تحليل الأطر المكان في رواية «في شواطي الريح والغبار» للدكتور لؤي زيتوني 1

محمد ماجد صوان

يتطلب أيّ عمل أو دراسة أو تحليل لنص أدبي منهجاً واضحاً لفهم أوضح لهذا النص، لأنّ القراءة الأولية قد لا تكفي لفهم العمل وأبعاده، أو حتى فهم ما يريده الكاتب من هذا النص دون غيره فكلّ كاتب يحدّد وظيفة نصه وأبعاده بناءً على ثقافته ورؤيته وتجربته التي يضعها بين يدي المتلقي. ولكي لا يظهر هذا العمل بصفة اللامنهجية يتطلب عليّ أن أحدّد سير العمل في هذه الدّراسة، والعناوين التي سأتناولها في هذا التحليل مبنية على قسمين مركزيين وهما:

القسم النظري: أحدّد فيه المنهج والأسس التي يسير عليها المنهج المتبع.

القسم الإجرائي: وأعمل فيه على تطبيق هذه الأسس على النص.

في القسم النظري سأعرض المنهج السيميائي معتمداً على بعض المراجع لتقويم عملي، كي يكون بصفة منهجية واضحة لا يدخلها خلل في الموضوعية. وبحكم أنّ النص هو مَن يملي على الباحث أيّ منهج ينطبق عليه، فإني قد استعملت المنهج السيميائي في تحليل رواية «في شواطي الريح والغبار».

الكاتب في الرواية يستخدم الأسلوب الواقعي الذي قد تكون تفاصيله مفصحةً دون الحاجة لضبابية أو قراءة ما بين السطور، في حين أنّ المنهج السيميائي يعتمد على قراءة ما بين السطور في النصوص الأدبية. لكنّ النص الروائي الذي – كما أسلفت – سار على الواقعية أسلوباً، إلا أنه أبقى على المكان مخفياً بعض الشيء، يترك بعض الإشارات داخل الرواية من أولها حتى آخرها، نوراً ليَهدي القارئ إلى المكان دون الحاجة إلى الإبانة والإفصاح.

لذلك فإني قد اخترت المنهج السيميائي لأستطيع أن أكشف عن المكان في هذه الرواية، وبهذا أكون قد بيّنت الالتباس الذي قد ينتج عن تضارب الأسلوب بالمنهج.

في القسم الإجرائي، وبعد أن أكون قد عرضت المنهج، وأسسه، وقواعده مع لمحة سريعة عن مفاهيمه، وبعض أعلامه، سأعمد إلى تطبيق هذه الأسس على رواية «في شواطي الريح والغبار» لصاحبها الدكتور لؤي زيتوني.

المدخل النّظريّ:

يضع الدكتور علي زيتون في كتابه «النص الشعري المقاوم في لبنان» تعريفاً بالسّيمياء وطريقة نشأته وأهم باحثيه، فالسّيمياء كما أوردها نقلاً عن صلاح فضل في كتابه «نظرية البنائية في النقد الأدبي»، «علم يدرس الأنظمة الرمزية في كلّ الإشارات العلامات الدالة ويدرس كيفية هذه الدلالة».

نظراً إلى أنّ السّيمياء تدرس أبعاد العلامة، فإنها تبحث في آلية ارتباط الدالّ بالمدلول، وهذا يدلّنا على أنّ السّيمياء ترفض ما جاء به سوسير حول الاعتباطية التي تتحكم بالعلاقة بينهما، وهذا التعميم يستدعي تفصيلاً لفهم المنهج من منابعه لتنجلي الصورة عنه.

