مختصر مفيد كوريا تفرض سقوفها للتفاوض
نجحت كوريا الشمالية في ظروف اقتصادية صعبة بتطوير قدرات دفاعية تعادل إمكانات الدول العظمى على مستوى القدرات التقليدية، وصولاً لخوض غمار التجارب النووية التي توّجتها بالكشف عن امتلاك قنابل هيدروجينية وصواريخ باليستية فوضعتها قيد التجارب أمام العالم معلنة دخول نادي الكبار. وبالعودة للتاريخ يمكن التعرف على حجم المعاناة التي فرضها الأميركيون على الشعب في كوريا عبر حصار وعقوبات جعل كوريا في شبه عزلة حتى في زمن ما قبل تفكك الاتحاد السوفياتي. ولا تزال كوريا عاجزة عن المتاجرة والتبادل الطبيعي للسلع مع أغلب بلدان العالم ولا تزال بعيدة عن ممارسة أبسط حقوق البيع والشراء لمواد الحياة الضرورية كالوقود والقمح.
قضية كوريا قبل التفكير بفوائد برنامجها النووي هي قضية التحدّي التي قرر شعب كوريا وحزبها وقيادتها خوض غمارها ليقولوا للعالم أولاً أنه إن كانت ذريعة الحصار والعقوبات من كوريا هي امتلاك اسلحة دمار شامل فها هي كوريا تمتلكها والعقوبات فاشلة وأسبابها كاذبة، فهي لا تفعل سوى فرض الجوع والمعاناة على الكوريين. وهكذا هي وظيفة نظام العقوبات في العالم تجويع الشعوب لا الحؤول دون انتشار السلاح النووي. وثانياً تقول النتيجة الكورية إن الهدف من عقوبات التجويع هو الإذلال وصولاً لدفع الشعب المحاصر للاستسلام وقبول شروط الإذعان التي يرسلها الموفدون الأميركيون في السر والعلن، وإن كوريا تردّ بقبول التحدي وتقول لمن يعيش تجارب مشابهة تستطيعون التمرّد على المشيئة الأميركية، وها نحن الأضعف قد استطعنا، ومَن خضع لهذه المشيئة يفضح ضعف عزيمته لا ضعف مقدراته. وثالثاً يقول الكوريون للأميركيين إن أردتم تفاوضاً فنحن جاهزون، لكنّه تفاوض نِدّي بين متساوين، فبين أيدينا ما يخيفكم ربما أكثر مما بين أيديكم ويخيفنا، وأيدينا حرة باستهدافكم أكثر مما هي أيديكم حرة باستهدافنا.
للكوريين مواقف وسياسات وإنجازات يعرفها كل خصوم الغطرسة الأميركية، فهي وقفت مع القضية الفلطسينية بكل قوة وزوّدتها سلاحاً وخبرات، ويعرف رجال المقاومات في العالم حجم الإسهام الذي قدّمته كوريا لكل الشعوب المظلومة وحركات المقاومة فيها، وتعرف سورية وإيران هذا جيداً، بخبرات الكوريين المذهلة في الحرب وتكتيكاتهم وخططهم، وتقنياتهم وسلاحهم، وقد طوّروا وابتكروا في هذه المجالات كلها ما سمح بالحديث عن وجود مدرسة للحرب والمخابرات اسمها المدرسة الكورية، ومن عايش التجربة الكورية في الحياة وزار عاصمة كوريا بيونغ يانغ شهد عناصر هذه المدرسة. فكوريا مستعدة لحرب نووية ومجهزة لها بمدن تحت الأرض، وشعبها يخضع لتدريبات دورية لمناورات حدوث هذه الحرب.
تصل كوريا اليوم خطَّ النهاية في السباق الذي اختارته، كعنوان لعنفوانها وكرامتها، ووضعت الحلفاء والأعداء أمام وجهة حتمية هي استحالة كسر الإرداة، فبدون رضى كوريا لن يستطيع أحد نزع سلاحها النووي، أو وضعه تحت الرقابة، والتفاوض هو الطريق الوحيد ليحصل كل فريق على مرتجاه. فإن كان الأميركيون قد تعلّموا الدرس وقبلوا التسليم بأن كسر كوريا وإذلالها مستحيل، وقبلوا البحث السلمي عن كيفية تحقيق الاستقرار في الشرق الأقصى بخطوات متبادلة فطريق التفاوض مفتوح، وهو قد يكون صعباً لكنه ليس بالمستحيل.
لا تستطيع واشنطن أن تضع سلاح كوريا الشمالية النووي موضوعاً حصرياً للتفاوض، فالوجود العسكري الأميركي في الشرق الأقصى واحد من بنود أي تفاوض، والقواعد الأميركية في كوريا الجنوبية واليابان بند آخر، والأمن بمفهومه الكلي لشعوب المنطقة وللعالم مطروح على الطاولة، وفي قلبه الأمن الاقتصادي للكوريين الذي وهبوا نصف قرن من أعمارهم لبلوغ مرحلة من إثبات حقهم بحياة حرة، وحرموا من النمو الاقتصادي، ولهم الحق بأن ينالوا مقابل كل تنازل يقدّمونه في ملفهم النووي تعويضاً يعادل ما خسروه في سبيل بلوغه.
يعرف الأميركيون الذين عايشوا لأكثر من نصف قرن حروب كوريا واستعداداتها النووية وفشلوا في ترويضها وإخضاعها أنهم يبلغون نهاية السباق أيضاً، فلا سبيل للحدث عن حرب بعد اليوم، ولا جدوى من رهانات الحصار والعقوبات، وبقاء الأمور على ما هي عليه تعني صرف كوريا لفائض قوتها المتنامي نفوذاً في محيطها الإقليمي، واستثماراً للنفوذ في التحوّل قوة إقليمية تستعيد في الاقتصاد ما أنفقته على امتلاك السلاح، كما يعرف الأميركيون أن مشاكلهم العالمية المتشعبة مع كل من روسيا والصين وإيران تتكفّل بإظهار محدودية قدرتهم على استخدام القوة، وأن خير مَن قرأ نقاط ضعفهم في حربي العراق وأفغانستان كان الكوريون، وأن التفاوض بسقوف واقعية هو الطريق الوحيد لحل يخرج فيه الجميع بصيغة رابح رابح..
ناصر قنديل
ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.