفيتناميين ضد الغزو الأميركي، وانتصار الكوريين ضد الاحتلال الياباني بقيادة كيم إيل سونغ، وانتصار الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، وانتصار المقاومتين اللبنانية والفلسطينية بصمودهما بوجه الاحتلال «الإسرائيلي»…
إذاً لبّ الموضوع أنّ حجم التفوق التكنولوجي العسكري لا يصمد بوجه الإرادات الصادقة، والفرق الرهيب بالموارد وموازين القوى لا يؤدي دوماً لانتصار الباطل على الحقّ، أما عن موعد الانتصار، فقريب بإذن الله!