«حماس» تتحوّل حزباً سياسياً عربياً

د. وفيق إبراهيم

الانتقال من مستوى «المقاومة» بالبندقية لتحرير الأوطان إلى درجة حزب عربي تقليدي يقول ما لا يؤمن به وينصاع للمتيسّر متظاهراً بالرفض والتمرّد، يعكس تماماً حالة حركة حماس التي قفزت ببهلوانيّة السياسيين العرب من الترويج للتحرير إلى موقع التفاوض على إدارة سياسية لجزء من فلسطين، مقابل التنازل المسبق ودونما قيد أو شرط عن معظم أجزائها.

يتماثل هذا التراجع الدراماتيكي مع سياسات دولة قطر، التي أعلن منها رئيس المكتب السياسي للحركة خالد مشعل وثيقته، فقبالته مباشرة توجد أكبر قاعدة بريّة لأميركا في العالم العُديد . أمّا إلى جانبه فهناك قاعدة عسكرية لـ«الأخوة الأتراك»، مهمّتها ضمان أمن «الدوحة» العاصمة… ضدّ من؟

إنّما ما هي الأسباب التي أدّت إلى هذا التقهقر؟ وما هي تداعياتها؟

شكّلت «حماس» بديلاً مقاوماً من حركة فتح التي انساقت نحو الحلول السلمية منذ تسعينيات القرن الماضي، وتنازلت عن كلّ شيء مقابل «مخترة» في الضفة الغربية كان يُفترض أن تدرك مستوى دويلة فلسطينية في الضفة وقطاع غزة.

ولأنّه ليس لدى «إسرائيل» ما تعطيه، اكتفت السلطة الفلسطينية ببضعة أحياء من الضفة، مقابل استعمال الصراخ بدلاً من البندقية، ومع تواصل الانهيارات العربية في مصر والأردن والخليج، واندلاع اضطرابات فوضوية في العالم العربي، تمسّكت «حماس» بالمقاومة المسلّحة وجعلت من قطاع غزة أنموذجاً مقاوماً، في حركة تماهٍ مع حزب الله اللبناني الذي سجّل في الألفين أول نصر عربي على «إسرائيل». وبدت «الحركة» وكأنّها تقاتل على جبهات عدّة: «إسرائيل» والسلطة الفلسطينية في الضفة، والدولة المصرية وتوقّف «الخليج» عن الدعم.

لكنّ أوضاعها ظلّت مقبولة في غزة رغم الضغوط المعيشية التي تعرّضت لها حتى من سلطة الضفة، وذلك بوقف تمويل المؤسسات الحكومية، وحالة الحصار من معبر رفح الممسوك من مصر والمقفل في معظم الأحيان. هذا لم يمنع «حماس» من اعتماد سياسة الردّ برصاصتين على كلّ رصاصة «إسرائيلية»، لأنّ خطوة دعمها من إيران بقيت ثابتة ومفتوحة.

لقد أثّرت الاضطرابات التي اندلعت في المشرق العربي على حركة حماس، لأنّ راعيها الإيديولوجي المتمثّل بالإخوان المسلمين تورّط فيها متوهّماً بإمكانية إنشاء فدرالية إسلامية عن طريق السياسة الأميركية، وبوساطة من الدولة التركية العضو في الناتو والمحكومة حالياً من قِبل حزب العدالة والتنمية، أحد الفروع القوية للإخوان المسلمين في المنطقة.

تسبّب هذا الوضع بتراجع في أداء «حماس»، التي ظلّت تطلق النار «عند الطلب»، إنّما بتقاطع من الإخوان المسلمين في مصر وتركيا.

كان هناك اعتقاد بوجود قبول أميركي لفيدرالية «الإخوان»، خصوصاً بعد وصولهم إلى السلطة في مصر وانفتاحهم العلني على «إسرائيل» في محاولة لاسترضاء واشنطن، لذلك بدا غريباً أن تقاتل «حماس الإخوانية» الفلسطينية «تل أبيب» المنفتحة على «إخوان مصر».

أمّا الذي لم يكن في الحسبان، فهو الصمود السوري الذي أربك المشروع الأميركي وفرض عليه تبديل الخطة والتركيز على إسقاط دمشق نفسها. والمدهش أنّ المنتمين لـ«حماس» في مخيم اليرموك القريب من دمشق، يقاتلون حتى اليوم ضدّ النظام السوري. كما أنّ مناصريهم في العراق ومصر ولبنان، هم أيضاً إلى جانب القوى التكفيرية الإرهابية.

فهل هذه صدفة؟ إلا أنّ هذا الأمر المريب لم يوقف الدّعم الإيراني عن حماس، لكنّه استجلب علاقات واسعة لها مع دولة قطر التي افتتحت للحركة مكتباً تمثيلياً واسعاً في الدوحة مرتبطاً مباشرة بالوالي العثماني في أنقرة.

بدا أنّ هناك تقاطعاً بين المزيد من تورّط الإخوان المسلمين مع الإرهاب في المشرق العربي، وبين تراجع «حماس» عن خطّها المقاوم. وهذه ليست تهمة، ويمكن ملاحظتها بمراقبة بدء التحوّل في سياساتها في مرحلة ما قبل وصول الإخوان إلى السلطة في مصر وبعدها. فيتبيّن على الفور مدى التراجع الذي أدرك حالياً مستوىً غير محسوب.

ولأنّ إدارة أوباما الرئيس الأميركي السابق لم تتمكّن من إقناع «إسرائيل» في حينه بحلّ الدولتين، بالإضافة إلى عجزها عن إسقاط الدولة السورية وعودة الروس إلى «الشرق الأوسط»، تعثّر أيضاً مشروعها الذي يتضمّن دوراً للإخوان الذين سقطت دولتهم في مصر بإرادة الجيش المصري، و«غضّ طرف أميركي» ارتأى أن يعيد الأوضاع في المشرق إلى مرحلة ما قبل مشروع الإخوان، لأنّ سورية التي تشكّل «واسطة العقد» لا تزال عصيّة، لذلك لم يعد ممكناً تطويع دمشق إلا من خلال تفاهم أميركي روسي، ترضى به إيران وتقتنع به الدولة السورية نفسها.

ما يثير الانتباه هنا، هو أنّ «حماس» عادت إلى أسلوب التصعيد الخطابي المتقاطع مع طلقات تحذيرية، وتجنح مجدّداً إلى الانفتاح الجزئي على إيران مع الاحتفاظ بأجنحة لها في قطر، أمّا عقلها وقلبها فبقيا في القصر السلطاني للرئيس التركي أردوغان.

ومع انتخاب ترامب رئيساً جديداً للولايات المتحدة الأميركية، ازداد النفوذ «الإسرائيلي» في البيت الأبيض. لكنّ هذا ليس كافياً من دون ترويضه لخدمة المشروع الأكبر، وهو إعادة السيطرة الأميركية على «الشرق الأوسط» بشكل تدوم تبعيّته لواشنطن قرناً على الأقلّ وربما أكثر. وهذا يتطلّب تصفية القضية الفلسطينية والإطاحة بكلّ من يلعب أدواراً غير أميركية في العالم العربي والإسلامي، أيّ في قلب ما يسمّى الجيوبوليتيك الأميركي. واتضح أنّها ثلاث قوى روسيا التي تصول عسكرياً وسياسياً، وإيران المتجذّرة، أمّا الصين فتختبئ خلف سلعها التجارية.

لذلك اعتبرت إدارة ترامب أنّ تصفية القضية الفلسطينية بـ«حلّ دولتين»، إحداهما وهمية تشبه مركز «عمدة مصري»، وتنزع من إيران واحدة من أكثر مبرّراتها موضوعية وصدقية للتحرّك في المشرق العربي. فكيف يمكن لها بعد ذلك أن تدّعي وصلاً بفلسطين، وأصحاب البيت يقبلون بجزء بسيط منه مقابل منح 75 منه للإسرائيليين.

وهذه الحركة كفيلة، كما يرى الأميركيون، بإعادة إيران إلى حدودها، لكنّها لن تصبح نافذة إلا بتبنّيها من طرفين فلسطين السلطة الفلسطينية، وحركة حماس في القطاع. وإذا كانت السلطة مقبولة أميركياً و«إسرائيلياً»، فإنّ الاستعانة بالإخوان لم تعد مقبولة بعد أن أثبت المشير السيسي أنّه رجل متعاون مع الأميركيين والخليجيين، لكنّه لا يقبل بالإخوان.

وهذا ما جعل خالد مشعل يعلن في الوثيقة عن عدم علاقة «حركته» بالإخوان وقبوله بحلّ الدولتين، مع إصراره على التعويض على اللاجئين الفلسطينيين المنتشرين في لبنان وسورية والأردن ومصر، ومعظم دول العالم في تنافس واضح مع السلطة الفلسطينية التي أعلنت بدورها عن ثقتها الكبيرة بالإدارة الأميركية.

هناك إذن، تنافس على كسب ودّ ترامب بين محمود عباس والخليج السعودي من جهة، وحماس وتركيا و«الخليج» التركي من جهة أخرى، مع ميل مصري إلى فريق «عباس السعودية». فهل يؤدّي هذا الجنوح المجنون إلى إسقاط الدور الإيراني كما تريد واشنطن و«إسرائيل»؟

يبدو في الاستنتاج أنّ هناك مسألتين باعتهما السلطة الفلسطينية وحماس مسبقاً، من دون أن تقبضا ثمنهما، وهما ثلاثة أرباع فلسطين حيث تنتصب «دولة إسرائيل» حالياً، وبضعة ملايين من اللاجئين الفلسطينيّين الذين قد تعمل واشنطن على تجنيسهم بجنسيات بلدان اللجوء أو توزيعهم في أصقاع الأرض.

أمّا التداعيات فتبدأ بتخلّيها عن الجولان السوري المحتلّ، الذي اجتاحته «إسرائيل» بسبب تمسّك الدولة السورية بفلسطين، وتركت الأراضي اللبنانية المحتلة التي يرعاها حزب الله الذي محور جهاده حول فلسطين وقضيتها.

وسدّدت وثيقة «حماس» ضربة موجّهة لكفاح الأسرى الفلسطينيين، ولجهود حملة الحجارة والخناجر من أبطال فلسطين. «حماس» لم تأخذ بالمقابل إلا وعوداً أميركية وتشجيعاً من الإخوان المسلمين الذين شجّعوها طالبين منها أن تتستّر على علاقتها بهم. لعلّ مجد الإخوان يعود بتسلّم «حماس» لإدارة الدويلة الفلسطينية، وهكذا تصبح «حماس» إذا اكتملت «تغريبتها» حزباً يصيح ولا يفعل، سلاحه هو لسانه فقط، ويماثل دولة أبو مازن في سقطاتها التاريخية.

بأيّ حال، هناك مَن يراهن على مسألتين: شعب فلسطين الذي لا يقبل بهذا الانهيار، واحتمال انكفاء «إسرائيل» نحو حلّ الدولتين بأشكال مختلفة.

ويبقى الرهان على الشعب الفلسطيني الرافض دويلة تلعب دور الوسيط بين «إسرائيل» والعرب، ولا يقبل إلا بتحرير بلاده من البحر إلى النهر.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى