مختصر مفيد أستانة مصرف لتحويل الأرصدة العسكرية سياسياً
ليست الكلمات التي يقولها مسؤولو الدول بحق بعضهم مديحاً أو ذماً وتهديداً وتنديداً أو إعلان تعاون ورهان على شراكة هي التعبير الأحادي والنهائي عن حقيقة ما يدور بينها، خصوصاً عندما يتصل الأمر بعلاقات دول تخوض حرباً تتقابل فيها بصورة غير مباشرة وتكاسر بعضها البعض، وتحاول كل منها أن تحفظ لها الكلمة الأخيرة والطلقة الأخيرة في الحرب. وهذا ينطبق على العلاقة الروسية الأميركية والعلاقة الروسية التركية بصورة خاصة، طالما أن أميركا هي محرّك قرار الحرب على سورية، وتركيا هي قاعدتها السياسية الفاعلة والقادرة والمتورطة في الجغرافيا والديمغرافيا. وميزان العلاقات الروسية الأميركية في سورية سيرسم ميزاناً عاماً وشاملاً وثابتاً لهذه العلاقات خارج سورية، طالما أن ميزان العلاقات الروسية التركية سيرسم ميزان الحضور الإقليمي لتركيا في المنطقة وحدوده وحجم استقلاله.
في مرحلة ما قبل أستانة كانت المواجهة الدائرة في سورية حرباً مفتوحة بلا سقوف، رغم وجود إطار لقاءات جنيف، تحت عنوان البحث عن حلّ سياسي في سورية. فكان الصراع على تحديد صاحب الكلمة الفصل في سورية بين حلفين متقابلين، روسيا وإيران ومعهما الدولة السورية والمقاومة، وحلف يضمّ واشنطن ومعها دول الغرب ومن المنطقة معها تركيا والسعودية ودول الخليج و إسرائيل . ورغم التموضع الروسي المباشر في سورية وما فرضه من حقائق التسليم بمكانة الدور الروسي فقد شكّل التصادم التركي الروسي علامة الحرب المفتوحة التي لم تستقرّ موازينها إلا بعد معارك حلب والموازين التي أنتجتها وفتحت مسار أستانة، القائم على ثلاث معادلات رئيسية: الأولى الرئاسة الروسية للمسار، مقابل رئاسة مشتركة تميل لصالح أميركا لمسار جنيف. والثانية ربط مسار أستانة بثنائية وقف النار وفصل الفصائل المسلحة عن جبهة النصرة. والثالثة تقديم إيران شريكاً إقليمياً كبيراً في معادلات المنطقة مقابل التهميش أو هامشية الدور في جنيف.
تأرجح مسار أستانة على إيقاع موازين القوى، فصعد نجمه بعد معركة حلب وانتصار الجيش السوري مدعوماً من روسيا والحلفاء، وهبطت أسهم أستانة مع الضربات الأميركية في مطار الشعيرات والغارات الإسرائيلية والرهان على هجمات جبهة النصرة في دمشق وحماة، وخرجت تركيا من التزاماتها وخرجت الفصائل التي شاركت في أستانة من مضمونه عندما لاح في الأفق أمل بتغيير الموازين، لأن أستانة مصرف لتسييل فائض القوة الذي يقرره ميدان التقال، وفرصة تحويله سياسة، وروسيا المدركة لذلك ومعها حلفاؤها يدركون أن هذه الجولة فرصة لمراكمة حقائق ما بعد حلب بحقائق ما بعد حماة وانتزاع وضوح أشدّ بالفصل بين الفصائل والنصرة وصولاً لوضع بند في وثيقة الضامنين الثلاثة وتركيا واحد منهم مع روسيا وإيران تربط ثبات وقف النار بجدية الفصائل في الشراكة مع الجيش السوري بقتال النصرة وداعش.
لن يتبلور من أستانة الجديد تحقيق معجزات. فالمزيد من التقدّم لا يزال يحتاج للمزيد من تظهير عناصر القوة، لكن ليس بالضرورة في مواجهة الخصوم الشركاء الذين تتقدّمهم تركيا. فالأرجح أن روسيا وسورية وحليفيهما إيران وقوى المقاومة، سيجدون وجهة حربهم نحو البادية السورية وخط الحدود السورية العراقية، الذي يتقدّم نحوه الحشد الشعبي من الجانبي العراقي للحدود، قطعاً للطريق على فرضيتين أميركيتين ستحسم مصيرَها موازينُ التسويات والحرب في سورية: الأولى مَن يُمسك خط الحدود السورية العراقية يمسك بخط التواصل بين إيران ومن ورائها الصين ومن أمامها العراق والبحر المتوسط اقتصادياً وبين إيران ومن أمامها سورية وحزب الله وبين فلسطين سياسياً وعسكرياً، والثانية مَن يمسك بالبادية في سورية وفي العراق يتحكّم بتحديد طبيعة الحرب مع داعش بين حرب النزوح والانزياح من الموصل والرقة نحو البادية، أو جعلها حرب حسم وتصفية إذا أقفلت طرق النزوح أمام داعش نحو البادية. وهو نزوح عملت واشنطن وتل أبيب على فتح طرقاته بالضربات التي استهدفت الجيش السوري في دير الزور والشعيرات وتدمر ومحيط مطار دمشق.
بعد حسم خط التواصل بين بغداد ودمشق وحسم أبواب البادية، وإمساك سورية بكليهما سيكون حال آخر في الداخل، فكما كان نظام الهدنة قبل عام المدخل لتحرير تدمر، وكان ما بعدها لنظام الهدنة دوره في توفير مناخات حرب تحرير حلب، للهدنة اليوم ونظامها الجديد المرتبط بقوة أكبر بقتال النصرة وداعش، مهمة قتح الباب لحرب البادية والحدود السورية والعراقية..
ناصر قنديل
ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.