الشرتوني في الطريق إلى المحكمة
فهد الباشا
ليس من طريق يطول إلى مثل هذي المسافات البعيدة كمثل طريق اللبنانيين إلى مواصلة خلافاتهم المتمادية حول الكثير من مفاهيمهم، ولا سيّما منها ذات الصلة بمنافع زعمائهم وطوائفهم الموشّاة، دائماً، بغلالة من كلمات في الوطنية لا تستر عورة دعيّ…
وستبقى الحال جارية على هذا المنوال ما بقي اللبنانيون يخلطون، في تيههم، حابل دينهم بنابل دنياهم، فيخرّبون، بهذا الخلط، كلا دينٍ ودنيا، ويطلّون من بعد، واقفين على الأطلال، كالبوم يتبادلون النُّعاب على الخراب…
مناسبة الكلام ليست محصورة بما يُثار من غبار حول قانون للانتخابات، لن يصدر، على ما يبدو، قبل طلوع فجر بعيد، قد تطلع قبله، الروح. وليس الشبه بقليل إذا ما تأمّلت بما يُحكى عن جلسة قريبة لمحاكمة حبيب الشرتوني.
نحن، دائماً، على طريق الوعر الطويل ومتفرّعاته أمام أسئلة لا تنتهي، ولا يبدأ جواب. وإذا تجاوزنا التعثّر بالأسئلة الحرجة، فلا بدّ على الطريق إلى المحكمة من التنبّه إلى علامات على المفارق والمنعطفات. مَن يتجاهلها يخطئ عنوان مقصده، وكم مخطئ عنواناً وما درى إلا بعد أن يكون قد قطع، في التيه، شوطاً لا يعود معه ينفع تحسّر على وقت فات ومات، ولات ساعة ندامة.
وعملاً بقاعدة «في الإعادة إفادة»، نعيد التذكير برسالة كانت جريدة «الديار» نشرتها في 21 نيسان 1990، وهي رسالة مرمّزة كثيفة الدلالات، موجّهة إلى هنري كيسنجر وزير خارجية أميركا الأسبق وصديق الرئيس المصري أنور السادات، الذي قضى اغتيالاً على يد الإسلامبولي، أحد العسكريين المصريين، وجاء فيها: «أشهد أمام محكمة التاريخ، متى انعقدت، أن ليس الإسلامبولي قاتله، فأنا رأيت بعينيّ الإله رع يُطلق عليه النار». وإذا صحّ أنّ الشرتوني هو قاتل بشير الجميّل، فبالإسلامبولي يُذكَر الشرتوني. وإذ ذاك، لا بدّ من التحرّي عن الإله الواقف خلف الشرتوني يدفعه إلى القيام بالفعل المنسوب إليه. ليس المقصود بالإله، هنا، إلهاً من غيب، ولا متألّهاً بعيب. بل هو صراع المفاهيم والقيم، متى استعصى عليها أن تتفاعل تتقاتل، تتنافى. بشير الجميّل حبيب الشرتوني يصحّان عنواناً لكتاب فيه كلّ ما يفيد عن اتّساع الهوّة وعن عمقها بين المفاهيم الوطنية والقومية عند «الأقوام» اللبنانيين… والتجاذبات القائمة حالياً عائمة حول قانون الانتخابات ليس الدليل الأخير على اختلاف الرؤى والآراء.
نحن، بفعل غفلتنا عن حقيقة مَن نحن، لم نتفّق يوماً على أمر داخليّ كبير إلا بأمر خارجيّ كبير.
نحن، هنا، كثبان تتحرّك تبعاً لنشاط حركة الرياح العاصفة فينا وحولنا. وأكثر من الهمّ على القلب براهين الواقع والتاريخ.
بلى، سيكون لهذه المحاكمة، أياً كانت أحكامها الأخيرة، ما كان لغيرها من القضايا ذات الأبعاد التاريخية. سيكون لها أصداء وتردّدات، لا بدّ أن تترجّع دويّاً في الأودية الفاصلة بين اللبنانيين في مفاهيمهم ورؤاهم إلى قيمهم الوطنية العليا. وما أدراك ما إذا كانت هذه التردّدات ستتسبّب بدحرجة كتل ثلجية أو حجرية من الأعالي، تأخذ بدربها، وهي تتهاوى في السفوح والمنحدرات كتلاً أخرى، لا تلبث أن تتحوّل جميعها عند القاع في مجرى الأودية سيولاً وفيضانات تجرف بدربها، من على الضفاف الأبنية المتصدّعة كلّها، فتكون النتيجة حدثاً تاريخياً آخر لا يفاجئ إلا الغافلين… والتاريخي في حدوثه تاريخي في تداعياته، وإلا ما كان لنا أن نتحدّث لا عن بشير الجميّل ولا عن حبيب الشرتوني. ولولا انتخاب الأول تحت الاحتلال لما كان الاغتيال…
في الأيام المقبلة،.. القضاء المحكوم بأن يحكم بالعدل، سيرى نفسه أمام قضية يصطدم فيها مقتضى الدستور والقوانين بوجدان الشعب المتشظّي شعوباً على خطّين متوازيين وبافتراق عموديّ حادّ.. لن يكون، معه، الوقوف مثولاً أمام هيئة المحكمة بأكثر رهبة وإرهاقاً ممّا سيكون عليه الجلوس خلف القوس من معاناة في المقاضاة. وذلك لأنّ الجالس خلف القوس محكوم في نشدانه العدل بأن يتطلّع إلى الخلف البعيد، وإلى الأمام الأبعد. وهيهات هيهات، أن تستقيم بين ارتجاح البعيدَيْن إبرة الميزان.
وما يصعّب المهمة أكثر أنّه لم يكن بين الطرفين نزاع شخصي على صفقة من تلك الصفقات التي… ولا على أيّهما يحق له أن يقتطع من الأملاك البحرية حصة أكبر. فكلاهما كان همّه في مطرح آخر بشير يريد أن يرتفع رئيساً ولو على أسطون دبابة «إسرائيلية»، والشرتوني بدافع من عقيدة «مرخّص» لها، لا يستطيع أن يرى على أرضه دبابة «إسرائيلية»، ولا سيّما إذا كان المرتفع على أسطونها من بني شعبه. فصوت عقيدته صارخ في أذنيه، في عقله، في روحه، مدوّياً مذكّراً بأنّ علاقتنا بالعدو هي علاقة الحديد بالحديد والنار بالنار.
وتشتعل ناره في داخله أكثر حين تزيده الأحداث قناعة بأنّ «مصيبتنا بيهود الداخل أكبر من مصيبتنا بيهود الخارج». وكان ما كان ممّا هو قضية أمام القضاء، ليس الآن، بل من زمان، من زمان.
لماذا، تُراها، انطوت في عهد أمين الجميّل؟ ليت العارفين حقاً يكشفون سرّ الجواب!
بشير وحبيب، اختصرا مبكراً، كلّ من على ضفته، واقعاً لبنانياً لا يزال قائماً قاتماً وواقعاً عربياً غريباً رهيباً.
بشير الجميّل الموثّقة علاقاته الوثيقة بأعداء لبنان، بالصوت، بالصورة، بالوقائع والفظائع، يردّ أهل «لبنانه» بأنّه أضطر، غير باغٍ، إلى التعامل مع الشيطان. وذلك كي يردّ بغي الفلسطينيين وحلفائهم من اللبنانيين، زمن ذاك، وأنّ النيّة عنده كانت طيّبة.
ويحاول بعضهم مجتهداً اجتهاداً بائساً ليميّز بين العمالة والتعامل. وعندنا، أنّ ما هو أخطر من العمالة عينها، «ثقافة» بعينها تبرّر للشيطان وجوده فلا ترى في «إسرائيل» ضيراً، ولا في التعامل معها ضرراً. إثر انتخابه رئيساً، التقى بشير الجميّل رئيس وزراء العدو مناحيم بيغن في نهاريا، حيث وبّخ بيغن بشيراً على محاولته التنصّل من التزاماته. ونقلت يومها مجلة «نيوزويك»، أن الجميّل شكا أمره إلى الوزير الأميركي وينبرغر، مبلغاً إياه: «لقد فاجأني مستر بيغن، فاجأني أنّه عاملني كخادم صغير». مفصحاً بهذه العبارة القصيرة عن قصور كبير في فهم حقيقة مَن ظنّ نفسه أنّه ندّ له. بئس النيات الحسنة كم فتحت من طريق إلى جهنّم، وكم عبّدت من طريق إليها!
في جلسات ستتلاحق، لا بدّ أن يتوقّف المعنيّون أمام العلامات على المفارق والمنعطفات، أمام الدوافع والغايات والنيّات، لا ليبنوا على النيات حكماً، بل ليتّخذوا من كلّ ذلك معبراً للوصول إلى حقائق تجسّدت بأفعال.
وإذا كان لا بدّ للأحكام، حين صدورها، أن تصدر متوّجة بِاسم الشعب اللبناني، فستكون إزاء هذه القضية، لحظات حرجة، ذلك لأنّ الشعب المفروض إصدار الحكم بِاسمه، هنا، يتشظّى وجدانُه شعوباً…
الشعب، هنا، هو الشعب اللبناني الافتراضي.
ومن قبلُ ومن بعْدُ،
الحكم والحكمة قريبان حرفاً وروحاً
فطوبى لمن أحيا الحرف بالروح.