ترى جوليا كريستيفا في كتابها «السّيميائية علم نقدي أو نقد العلم» أنّ «هذا العلم وفي كلّ مرة يمارس فيها وظيفته إنما يمارس نقداً لنفسه يعيد تقويم موضوعه» هذا يعني أنّ العمل السّيميائي يفرز نموذجاً آخر يُنظر له من منظار مختلف، وهذا المنظار يفرز سيميائية جديدة مختلفة عن السّيميائية التي سبقتها. وبناءً على فكرة الأيديولوجيا التي تضع النصوص تحت سلطتها، يكون إفرازاً آخر وآخر، بمعنى أنّ مع كلّ أيديولوجيا يظهر لدينا درس سيميائي جديد، وكلّ جديد يظهر منه جديد آخر…

يعتبر بارت أنّ أيّ أنظمة سيميائية موجودة خارج اللغة ليست مهمةً كثيراً، خصوصاً أنّنا نعيش حضارة كتابية يصعب علينا فيها تخيّل أيّ نظام سيميائي لتحليلها خارج اللغة فإدراك المغزى من أيّ نظام يدفعنا للّجوء إلى اللغة.

لعلّ الفضل الأول في نشوء هذا العلم يعود إلى العالم دو سوسير الذي تنبأ به في محاضراته، والثاني هو العالم الأميركي بيرس الذي تحدث عن النظرية الدلالية وهذا ما شكل فارقاً بين البحث اللساني والدلالي عند سوسير. ثمّ جاء بعده العالم مورس الذي قام بتطوير ما جاء به بيرس من خلال تمييزه للأبعاد الدلالية وغير ذلك وأيضاً العالم جورج مونين الذي تأثر بدو سوسير رافضاً رأي بارت، بحديثه عن كشف الأنظمة الدالة واستبدلها «بأنظمة الاتصال» كما ظهر العالم الإيطالي إيكو مقرّباً رؤية مونين ورؤية بارت. هذا كله جعل من السّيمياء علماً قائماً بذاته له أعلامه وتوجهاته ومنظريه، ولعلّ أهمّ توجّه فيه هو ما تحدّث به بارت في كتابيه «درس السّيميولوجيا» و»الأسطوريات».

يضع الدكتور علي زيتون في المصدر السابق نفسه ما قاله بارت في كلا الكتابين، ففي كتاب «درس السّيميولوجيا»، ينطلق بارت بتقديم رؤيته في الأدب، فاللغة برأيه تحمل جرثومة عالقة به تخترق من خلالها المجتمع، فهي سلطة تجبر الكاتب على استعمال وجهة نظرها في تصنيف الأشياء وتحديدها، إذ إنّ كلّ تصنيف قهر. وبناءً على هذه الفكرة يكون الأدب حسب رأيه خيانة للغة وتخلصاً من سلطتها فقد انتبه بارت إلى أنّ الفونيمات والكلمات والعلاقات الصرفية لا تخضع لنظام حرية مضبوطة. وينتهي إلى الحديث عن فهم أشكال التحرّر من «السلطة»، وذلك بفهم العلاقات السّيميولوجية المكوّنة للأدب.

وفي كتاب بارت الثاني «الأسطوريات». وهو كتاب نقدي أيديولوجي للغة الثقافية الجماهيرية بناءً على فكرة الأسطورية أيّ التي تتحوّل شكل دلالتها فهي حسب بارت، ونقلاً عنه من كتابه ذاته في الصفحة 250، يقول: «فهي جزء من السّيميولوجيا بما هي علم شكلي، وجزء من الأيديولوجيا بما هي علم التاريخ». والسيميولوجا في كتابه قائمة على ثلاثة أبعاد الدال، المدلول، العلامة ، ففي الأسطورة تكون السيميولوجية الأولى خصوصاً، ثم تتكوّن سيميولوجية ثانية قائمة على السيميولوجيا الأولى أيّ أنّ الأسطورة تتكوّن من مجموعة السّيميائيات المتسلطة واحدة على الأخرى، فتشكّل معاً منظومة الأسطورة السّيميولوجية. بمعنى آخر أنّ الدال والمدلول يكونان العلامة، والعلامة تكون دالاً ومدلولاً مختلفين عن الدال والمدلول الأولين.

«يُعَدّ بارت المنظّر الأساسي للنقد السّيميائي». وهذا حسب الدكتور علي زيتون في الصفحة 118، وبارت هو من حدّد السلطتين الواجب على الأديب التحرّر منهما، وهما سلطة اللغة وسلطة التقليد الأدبي.

أمّا المصطلحات السيميائية فهي، كما وضعها الدكتور علي زيتون في كتابه «النص الشعري المقاوم في لبنان» الصفحة 119:

الاتصال: وهو مجرى الرسائل والمعلومات بواسطة إشارات من المرسل إلى المتلقي.

الرمز: علامة اختيرت اتفاقاً لتوحي بمرجعها الأصلي.

الأيقونة: علامة تدل على مرجعها، قائمة على قاعدة المشابهة.

العلامة: شيء مادي يظهر شيئاً آخر ذهنياً مكونة من دال ومدلول.

الشيفرى: نظام ضيق يطابق كل دال مدلولاً واحداً عليه فقط.

الدال: أحد طرفي العلامة ذو صفة مادية.

المدلول: أحد طرفي العلامة ذو صفة ذهنية.

الوحدة الدلالية: الوحدة الصغرى للمعنى الكلمة .

الوسائط: مجموعة وسائل الاتصال: الكتاب، السينما، المذياع…

الإشارة: منشط يستدعي الصورة الذهنية، منها الطبيعي ومنها الاصطناعي، الطبيعية: كالغيم في دلالته على المطر، والاصطناعية: كإشارات الخطر التي تمثل الواقع.

اقتصاد الكلام: يرتبط بشرط الجهد الأقل. حذف غير الضروري من الخطاب.

القسم الإجرائي: سيميائيات الدّلالات المكانيّة

قد تختلف خطوات التحليل لنص ما عن خطوات نص آخر، نظراً لما يمليه النص على الباحث، فقد يكون البحث متعلّقاً بالزمان، لكن العنوان لا يحمل في طياته أي مدلولات زمانية، وهذا على سبيل المثال لا الحصر. فالخطوات الموضوعة في طرق التحليل لدى كل منهج قد لا تتحقق في نص أدبي.

أما دراستي عن المكان في رواية «في شواطي الريح و الغبار»، فقد استخدمت في خطوات التحليل السيميائي، وطرق بحثه موظفاً إياها في البحث عن المكان في هذا العمل الروائي المثير للاهتمام، وقبل أن أعمد إلى التفصيل في التحليل والدرس، وجب عليّ التحدّث سريعاً عن أحداث الرواية وذكر معالمها الأساسية، ومن ثم الذهاب إلى التحليل بحثاً عن المكان بوصفه مكوّناً أساسياً في أي عمل قصصي.

المسار السّرديّ لأحداث الرواية:

تدور أحداث الرواية داخل مدرسة في تلك البلاد، عن أستاذ يُدعى الأستاذ نظام، وهو مدرّس وافد إلى البلاد بقصد العمل ثم يلتقي بياسمين الطالبة في صفه المعجبة بأقواله ووجهات نظره، فتنقسم عمليّة السّرد لفصول الرّواية بينهما.

في الفصول يبدأ استعراض الأحداث فالطالب «يحيا»، وهو طالب مهذب خلوق يتعرّض لاستفزازات من قبل عصابة «نواف»، هذا ما يودي بحياة «يحيا» المدرسية، كما ويجبر أهله على السفر خارج البلاد. ثم تسير الأحداث بعدها إلى لقاء الأستاذ نظام بصديقه، وهو عيسى الشاب الذي يكابد في حياته الأمرّين، ويُجبَر على ترك المدرسة لعدم توافر مقومات الحياة البسيطة، ويدفعه إلى العمل في سنٍ صغيرة نسبيّاً، وهذا مرجعه إلى انتمائه الطائفي في بلد يشيع فيه الانتماء الواحد لطائفة شيوخ البلاد.

