قانون الانتخاب ما بين الطروحات السياسية والخيارات الدستورية

علي عوباني

ثمان سنوات ولبنان يدور في حلقة انتخابية مفرغة، الكلّ يغني على ليلاه، ويفصّل مقاسات انتخابية على قياسه، ورغم «جعجعة» الانتخابات والجدل «البيزنطي» وكثرة الطروحات إلا أنّ أيّ صيغة من الصيغ المطروحة لم تبصر النور بعد، ما أوصل البلد الى حافة الانهيار وشفير أزمة تهدّد الكيان بالفراغ الدستوري.

ترف البقاء في حال المراوحة ومقابر اللجان عبر الطروحات والطروحات المضادّة لم يعد يجدي نفعاً اليوم، لا سيما في ظلّ قرب انتهاء ولاية مجلس النواب 20 حزيران 2017 وانقضاء المهل الدستورية لدعوة الهيئات الناخية 90 يوماً ، ما يضيّق الهامش الزمني المتاح للتوافق حول قانون جديد. فكلما مرّ الوقت واقترب موعد الخامس عشر من أيار دون التوصل الى توافق انتخابي يرجح أن تزداد الأمور تعقيداً، باعتبار أنّ ما يفصلنا عن انتهاء الدورة العادية لمجلس النواب أسبوعان فقط بدءاً من 15 أيار، تاريخ انتهاء مفاعيل المهلة الإضافية التي أفسحتها خطوة رئيس الجمهورية الدستورية بتأجيل انعقاد جلسة المجلس لمدة شهر واحد استناداً إلى المادة 59 من الدستور، وإن كان لا يزال أمام الرئيس وسائل دستورية متاحة حتى الربع الساعة الأخير لإبعاد شبح الأزمة والدفع باتجاه إقرار قانون انتخابي جديد منها:

1 ـ توجيه رسالة إلى مجلس النواب يدعوه فيها إلى القيام بمسؤولياته حيال قانون الانتخاب قبيل 15 أيار موعد الجلسة المرتقبة رغم قلة فعالية هذه الوسيلة كونها لا توفر للرئيس أداة ضغط على المجلس .

2 ـ توقيع مرسوم فتح دورة استثنائية الدورة العادية تنتهي في 31 أيار بحال لمس الرئيس نية جدية لإقرار قانون انتخابي جديد، ما يعطي مجالاً زمنياً للحلّ يمتدّ حتى تاريخ 20 حزيران المقبل.

3 ـ اللجوء إلى تطبيق نص المادة 25 من الدستور اللبناني والمتعلقة بافتراض مجلس النواب منحلاً في حالة انقضاء ولايته رغم تباين الاجتهادات بهذا الشأن ، لإصدار قرار بالدعوة لإجراء انتخابات جديدة خلال ثلاثة أشهر، وهو ما ألمح اليه رئيس الجمهورية مؤخراً، وبذلك يكون أعطى مهلة إضافية للتوافق على قانون انتخابي تصل إلى مشارف 20 أيلول المقبل، فيما تكلف هيئة مكتب مجلس النواب بتسيير أمور المجلس خلال هذه الفترة، لكن هذه الخطوة قد تفتعل أزمة سياسية جديدة باعتبار انّ حالة حلّ مجلس النواب المنصوص عنها في الطائف لا تنطبق على انتهاء ولايته، برأي الكثيرين.

4 ـ الطعن أمام المجلس الدستوري بقانون التمديد لمجلس النواب بحال حصوله، وهو ما ألمح إليه ايضاً الرئيس عون مؤخراً جازماً بعدم قبول التمديد ولو لساعة واحدة.

ومع الوصول إلى تاريخ الخامس عشر من أيار، يكون أمام مجلس النواب 16 يوماً فقط قبل انتهاء دورته العادية 36 يوماً قبل انتهاء ولايته للتوصل الى قانون جديد، فيما خياراته ستكون محدودة وتدور بين السيّئ والأسوأ، بين فراغ تشريعي قاتل يرفضه الجميع بالنظر لتداعياته السلبية على باقي مؤسسات الدولة، والعهد الجديد، وتمديد غير دستوري، والعودة إلى قانون الستين الذي يجمع معظم الأطراف في العلن – على الأقلّ – على رفض إجراء الانتخابات على أساسه، علماً أنّ هذا الإجماع يبقى دون مفاعيل باعتبار أنّ القانون لا يزال قائماً، ولا يلغى الا بقانون، ما يجعله الخيار الأكثر دستورية من بين جميع الخيارات الأخرى المطروحة، لأنه طالما هناك قانون نافذ ولم يلغ بقانون آخر يصبح تطبيق القانون النافذ ملزماً، وطالما أنّ إرادة سائر الأفرقاء وإجماعهم لم يكرّس تشريعياً فلا طائل ولا مفاعيل لهذا الإجماع.

أمام هذه الخيارات وانسداد الأفق المتوقع مع ما قد يترتب عليه من تداعيات، يبقى الخيار الأمثل والحلّ الأنسب إذاً هو استغلال الهامش الزمني المتاح للتوصل الى قانون انتخابي جديد، يحقق على الأقلّ الحدّ الأدنى من صحة التمثيل لكافة فئات الشعب اللبناني، وإن بدا أنّ الوقت لم يعد مساعداً باعتبار أنه من لم يتوصل إلى توافق حول قانون انتخابي جديد في 8 سنوات كيف له ان يصل إلى توافق كهذا في غضون أسابيع قليلة؟

أمام هذا الواقع، ماذا إذاً عن نصوص اتفاق الطائف حول الشأن الانتخابي؟

قانون الانتخاب والإصلاحات

بالعودة الى نصوص وثيقة الوفاق الوطني ترتسم لنا معالم الحلّ بشأن قانون الانتخاب بعيداً عن التجاذبات والمحاصصات الانتخابية. تلك الوثيقة لم تخلُ في سياق استعراضها للإصلاحات السياسية من بند يتعلق بقانون الانتخاب، وهي بذلك وضعت هدفاً إصلاحياً ألا وهو وضع قانون انتخابي خارج القيد الطائفي، وجعلت من المناصفة بين المسيحيين والمسلمين والنسبية بين طوائف الفئتين وبين المناطق قاعدة استثنائية تطبّق بانتظار وضع قانون وطني خارج القيد الطائفي.

المأزق الانتخابي الذي نعاينه اليوم ليس وليد الساعة فهو مأزق مؤجّل، كان يفترض المباشرة بحله منذ ما بعد انتخاب أول مجلس نيابي بعد الطائف عام 1992، علماً أنّ وثيقة الوفاق الوطني ربطت إقرار قانون انتخابي على اساس وطني بثلاث خطوات الأولى استباقية والثانية تزامنية والثالثة استلحاقية:

الخطوة الاستباقية: إعادة النظر في التقسيم الإداري بما يؤمّن الانصهار الوطني، وهنا يؤكد الخبراء الدستوريون ممن شاركوا في مداولات الطائف أنّ النص عنى بذلك أن تصبح الأقضية الحالية وعددها 25 محافظات وهذا لم يحصل باستثناء محافظتي بعلبك الهرمل وعكار، لا سيما أنّ الطائف حدّد المحافظة كأساس للدوائر في قانون الانتخاب.

الخطوة التزامنية: استحداث مجلس شيوخ تتمثل فيه العلائلات الروحية مجلس طوائفي ، فنصت وثيقة الطائف أنه:»مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية».

الخطوة الاستلحاقية: نص اتفاق الطائف على مهمة أساسية تقع على عاتق المجلس الاستثنائي المنتخب على أساس المناصفة، لتعبيد الطريق أمام الوصول الى قانون انتخابي وطني، من خلال العمل على إلغاء الطائفية السياسية وتشكيل الهيئة الوطنية لهذه المهمة، على أن يتمّ ذلك على مراحل ويبدأ بإلغاء التمثيل الطائفي.

مما تقدّم، يتضح أنّ نية المشترع كانت واضحة لجهة ربط إقرار قانون انتخابي على أساس وطني وخارج القيد الطائفي بخطوات إصلاحية أخرى تسبقه او تتزامن معه او تلحقه، وجميع هذه الخطوات لم ينفذ منها شيء حتى يومنا هذا، فلم يتمّ تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، ولا جرى إعادة تقسيم الدوائر، ولا استحدث مجلس للشيوخ. علماً أنّ ثمة إصلاحات انتخابية جوهرية أخرى غابت عن وثيقة الوفاق الوطني وتقتضي تعديلات دستورية كونها تساهم في تصحيح التمثيل الشعبي ومنها:

1 ـ خفض سنّ الاقتراع الى 18 سنة وفق الدساتير الحديثة.

2 ـ تمثيل المرأة بشكل عادل ومتوازن.

3 ـ ضبط ظاهرة المال السياسي والإعلام لما لها من تأثير على صحة التمثيل ونتائج الانتخابات انتخابات 2009 نموذجاً .

4 ـ عدم ترك قانون الانتخاب عرضة للتعديلات على قياسات الطبقة الحاكمة قبل كلّ دورة انتخابية اعتبار قانون الانتخاب جزءاً لا يتجزأ من الدستور .

ما هو شكل القانون الانتخابي وفق الطائف؟

رغم نصّ اتفاق الطائف على إصلاحات سياسية جوهرية لتعديل نظام الحكم في لبنان وإحلال التوازن الطائفي ومن ثم الوطني لاحقاً، غير أنّ المشترع لم يحدّد بنص دقيق وواضح معالم القانون الانتخابي وشكله أكثري نسبي، مختلط وما شاكل، بل حدّد في عنوان فرعي تحت بند الإصلاحات السياسية معايير ومبادئ عامة يجب أن يرتكز عليها القانون الانتخابي منها:

1 ـ مراعاة القواعد التي تضمن العيش المشترك بين اللبنانيين.

2 ـ تأمين صحة التمثيل السياسي لشتى فئات الشعب وأجياله وفعالية ذلك التمثيل.

3 ـ اعتماد المحافظة كأساس لتقسيم الدوائر.

من هذه المبادئ يتضح أنّ النسبية وردت بشكل غير مباشر في نصوص اتفاق الطائف، وان ارتبط تطبيقها بإصلاحات سياسية، ذلك أنه من المتعارف عليه دستورياً، بأنّ صحة وفعالية التمثيل لشتى فئات الشعب لا تتحقق إلا بقانون انتخابي على أساس النسبية، بعكس القانون الأكثري الذي يعتمد قاعدة الغالب والمغلوب بنسبة فوز 51 بالمئة، ويقصي الـ49 بالمئة الآخرين.

ماذا بالنسبة للدوائر؟

إذا كانت النسبية قد وردت في سياق مبادئ عامة في وثيقة الطائف، إلا أنّ تحديد الدوائر جاء بنص واضح ورد في أكثر من مادة وحدّد الدائرة على أساس المحافظة بعد إجراء تقسيم إداري يضمن تحويل الأقضية الخمسة والعشرين الى محافظات. ما يعني عملياً ستاً وعشرين دائرة انتخابية اذا ما أضفنا اليها محافظة بيروت، وهو ما يلغي إمكانية اعتماد لبنان دائرة واحدة في سياق تطبيق النسبية الشاملة – إلا بتعديل دستوري -، رغم انّ هذه الصيغة هي الأمثل لخلق حالة وطنية وكسر فيدرالية الطوائف القائمة، وإخراج مبدأ تمثيل النائب للأمة جمعاء من القوة إلى الفعل، ما يحث النواب والأحزاب على العمل وفق برامج وطنية تشمل كلّ الطوائف والمناطق دون استثناء.

انطلاقاً من ذلك يتضح أنّ نص الطائف على المحافظة كأساس لتقسيم الدوائر الانتخابية لم يكن موفقاً ومثالياً باعتبار أنّ الأقضية المقرّر أن تصبح محافظات بتقسيماتها الحالية يغلب عليها الطابع الطائفي، هذا فضلاً عن أنّ توزيع المقاعد النيابية على الدوائر يتمّ على أساس طائفي، ما سينتج مجلساً نيابياً على أساس طائفي بنسبة كبيرة ولو كانت الانتخابات تحت شعار النسبية.

عملياً، هل بالإمكان تطبيق خطة الطائف الاصلاحية اليوم؟

خلاصة الأمر، فإنّ اتفاق الطائف واضح باعتماد النسبية على أساس المحافظة الأقضية الـ25 الحالية ، بعد إجراء الإصلاحات السياسية التي نصّ عليها ومنها استحداث مجلس شيوخ، للانتقال من مرحلة فيدرالية الطوائف إلى مرحلة وطنية متقدّمة تخلو من الطائفية السياسية.

هذا في النصّ أما في التطبيق، فثمة صعوبات كبيرة في إخراج النسبية كما وردت في الطائف الى حيّز الوجود في حالتنا الراهنة، فعدا عن الطائفية السياسية المستحكمة واستحالة إجراء الإصلاحات المنصوص عنها دفعة واحدة، فإنّ نفاد الوقت يجعل اعتماد النسبية حالياً غير متاح عملياً، باعتبار انّ ثمة حاجة ماسة الى مساحة زمنية كافية للشعب لفهم آليات النسبية والاعتياد على تطبيقها.

انطلاقاً مما تقدّم وفي ظلّ استعصاء الأزمة السياسية واستفحالها، وصعوبة تطبيق الحلول والمخارج الدستورية بشأن قانون الانتخاب كونها مرتبطة بسلسلة إصلاحات لم نستطع تطبيقها خلال 27 عاماً، لا يبقى أمامنا مع نفاد المهل الدستورية وضغط الوقت المتاح حالياً واستحالة وضع الخطة الانتخابية الإصلاحية للطائف على سكة التطبيق، سوى حلّ واحد هو العودة الى الشعب كونه مصدر السلطات، ليقرّر بنفسه ما يريد بعدما عجز الوكلاء عنه، من خلال إجراء استفتاء عام يحدّد فيه اللبنانيون بأنفسهم القانون الانتخابي الذي يريدون.

باحث لبناني

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى