قالت له

قالت له: هل يوجد في الحبّ مكان لا غيرة فيه ولا قلق، بل سكينة واسترخاء وثقة وأمان؟ وهل يمكن للحبّ أن يصير حبّاً للحبيب فكرة حالمة هادئة كحبّ قصيدة شعر أو معزوفة موسيقى أو ترقرق ماء نهر وفوح عطر وبوح بسرّ؟

فقال لها: هذا ليس مجرّد سراب. ففي الحبّ مراحل يبلغها قليلون من البشر لا يطلبون ولا رغبات لهم فيها، بل عشق يعيش في الخيال، لِطَيف حبيب لا نطلب وصالاً معه ولا لقاء، ونعيشه في الفؤاد ونأنس لحضوره في الخيال ونخاطبه ونسأله ويجيب.

فقالت له: وأين يوجد مثل هذا الحبّ؟

فقال لها: الشعراء الصوفيون يعشوق الخالق بصفته الحبيب والمحبوب ويكتبون له الشعر والغزل. وإن تعمّقنا بتنسّك العرفانيين من الفرق الدينية لوجدنا فلاسفتها يؤمنون بمصل هذا الحبّ. وإن تساءلنا أيّ إيمان بالله هو الأعمق لوجدناه إيمان الحبّ لا إيمان الخوف، وهو في العمق حبّ لفكرة لا حبّاً لكائن أو لمحسوس أو تطلّعاً لمصلحة أو طلباً لرغبة أو بحثاً عن وصال. فهو تعلّق الروح وانشغالها.

فقالت: وهل يمكن لهذا الحبّ أن ينشأ بين البشر؟

فقال لها: هو ينشأ أصلاً. فحبّ الأمّ لابنها بعض من هذا الحبّ المجانيّ الذي لا يطلب بدلاً ولا مقابلاً. ويزهد حتى في المعاملة بالمثل، فيرتضي سعادة المحبوب ويتنازل عن مبادلته الحب بمنحه لآخر. هو حبيب الحبيب ويشاركه فيه كرمى للحبّ الأصيل.

فقالت: وهل سوى الأم تقدر على هذا الحبّ؟

قال: كثيراً ما توجد صداقة ترتقي إلى هذه المرتبة بالحرص والاهتمام والسعي إلى الرضا، ولا تطلب مقابلاً. وتجدين ثنائياً من رجلين أو فتاتين أو رجل وامرأة يربط بينهما ما لا حساب له في قياس التطلّب والرغبات والمصالح، وقد يكون الثنائي من أخوة وقد لا يكون.

فقالت: وهل يصحّ هذا بين رجل وامرأة ويكون حبّاً؟

فقال: هنا تقع المهمة حيث تسمية الحبّ تقع أصلاً بكل معانيها بما يربط الرجل والمرأة برباط التعلق والقلق والشغف والسعي للوصال والسير بالبشر نحو العيش بلا كلّ الحبّ، بكل المشاعر وكل الكيان. هي دعوة لى حالة طوارئ نفسية وعاطفية لا يفرضها إلا العجز والارتضاء بما تيسّر من الحبّ، ضنّاً ببقائه ومنعاً لفنائه ورفضاً لخيارات الفراق.

فقالت: وهل نستطيع أن نكون من هؤلاء؟

قال: إذا أجبرنا على الاختيار بين الفراق والبقاء نستطيع البقاء بما تيسّر، لكن لذلك شرطَ عدم السؤال والغيرة والشكّ، وإلا صار البقاء جحيماً يمهّد لفراق أصعب فهل تستيطيعين؟

فقالت: أن تحاول وأنا أحاول ولا مانع من العودة مرّة كل فترة للتحقيق والتدقيق.

فقال: ولكن في ذلك مخاطرة الوصول إلى التفريق؟

فقالت: لكن عليك أن تتصرّف كصديق.

فقال وعليك ألا تزيدي من الضيق.

قالت: أنسيت أن الصديق وقت الضيق؟

فقال: تعالي لقبلة وداع قبل اشتعال الحريق!

فصفّقت وقالت: نلتها ومعها هذا التصفيق… وتنهدا معاً قبل الافتراق، وغابت عيناها في ذورة العناق.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى