«زيارة السيّد الوزير»… الولاء الأعمى ويقظة الشعب
مشلين بطرس
في مستهلّ حديثنا عن المسرح، لا بدّ من أن نبدأ بمقولة شهيرة لمؤسّس مسرح الإنسانية وليام شكسبير الذي قال: «الدنيا مسرحٌ كبيرٌ، والرجال والنساء كلّهم، ما هم إلا ممثّلون على هذا المسرح».
لنجد أنّ أهمّ الإشكالات التي يتعرّض لها القارئ بين النصّ والعرض المسرحيّ، هي الحالة القسّرية عند القراءة في تخيّل الأحداث والشخصيات وعلامات السينوغرافيا المكتوبة، إذ تبقى هذه العلامات أسيرةً لمستوى هذا التخيّل، لأن فعاليتها ساكنة ومحدودة. فليس في إمكان القارئ تجسيدها في صياغة الشكل المرئيّ الثابتة لها. ولأنّ قراءة النصّ المسرحيّ عرض خياليّ يصوغه القارئ في عرض منقطع جزئيّ فقير، فإن العرض الخيالي يتضمّن ما سبق تسجيله في ذاكرة القارئ، وقد يصاب هذا القارئ بالدهشة أو الذهول عندما تسنح له فرصة رؤية ما قرأ من العرض، سواء كان مباشرةً من داخل المسرح، أو حتى عبر إحدى الوسائل الإلكترونية، وخصوصاً في مسرحيتنا هنا عندما سيرى كرسي المرحاض، هو الكرسي المبجّل الذي يجلس عند حوافّه ممثلو المسرحية متمسكين به، يأخذون منه «البركة»، غير مصدّقين أن مجيء الوزير كان محض صدفة لا تتعدّى دخوله إلى المرحاض، ليصبح منزل «عبدو» مزاراً أو مكاناً مقدّساً ينتظرون فيه عودة الوزير التي اختلقوها وآمنوا بها. ولنجد أنّ «عبدو» نفسه قد أحيط بهالة من القدسية لمجرد أن الوزير دخل منزله وسأله حديثاً عابراً افتعله الأخير على مضض واستعجال.
وتبدأ معاناة الشعب الفقير، ليمتدّ الذهول والسحر اللذان أصابا «عبدو»، وشملا سكان المنطقة كلّها.
ومنه نلاحظ أنّ شخصية «عبدو» لم يأتِ اسمها اعتباطياً، بل كان لاسِمها دور في الإضاءة على عوالم الشخصية، وقد جاءت هنا بقصد السخرية والهجاء، لأن هذا الإسم سيمتدّ ليشمل جميع شخوص هذه المسرحية رغم وجود أسماء أخرى لها، كـ«عنتر» الذي هو صديق «عبدو» وجاره، و«عنتر» كما هو معروف اسم كان يطلق على بطل من أبطال التاريخ العربي، إلّا أن «عنتر» هنا كان «عبدو» آخر وهذا ما ينطبق على الممثلين جميعاً. فهل نحن أيضاً «عبدو» تحت أسماء مستعارة وأقنعة مزيّفة؟
إذاً، لا شكَّ البتة في صحة ما يراه سعد لله ونّوس من أن المسرح سياسيّ بالضرورة، لكن علينا أن نفرّق بين المسرح الذي يهتمّ بالسياسة المباشرة «مسرح التسييس» وبين المسرح الذي تتخلّله السياسة «المسرح السياسيّ».
أما مسرح التسييس فهو حوار بين مساحتيه، الأولى هي العرض المسرحي الذي تقدّمه جماعة تريد أن تتواصل مع الجمهور وتحاوره، والثانية هي جمهور الصالة التي تعكس فيها كل ظواهر الواقع ومشكلاته، لنجد أن «حسونة» يهرب من الممثلين على الخشبة لينزل إلى الصالة قائلاً: «أنا في حماية الشعب». محاولاً استنطاق الصمت المعمّر فيهم منذ آلاف السنين، ليأتي محرّك الدمى مهدّداً : «اِعرف وين حدودك يا حسّونة». وينزل إلى الصالة وبيده حبل غسيل، يربط به «حسّونة» من عنقه، ويجرّه كـ«الكلب» إلى الخشبة.
«السينوغرافيا منجز فنّي في إطار لعبة تبادل وتطابق بين مساحة النصّ والحيّز المسرحيّ لصوغ رؤية درامية وفق ما يتطلبه ويقتضيه العرض بعيداً عن التفكير في نوعها. فالسينوغرافيا هي سينوغرافيا العرض، لا سينوغرافيا مدرسة ما». هذا ما قالته مصمّمة السينوغرافيا ونقيبة الفنانين المحترفين في لبنان شادية زيتون دوغان.
فهل نستطيع القول إنّ السنوغرافيا في مسرحيتنا هنا ـ «زيارة السيّد الوزير» للكاتب والمخرج الدكتور هشام زين الدين ـ تنتمي إلى الارتجالية؟ لأنّ شخوص المسرحية هي شخصيات منمّطة ومقنعة اجتماعياً، تستعمل الكوميديا والسخرية والفكاهة والهزل والتنكيت الاجتماعي.
وبما أنّ للحبل دلالات وأبعاداً تدقّ أبواب الوجود وتحدّد مصير الإنسان، كحبل السرّة، وحبل المشنقة، وحبل محرّك الدمى، وحبل التعذيب والتكبيل، وحبل الغسيل في هذه المسرحية الذي عليه تُنشر الدمى الصامتة، ونُشر عليه أيضاً «حسّونة» شخصية المجنون الحكيم في المسرحية، نجد أن بعض هذه الدمى وما إن تحاول الحركة أو التكلّم، يهجمون عليها ويرمونها أرضاً، ويركلونها بأقدامهم. وإذا كانت حياتنا مسرحاً فإن أولئك الممثّلين على خشبته يمثّلوننا نحن، والدمى في المسرحية هم المعادل الفنّي للممثلين. إذاً، نحن سنكون المعادل الفنّي لمسرح الحياة، «لذا أكاد أن أجزم أني لم أن أكن مربوطاً إلى رحم أمّي بحبل سرّة، بل بحبل مشنقة»، وهذا ما قاله الماغوط. «فالعالم الذي نبحث عنه هو عالم أرواحنا ذاتها، والروح الذئبية الشيطانية التي تتبقى حتى في نفوسنا المتحضّرة هي ضمان للإذعان الاجتماعي»، حسبما قال هرمان هسّه في روايته «ذئب السهوب»، ليبقى الحبل ممثلاً دائرة الحياة البشرية المفرغة التي لن تسمو إلا بتحقيق الإنسانية الحقّة وإحلال السلام على الأرض.
الحوار هو الثيمة التي يميّز المسرحية عن سائر الصوَر الأدبية الأخرى. فالمسرحية لا تتّخذ الشكل النهائي إلا عن طريق الحوار وخشبة المسرح. فالتأليف المسرحي يعتمد اعتماداً كلّياً على الحوار، ليكون تعويضاً عن السرد، كأن تتولّى الشخصية أو الشخصيات سرد وقائع ماضية لم يقع تقديمها على خشبة الركح. ولا بدّ لموضوع الحوار أن يكون مرتبطاً بحياة المتفرّج ومشكلاته من جهة، ونوع المعالجة وشكلها من جهة أخرى.
فعندما وفد الأدب المسرحي إلى أدبنا العربي في منتصف القرن الثامن عشر، وبدأ العرب يعدّون مسرحياتهم على النسق الغربي، شغلتهم مشكلة الحوار: هل سيكون بالعاميّات المحكية المحلية، أم بالعربية الفصحى؟ واختلفت خيارات المبدعين، فمنهم من جعل شخصياته تتحاور بالفصحى والعامية بحسب منزلتها الاجتماعية، مثل مارون النقاش الذي كان من روّاد المسرح العربي. ومنهم من كتب مسرحياته بالعامية المصرية كيعقوب صنوع، وعثمان جلال. وقد ظهرت في مصر مدرسة تؤثر العامية على الفصحى بالحوار وخصوصاً في المسرحيات، منهم محمد تيمور، ابراهيم رمزي، عباس علام، يوسف ادريس، ومخائيل مارون.
وبما أنّ مسرحية «زيارة السيد الوزير» تمثّل الولاء الأعمى في الشعوب العربية لمسؤوليهم وسياسيهم، وبما أنها تعبّر عن واقعنا السياسي الاجتماعي، وبالاستناذ إلى رأي عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في التمسّك باللغة العربية الفصحى والترفّق بها، أجد أن أدبنا العربي بكل صوره لن يسمو أو يرتقي إلا باللغة العربية الفصحى، فاللغة في الحوار هي اللسان العربي الفصيح الذي سيفهمه جميع قراء العالم العربي، لأن واقعنا السياسي واحد وهمومنا الاجتماعية واحدة لا تتجزّأ، وإن تباينت بنسب متفاوتة.
ومن الخطأ الفادح والخطير أن نقول: «لغتنا اللبنانية، أو لغتنا المصرية أو لغتنا المغربية.. إلخ»، ولا حتى القول «لغتنا العربية»، لأن اللغة هي إشارات ورموز وأصوات تستخدمها جميع الكائنات الحيّة للتعارف في ما بينها. فللحيوانات لغتها الخاصة، وللحشرات كذلك لغتها الخاصة ولكنها لغة. أما اللسان فهو حال اللغة لكن باللسان العربي، اللسان الفرنسي، اللسان الهندي إلخ، أما اللهجات فهي الكلام وهذا ما أشار إليه عالم اللسانيات دوسوسير. «فليست العربية لأحدكم من أب ولا أمّ، إنما هي من اللسان، فمن تكلّم بالعربية فهو عربيّ».
وأخيراً وليس آخراً: يظهر «حسّونة» من جانب الخشبة قائلاً: «هلّق خلصت الخبرية… بس بعد ما خلصت المسرحية، المسرحية باقية كل ما الحياة باقية. نحنا ممثلين عم نلعب… عم نمثّل… عم نعيش… خلصت الخبرية»… وتُسدل الستارة!
قاصّة وأديبة سوريّة