بعد ذلك تكتشف ياسمين سرّ وفاة والدها وخسارة شركته إذ كان السبب في ذلك والد نواف الذي ابتزّ والدها ما جعل حالته الصحية تتدهور. ثم تبدأ أحداث سياسية في البلاد، فتظهر الحوارات على شكل نقاشات سياسية معهودة ومعروفة في واقع غير مألوف على الشخصيات. ونتيجة لذلك تبدأ شخصيات الرواية باتباع أفكار خاصة وآراء سياسية، قد تجعل من الوجود داخل البلاد رهن تلك الآراء، وأي حدث صغير يفرز حدثاً أكبر بكثير من سابقه. وهذا ما حصل مع الأستاذ نظام الذي اعترض على دخول حفيد «الملك» واسمه «عبد الله» إلى صفه أثناء سير الدرس، بقصد توقيع الطلاب على عريضة ولاء للملك ومَن يرفض التوقيع، يكون بالضرورة ضد الملك وخطواته في تدارك الحلول للأزمة الواقعة على البلاد. هذا الحدث يجعل من وجود «نظام» في البلاد يهدّد «الأمن الوطني»، لكن في ختام الرواية يرن هاتف الأستاذ نظام ليلاً ليلغى قرار ترحيله، إلاّ أنّه يعتذر عن هذه «المكرمة» ويصرُّ على الرحيل.

السيميائيات خادمة للكشف عن المكان:

سيميائيّة العنوان:

مَن يقرأ رواية «في شواطي الريح و الغبار» يستوقفه وبشدة العنوان، لما يحمله من دلالة مكانية، توحي بالفوضى في تصنيف الأشياء. فشبه الجملة «في شواطي»، ومن المفترض أن تحرّك في مخيلة المتلقي مجموعة صور عن الشواطئ وحقلها المعجمي الذي يسهم في تشكيل مكان أشبه ما يكون إلى الفردوس، لكن ما يجعل من هذه «الشواطي» ذات دلالة أخرى هو عطف «الريح» على «الغبار»، وما تحمله من حقل معجمي في علاقة غياب عمودية الشكل في التعبيرين. أما وقد أدخل تركيب العنوان بهذه الهيئة، فقد أعلن أن الصحراء في تقلباتها المناخية من ريح وما تثيره من غبار هو مكان يحيطه البحر من ثلاثة اتجاهات على الأقل، وهذه الدلالة جاءت من استخدام صيغة الجمع لكلمة «شواطي». بدقّة أكثر، إن المكان في سيميائية العنوان وحده يعطينا تصوراً خاصاً، وهو أن المكان مكانٌ مشرف من ثلاث جهات أو أكثر على البحر، يحمل صفة عدم الاستقرار، وذلك مردّه إلى البيئة الصحراوية والفوضى ما قد يجعل من الفوضى التي بدأتُ حديثي عنها تتخذ دلالة غير تلك المقصودة في البداية.

سيميائية الأسماء والشخصيات وبنيتها النفسية:

لم يكن المكان يحمل أهمية في النقد القديم، ذلك لأن أرسطو قد اعتبر المكان جزءاً تزيينياً خارجياً، أي أنه لا يدخل ضمن بنية النص ودلالتها، أو أنه علامة تشكل بناء النص مع العلامات الأخرى كالزمان مثلاً.

تقول الدكتورة يُمنى العيد في كتابها «فن الرواية العربية» صفحة 109: «لم تكن دلالات المكان في نظر أرسطو، عنصراً من عناصر تكوين الحكاية»، ولكن مع اختلاف النظر إلى العمل الأدبي بين القديم والحديث، صار المكان يحمل دلالات لا تقف عند حدود، بل تتعداها لتشكل علامات ومفاهيم في أسماء الرواية الحديثة، وتؤثر في الشخصيات ونفسيتها، وتُشارُك كل العناصر في البناء الروائي يعطي خلاصة أخرى، تحدثت عنها الدكتورة يمنى العيد في المصدر السابق في الصفة 112 عن دور المكان في الرواية الحديثة فتقول «لا رواية بلا مكان وبشكل خاص، لأننا، أبناء هذا المشرق العربي، نعيش في زمن تطور الرواية العربية كجنس أدبي زمناً خاصاً، وهو زمن فقدان المكان».

إن العنوان وما أثاره من فوضى في المكان، وتضارب بين العبارتين «في شواطي» و»الريح والغبار»، قد حاولت الأسماء أن تزيح ظلامه، بناءً على فكرة العلامات والأسماء ومرجعيتها الثقافية، قد جعلت من الأسماء تحمل علامة خاصة، اختارها الكاتب ليجعلها فاعلةً في الكشف عن مكان روايته.

كما أن الشخصيات هي الأخرى جعلت من المكان أكثر وضوحاً، وذلك لأن الأثر الذي يتركه المكان في الشخصيات يجعلنا بصدد الدّخول إلى نفسية الشخصية لكشف أثر المكان فيها. وهذا كله يسهم في العمل الروائي، ويعطي المكان دلالات وجدت في الرواية، ولم يصرّح بالمكان وبقيت هذا الدلالات تشير إليه.

إن تكرار اسم «نواف» في أكثر من موضع ودوره الذي يلعبه في الأحداث قد وُصف بالعنجهية، لكن لنتوقف عند الاسم بحد ذاته، فقد ذُكر في الرواية في أكثر من موضع، الصفحات: 11، 12، 15، 19، … وغيرها الكثير الكثير.

إن اسم «نواف» يُطلق غالباً في مناطق معينة في الوطن العربي، وبحكم أن الرواية ذات أسلوب واقعي، فإن أي حدث أو اسم أو انطباع يجعلها واقعية التحليل. فعلامة الاسم «نواف» تكسبنا تصوراً أن حامل هذا الاسم من الخليج العربي، يحمل صفات هذه المنطقة وعاداتها، بحكم تأثير البيئة الصحراوية فيه، وكذلك الأمر بالنسبة إلى اسم الاستاذ «حمدان»، وهو اسم أيضاً يحمل في طياته بعضاً من صفات المكان، وأقصد صفات المكان في الرواية وفي الواقع، فاسم حمدان صفحة 26 ضمن الحوار ، يحمل صفة البدوي أو الخليجي، هذا مردّه إلى أن الشخصية الخليجية ذات الصفة البدوي في التقسيمات الحضارية، جعلت من هذا الاسم أيضاً يحمل صفة مكانه الحضارية، لكن بعض الأسماء في الرواية لا تدل على المكان مثلاً: نظام: وهو الأستاذ الوافد إلى المكان الروائي، ياسمين: وهي ابنة المكان الروائي، عيسى: وهو شخصية ثانوية تسهم في بلورة المكان في البحث من حيث موقعه الديني، وغيرهم.

اسم «الكفار» أو تعبير أن الأستاذ نظام «يتطاول على الدين، وأن أفكاره إلحادية»، إن هذا الحكم بالإلحاد قد جاء سريعاً بعد نقاش حصل في حصة الاستاذ نظام، في الصفحات: 32، 33، 34 وهذه إشارة أخرى إلى طبيعة الشخصية التي تتأثر بالمكان. وهذا الحكم السريع يكون بحكم الطبيعة، وما يفرضه عدم الاستقرار في المكان الواقعي الواحد. ويمكن القول هنا إن سرعة الحكم الدينية على الشخص الذي يقدم أفكاراً جديدة على مجتمعٍ ما، بأنّه كافر أو ملحد، نظراً إلى أنّ أفكاره لا تمس المجتمع بأي صفة دينية.

وهذه صفة أهل الخليج العربي المتدينين، فأي فكرة جديدة توضع بميزان الكفر والإيمان، ذلك نتيجة مذهبهم الإسلامي المعروف. وفي الصفحة 34، يتحدّث الأستاذ نظام مخاطباً الطلاب الذين اتهموه بالكفر: «أنتم ترون كل من لم يدخل في الإسلام كافراً»، وهذا تأكيد آخر على أن سرعة الحكم بالكفر أو الإيمان بكونها من صلب الحياة الاجتماعية، لا نجدها في مجتمع آخر سوى في الجزيرة العربية، والمتأثرين بهذا المجتمع أو المذهب.

