ساق البامبو لسعود السنعوسي… عنترة بسيف من ريح وقلب من يسوع!
محمد رستم
بمهارة الصيّاد وعين الحاذق، يلتقط السنعوسي بشبكة الطاروف، شخصيات روايته كصيد ثمين علقت بشباكه ولا فكاك. وبالمهارة ذاتها معتمداً غواية الحرف الساحر وامتلاك أدوات العمل الروائي، يجد القارئ نفسه عالقاً بالطاروف هو الآخر.
وبطله «عيسى» وقع في شرك البحث عن دفء الرابط الأسَري وفارق التفاضل بين النار الفيليبين والجنّة الكويت يقول: «أقنعتني أمّي أننا نعيش في الجحيم وأنّ الكويت هي الجنّة».
لم يعتمد الكاتب المخاتلة والمضمرات الخفية منذ العنونة «ساق البامبو». فمن المعروف أنّ العنونة هي العتبة الحامل للعمل الأدبي بل هي جزء منه.
وبتكثيف دلاليّ، يغمز الكاتب بكحل الغواية فيعقد تماثلاً بين بطله وساق البامبو. يقول عيسى: «لو كنت مثل شجرة البامبو لا انتماء لها، تقتطع جزءاً من ساقها تغرسه بلا جذور في أيّ أرض، لا تلبث الساق طويلاً حتى تنبت لها جذور». والرواية تصوّر الحيف المرعب الذي يطاول الإنسان من جرّاء سلّم الأعراف والتقاليد.
أليست حكاية عنترة هي صراعه المستمرّ لكسر حدّة هذه الأعراف؟
هذا وقد تلبّست «ساق البامبو» حكاية عنترة. فهل جاءت الرواية صدى لها أم هو وقع الخاطر على الخاطر؟ أم هم الأبناء بلا آباء المشكلة التي تفضحها الرواية؟
تشتغل الرواية على فقدان الارتباط بالأسرة، الوطن، الأرض. هذا الجاذب والعامل الأساس في الاستقرار والراحة النفسية، ما أدى إلى هشاشة البنية النفسية للبطل لتبيّن فداحة الأثر الذي تتركه الأعراف المتخلّفة على الإنسان. متّخذاً الخليج مسرحاً لروايته.
فزواج راشد الطاروف من العاملة الفيليبينية «جوزفين»، وإنجاب «عيسى»، يجلبان العار لعائلة الطاروف ذات المكانة الرفيعة في المجتمع الكويتي. الجدّة تقول: «هذه مصيبة… هذه فضيحة». والجدّة الصارمة تمثّل سطوة الإرث الاجتماعي، ومَن خرج عليها يغدو منبوذاً، لا بل تُسلب منه صفته الإنسانية ليغدو مجرّد شيء. الجدّة تقول: «خذ هذا الشيء»!
ويأتي قرار الطلاق كنتيجة لحكم محكمة الإرث الاجتماعي. تقول «جوزفين» لابنها «عيسى»: «لم يكن القرار في يد أبيك. لأنّ مجتمعاً بكامله يقف وراءه»
بهذا، يبدو الإرث كديمومة جهالة وسلطوية مقيتة. فـ«هند» الناشطة في مجال حقوق الإنسان لم تستطع أن تدافع عن حبّها لـ«غسّان» وزواجها منه، لأنّه من «البدون». «البدون» الذين همّشهم النظام الاجتماعي في اعتداء صارخ على إنسانيتهم، لذا يبدو المجتمع الكويتي منخوراً بسوس التخلّف والبَلادة والأعراف البالية.
ولم يتمكّن «راشد» من الاحتفاظ بزوجته وابنه، ولم يجرؤ أحد على الاعتراف بـ«عيسى» مع أنه الذكر الوحيد في عائلة الطاروف. وكان الكاتب أميناً في رسم صورة دقيقة لتلك الشريحة من المجتمع الفيليبيني التي وبسبب الحاجة، تدفع ببناتاها ونسائها ليكنّ «خادمات» يتعرّضن لشتى أنواع الانتهاك والقهر. تلك الطبقة الملقاة على قارعة الحياة الإنسانية. و«هوزيه»، هو الحامل الأساس لكلّ مضمرات الرواية التي تقصّد الأديب أن تأتي سافرة الملامح حتى لكأنّ المروية قد عبرت جسر السيرة الذاتية له.
تبدأ الرواية بتبرّمه من وضعه حيث ينادى بِاسم له تقاليبه بحسب الجغرافية في الكويت «عيسى» وفي الفيليبين «هوزيه»، ويقال «جوزيه» أو «خوسيه»، ومشكلته ليست في الأسماء بل بما تخفي وراءها.
ففي وطن أمّه يُنادى بالعربي، وفي وطن أبيه يُنادى بالفيليبيني. ويظهر ضيقه في قوله: «لم أختر اسمي، وكلّ ما أعرفه أن العالم اتّفق على أن يختلف عليه». وكأن في ذلك إشارة خفية إلى التماهي بينه وبين «يسوع» اسماً ومعاناة، إذ يبدو «هوزيه» مصلوباً على خشبة الاختلاف.
و«هوزيه» هذا مسلم الأب مسيحيّ الأمّ، وأعزّ أصدقائه بوذيّ، وهو يتعبّد بالديانات الثلاث. لذا غدا «هوزيه» تائهاً ممزّقاً ضائعاً يعاني غربة اجتماعية رفض وجوده كفرد في أسرة أبيه وغربة دينية لا يعرف كيف يستقرّ على دين واحد، وغربة وطنية فهو ممزّق بين الكويت والفيليبين. وعندما ابتعدت أمّه صار ينادي خالته «آيدا»… ماما . يقول متألماً: «من كان بوسعه أن يقبل، يكون له أكثر من أمّ سوى من تاه في أكثر من اسم أكثر من وطن أكثر من دين. وبات يرى نفسه مجرّد شيء». ويردّد: «أنا مثلك يا ميندوزا، أنا وحيد أنا ضعيف». ظل «عيسىّ على امتداد الرواية يتوق إلى الاتّحّا مع ذاته «اسم واحد. وطن واحد. دين واحد». وبسبب من هذا التمزق يعيش التيه يحس أنّه غير واضح الملامح. غير قادر على الفعل بعد سقوط الحلم المشروع وتناثر مرايا الانكسار. فبات التمزّق والضياع بساطاً يتمدّد بلا استحياء، واليباس الروحي لا يني يتعاظم في فضاء طافح بالمقت. و«عيسى» الذي وجد نفسه على أرصفة المنافي والتيه في عالم معادٍ، لا لشيء إلّا لأنه نتاج زواج «راشد» الكويتي من «الخادمة» الفيليبينية «جوزفين». فأحسّ بأنه مثل سيقان البامبو في المزهريات «هي في غير محلّها هي مثلي تماماً في بيت الطاروف».
لقد أرخت الحياة بكل خيباتها على عاتق روحه المتخمة بالانكسارات فأصبحت أيامه مغسولة من الفرح وغدا نورساً ضلّ شاطئ أمانه.
وفي سرده قصة حياته تحسّه مستلباً من قوى سلبية حشرته في قفص الموات فبات استسلامياً انسحابياً، وكم من مرة استمطر خيراً من غيوم قاحلة: «استرضى الجميع ابتلع الإهانات عمل بطقوسهم». لكنه ظلّ غريباً وتأكّد أن الإنسان إن لم يكن له انتماء… فهو لاجئ إلى الفراغ حتما.. ولأنّ الأمل الحلم ليس من حجارة فقد ظلّ على امتداد الرواية يبحث عنه مع أن ما تصبو إليه روحه هو البديهي إذ لم يطمح إلى قبض الريح.
حقّق الكاتب الأثر الجمالي لمرويته حين تمكّن من الإيهام بواقعية أحداثها من خلال الربط الزمكاني الكويت، مانيلا، حي قرطبة . وتساوقت وقائعها مع ما مرّ على الكويت من حربَي الخليج الأولى والثانية، ورسم شخصياته بواقعية داخلياً وخارجياً، وإن كاد أن يقع في التنميط. ولأن زواج «راشد» من «الخادمة» جاء حدثاً ناتئاً في سيرورة الفعل الروائي وغير متجذّر في فضاء الرواية، إذ لم يمهّد له ببساط فكري أو حبائل رغبة جنسيّة لحظويّة جامحة، نسأل هل كان الزواج مجرّد فشّة خلق لـ«راشد»؟ أم مناكفة للعرف الاجتماعي؟ أم تطبيق لنزوة فكرية غير محسوبة النتائج؟ وقد أحسن الكاتب حين منح «عيسى» رهافة الحسّ والرومنسية ليكون أكثر تأثراً بمأساته. وجاءت الأحداث متتابعة يولّد بعضها بعضاً. وقد اعتمد الخطف خلفاً في زمن سرده وفق أسلوبية محبّبة تداعب الوتر الحسّي للقارئ وتجنح إلى اللغة الشعرية. ولعلّه بلغ الروعة الشعرية حين ارتقى بوصفه العملية الجنسية من مرتبتها الحيوانية إلى رقيها الإنساني: «هناك بعيداً عن الشاطئ… اضطرب المركب رغم هدوء البحر في حين كنت أنا في الرحيل الأول تاركاً جسد والدي مستقرّاً في أعماق والدتي. لقد اشتغل الكاتب على اللغة كغاية جمالية فخرج من الرتابة التقليدية للنمط السائد في اللغة السردية وحقق بذلك طهر الأسلوب السردي. كما استطاع الأديب سعود السنعوسي أن يكتب إنسانيته بسيف الإدانة للأعراف في مجتمع شحّت فيه حفنة أوكسجين ونضبت آبار الودّ.
كاتب وناقد سوريّ