«يا حلاوة الدنيا»… مع فتحيّة أحمد
اعتدال صادق شومان
في زمن فلول عصر الطرب وانتقال الفن الطربي من مقام إلى آخر، اختارت «دار الجديد» في آخر إصداراتها، إحياء ذكرى الفنانة فتحية أحمد «مطربة القطرين»، في كتاب للباحث الموسيقي محبّ جميل، يتناول فيه السيرة الذاتية والفنية لهذه الفنانة التي ذاع صيتها في بداية الثلاثينات من القرن المنصرم، والتي سبقت شهرتها أمّ كلثوم بسنوات، ولا تقلّ عنها في المقدرة الفنية، بشهادة ذوّاقة الفنّ الأصيل. ونافست سلطانة زمانها منيرة المهدية على ساحتها الفنية، حتى أن البعض رأوا أنّها صاحبة الصوت الأوّل.
شغف الشاعر والباحث محبّ جميل بهذه الفنانة وبصوتها أوصله إلى إعادة اكتشافها من جديد وتقديمها في مؤلَّف هو الأوّل من نوعه، يلقي الضوء على سيرة فتحية أحمد من وهج تألقها حتى أفول الأضواء عنها، ثم اعتكافها. ليتسلّل اسمها ويغور في الذاكرة، قبيل رحيلها عام 1975. في مأتم توارى خلف المأتم الكبير لصديقتها العتيدة أمّ كلثوم، يوم زحفت مصر كلّها لوداعها. ليمشي خلف فتحية نفر من أفراد أسرتها.
يدور بنا محبّ جميل مع «فتحية أحمد مطربة القطرين» إلى مكامن الفنّ والجمال وأماكنه في عملية تعقّب وتقصٍّ دوؤبة وصعبة، نظراً إلى شحّ المعلومات المتوفّرة حول حياتها. إلى جانب فقدان الدقّة في المصادر على ما يشير في مقدّمته، وتبدّد أخبار كاد أن يضيّع سيرة فنانة أخرجت يوماً أمّ كلثوم عن طورها في إحدى الحفلات لجمال صوتها. ومن أجل تصويب ما فات المؤلّف من توكيد في الكتاب، توجّهت «دار الجديد» بالتمنّي على المهتمّين، خصوصاً من أفراد عائلة الفنانة فتحية أحمد، على تبيان ما التبس وتصويبه، رغم أنّ الدار استعانت بمراجع وإصدارات عدّة بغرض ضبط المعلومات بحسب سياقها التاريخي، والتثبّت من الأمكنة وظهور الشخصيات، معزّزةً النصّ بهوامش بيانية، لتُخرج كتاباً بمواصفات عالية لجهة الطباعة الفاخرة من حيث نوعية الورق، والتصميم الأنيق، وسلامة النصّ من السقط، لتُغني المكتبة الفنية بمرجع جدّي للباحث في المنسيّ من تاريخ الموسيقى العربية، بما يحتوي من توليفة لكبار روّاد اللحن والكلمة والصوت، وصوَر وملصقات، وشهادات لكبار أعلام الصحافة والأدب منهم: محمد التابعي، عباس العقاد، ومصطفى أمين وآخرون.
سيرة فتحية أحمد المولودة عام 1989، قصة فنانة ولدت كي تقف على المسرح تعبّر وتكشف عن موهبة غنائية راسخة. لا بل هي رحلة إصرار على التألّق والسطوع لم تقوَ المنافسة الفنية غير الاعتيادية على كسر مجاذيفها، بل واصلت المشوار على مدى 35 سنة. يرافقها أبرز قياصرة الفنّ الجميل في زمن بداية التألّق، الذين ساهموا في احتضان الموهبة الصاعدة ونموّ تكوينها، حتى باتت من أبرز الأصوات الغنائية العربية في القرن العشرين، بدءاً من مكتشف المواهب ومُطلقها في رحاب الفنّ نجيب الريحاني الذي احتضنها طفلةً شذَّب خلقها، ثمّ أوصلها إلى فنان الشعب سيد درويش الذي ساهم في بلورة شخصية صوتها من خلال مجموعة من الألحان الخالدة، غنّتها له ووصلت إلى حدود السبعة، أغنيات لم يخبُ رونقها حتى يومنا، وتختزنها ذاكرتانا القريبة والبعيدة، منها «طلعت يا محلا نورها»، «الحلوة دي قامت تعجن»، «زوروني كلّ سنة مرّة»، ولحسن الحظ أنه تم حفظها على مجموعة من الأسطوانات بصوت فتحية أحمد عام 1919، على رغم أنها ألحان عُرفت بِاسم سيد درويش كملحّن ولم تُعرف باِسم مؤدّيتها.
يذكر أنّ فتحية أحمد هي التي قامت بتعريف محمد عبد الوهاب إلى سيد درويش للمرّة الأولى، ليسند إليه في ما بعد بطولة أوبريت «شهرزاد».
ومع أئمة الملحّنين آنذاك آمثال الشيخ أبو العلاء محمد أستاذ أمّ كلثوم الأول الذي خصّ فتحية بلحن جديد لقصيدة «كم بعثنا مع النسيم سلاما»، وأحمد صبري التجريدي، وداود حسني وصفر علي، استطاعت فتحية أحمد أن تحجز مكانة لها كمطربة متمكّنة، وصارت تُعدّ وريثة شرعية لمدرسة النهضة في القرن التاسع عشر مع جهابذة المطربين أمثال عبده الحولي، محمد عثمان ويوسف المنيلاوي، ومحمد سالم الكبير، وسلامة حجازي وغيرهم، قبل أن تبدأ مرحلة جديدة نحو التحرّر والانطلاق من أجواء القصائد التراثية، إلى الألحان الأكثر حداثة وطراوة مع الملحّن محمد القصبجي الذي تمكّن من إبراز المساحة الواسعة لصوتها. وقد جمعتهما مشاريع فنية كثيرة قاربت الثلاثين لحناً. ثم يكون اللقاء مع رياض السنباطي لتقدّم معه القصائد الغنائية المطوّلة، وسبقت أمّ كلثوم إلى زكريا أحمد فغنّت له قبل أن يلحّن لأمّ كلثوم. وأدّت له أغنيته الشهيرة «يا حلاوة الدنيا يا حلاوة»، وسجّلت معه مجموعة «طقاطيق»، منها «بعد ما فرحت عداي».
ومع بداية انطلاقة السينما، ساهمت فتحية بصوتها عن طريق الدوبلاج في ثلاثة أفلام، أوّلها «عايدة» من بطولة أمّ كلثوم، وفيلم «أحلام الشباب»، لتظهر مرّة واحدة في فيلم «حنان» بدور البطولة.
فتحية أحمد… مطربة القطرين، اللقب الذّي أطلقه عليها شاعر القطرين خليل مطران، فنانة استطاعت أن تصنع لنفسها اسماً كبيراً في عالم الغناء، ولم تنافسها في قدراتها غير أمّ كلثوم. بيد أن ريادتها لم تكتمل، ونجوميتها تبدّدت يوم اعتزلت الفنّ مبكراً، ثمّ عودة فات أوانها، وتبدّل حال وأحوال.