إن استخدام بعض التعابير في الحياة اليومية يجعلنا ندرك جنسية متكلمها، أو خلفيته الثقافية، والدينية، ومكان عيشه… ونجد في الصفحة 37، استخدمت كلمة «ولي العهد» ضمن سياق سياسي، وهي كلمة بحد ذاتها تحمل طابعاً سياسياً، فظروف هذا التعبير تحتم وجود نظام سياسي ملكي حصراً، والمؤشرين معاً كل خارج عن الإسلام هو كافر أي أن دين الدولة هو الإسلام، وتعبير ولي العهد يجعل من المكان وبشكل حتمي، دولةً في شبه الجزيرة ذات طابع ملكي.

في الصفحة 55 نجد علامة تؤكد ما وصلنا إليه، عبارة «جلالة الملك»، التي وردت في حوار بين الأستاذ نظام والأستاذ هادي، في الحديث عن قصيدة كتبها الأستاذ هادي «عن جلالة الملك».

إن مؤشراً كهذا لا يمكن تركه من دون البحث فيه، وتبيان ما يدل عليه، خصوصاً أن تسلسل الحوار الذي ورد فيه في الصفحة 56، وعلى لسان الأستاذ هادي في حديثه عن الانقسام، هذا يعني أن المكان الذي تدور داخله أحداث هذه الرواية يعاني من انقسام معينٍ في ظل ملكية عربية.

إن بعض الأسماء والتعابير تخرج احتمالات المكان في هذا البحث، فسير الحوار، وتتابع الأحداث، جعل من احتماليات المكان تصغُر تبعاً لاستخدام تعابير معينة. ففي الصفحة 46، يظهر تعبيرٌ يستثني مكاناً واقعياً، وهو «الجارة الكبرى»، أي المملكة العربي السعودية بحكم كِبَرِها جغرافياً هذا التعبير جاء مرافقاً في الصفحة نفسها لتعبير قلة الموارد و»أنها تعيش على مساعدة الجارة الكبرى»، هذه دلالة جعلت من المكان الروائي والواقعي معاً، مكاناً صغيراً عاجزاً عن سد احتياجات بلاد بمفرده، لذلك تحتاج إلى «الجارة الكبرى» لتساعد في هذه المشكلة الاقتصادية.

«الشعب يريد الشيخ»، هي عبارة جاءت في الصفحة 109 ضمن سياق المسيرة التي أقيمت تأييداً للشيخ، وهي من ضمن الشعارات التي ينادى بها من يقفون مع السلطة في وجه التيار الذي يهتف حكماً بسقوط النظام. وهذا ما أفرزه الوضع السياسي في البلاد العربية، لكن مجال الرواية جعل من هذه العبارة ذات مدلول مكانيّ. وكلمة الشيخ بحد ذاتها تؤكد أن الواقع المفروض من الناحية السياسية حمل صفة الملكية الدينية، فالمكان يبقى حبيس هذا الطابع في الرواية، والواقع معاً.

اسم عيسى لا يعطي أي إيحاء ولكنه في سياق الرواية، هو ابن هذه البلاد، أو هذا المكان الذي تحدث بلسانه عن قرار الثورة التي اتُخذ للدخول في العمل الجدي بها الصفحة 24 ، ثم حديثه عن المعاناة التي يجب أن يشعر العالم بها، وهذا يؤكد عدم استقرار هذه البلاد. والمكان في الوقت ذاته، سيصبح أشبه بساحة نزاع بين أطراف وأطراف. وذلك يجعلنا نتحول إلى حوار آخر بين الأستاذ نظام وعيسى، ووصفه لنفسه بتعبير «وضعي الطائفي حتَّم علي أن أكون مضطهداً في هذه البلاد»، هذا الوضع الطائفي الذي يتحدث عنه يسهم في ترك بصمته على المكان، بوصف البلاد تحمل صبغة مختلفة، ما يجعل عامل الانقسام الذي سبق وتحدثنا عنه أن يكون حاضراً وبقوة عند الحديث عن الطائفة الثانية التي صارت في مقابل للطائفة الأولى.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى