طموحات بوتين الدولية أمام تحدّيات الاقتصاد الروسي!
سومر صالح
«أصبح الاقتصاد والمصالح الاقتصادية للدولة، الهدف الرئيس في مجال المنافسة العالمية. ويتزايد استخدام مجموعة واسعة من القيود الاقتصادية من قبل الدول الأجنبية لتحقيق أغراض جيوسياسية ومحلية». بهذه الكلمات لخّصت دائرة الصحافة التابعة لمجلس الأمن الروسي رؤية روسيا للصراع الدولي. فلا مكان للتنافس الايديولوجي كما كان سابقاً في حقبة الحرب الباردة، ولا نيّة للتوسّع العسكري لأغراض عقائدية في مواجهة مشاريع مضادّة. بل إنّه الاقتصاد محرّك الاستراتيجيات، وعلى هذا الأساس أقرّ الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين استراتيجية الأمن الاقتصادي لروسيا في الفترة حتى عام 2030، والتي تهدف، بحسب نصّ الوثيقة، إلى مواجهة تحدّيات الأمن الاقتصادي وتهديداته، والوقاية من الأزمة في احتياطات المواد الخام والمجالات الصناعية، والمجالات العلمية ـ التكنولوجية والمالية، وكذلك لمنع تدهور مستوى المعيشة. وهذا يدلّل على أنّ بوتين يجهّز روسيا لمرحلة انتقالية حتى عام 2030 ريثما تستعيد مكانتها الدولية في عالم متعدّد الأقطاب، أو أقله لا مكان للقطبية الأحادية. وتعدّ هذه المرحلة هي الأصعب منذ عام 1991، حيث ستستعر الحرب الاقتصادية على روسيا وربما أكثر. فاستعادة مكانة روسيا ليست مرتبطة فقط بإبراز العضلات العسكرية على أهميتها طبعاً، فتحديث 80 في المئة من الجيش الروسي يعدّ أساساً للانتقال نحو المنافسة الدولية، ولكنه غير كافٍ، إذ إنّ روسيا قوة دولية صاعدة وراغبة في إحداث التغيير في بنية النظام الدولي، ولكنها غير قادرة بمفردها على إحداث هذا التغيير. وهي بحاجة إلى تحالفات متينة مع قوى صاعدة أخرى كالصين التي تعدّ بدورها قوة دولية صاعدة ولكنها غير راغبة بهذا التغيير. وأيّ تحالفات سياسية أو حتى حوارات عميقة تجريها مع الولايات المتحدة مثلاً لا تستند إلى شبكة «أمان اقتصادية»، فهي حكماً عرضة للتقلبات والتجاذبات السياسية. لذلك رأينا تشبيكاً اقتصادياً روسياً ـ صينياً بمئات المليارات من الدولارات، وآخره خطوط الطاقة الروسية إلى الصين. بينما العلاقة الاقتصادية الروسية ـ الأميركية لا يُبنى عليها لتأسيس حوار أو تفاوض حقيقي يفضي إلى نتائج مستقرّة على عكس العلاقات الصينية ـ الأميركية. فهل الاقتصاد الروسي الذي يستند إلى موارد الطاقة بشكلٍ مكثّف يؤهّل القيادة الروسية لقيادة منافسة دولية شرسة على إحداث تغيير في نسقها الدولي؟
حقيقة، أرقام الاقتصاد غير مشجّعة أو تبعث على التفاؤل، فتراجُع الاقتصاد الروسي عام 2016 ككل بنسبة 0.6 في المئة، ونموُّه بنسبة 0.5 في المئة على أساس سنوي 2017، سيعرقلان المهمة الروسية الدولية، التي يعتمد اقتصادها بنسبة 50 في المئة على واردات قطاع الطاقة، وبدرجة مهمة على صادرات سوق السلاح الدولي حيث حافظت روسيا في السنوات الستّ الأخيرة على المركز الثاني عالمياً كأكبر مصدر للأسلحة بعد الولايات المتحدة الأميركية. إّ جاوز المبلغ الإجمالي لتلك المبيعات 15 مليار دولار، وتم توقيع عقود جديدة بنحو 14 مليار دولار لمدة خمسة سنوات مقبلة، ناهيك عن اعتماد الاقتصاد الروسي على سوقَي الطاقة والسلاح كقاعدتين رئيستين له وبدرجة أقل على صادرات روسية من المعدن الخام.
وتواجه هذه الأسواق وفرة في العرض، وهو أمر ليس إيجابياً بدرجة كبيرة نظراً إلى حجم تأثير المنافسة والصراع الدولي عليهما، وهو ما عانى منه الاقتصاد الروسي مؤخراً بفعل السياسات السعودية بزيادة انتاج النفط الخام وتخفيض الأسعار في حرب الطاقة على روسيا منذ عام 2015، في نموذج يحاكي أواخر الحقبة السوفياتية. وفي سوق الغاز الدولي تجري حروب في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لمدّ أنابيب غاز إلى أوروبا لكسر الهيمنة الروسية على تلك السوق، سواء بخطوط شرق المتوسط إلى أوروبا مباشرة، أو إعادة إحياء خطّ «نابوكو» في تركيا. وفي المقابل أيضاً تفعيل خطّ أنابيب المغرب العربي ـ أوروبا MEG ، لنقل الغاز الأفريقي إلى أوروبا، وهو ما اضطرّ شركة «غاز بروم» الروسية إلى خوض معارك استثمارية ضخمة لتلافي هذه المشاريع سواء في مصر حقل ظهر ، أو المغرب. وهو ما نجحت به حتّى الآن، ولكنه يبقي الاقتصاد الروسي غير مستقرّ، وبالتالي إذا ما أرادت روسيا الانتقال إلى وضعية جديدة في النظام الدولي ينبغي لها تجاوز عقبات الاقتصاد بشقّيه الداخلي والخارجي، والداخلي أهمّ من الخارجي. حيث تخوض روسيا صراعات ومنافسات دولية على أماكن تمركز الجغرافيا الاقتصادية الحيوية الدولية كسورية والمغرب وباب المندب وسابقاً القرم، وتجري إرهاصات لصراع مع الولايات المتحدة على آلاسكا والقطب المتجمد، ولا يخفى سرّاً القول أنّ حلفاء روسيا الإقليميين ينافسونها في قطاع الطاقة ذاته، وهو أمر يعقّد الحسابات الاقتصادية الروسية لصالح إبقاء هذه التحالفات، إيران مثلاً.
وبالانتقال إلى الوضع الاقتصادي الداخلي، فالأمر شديد الحساسية في روسيا. خلال ربع القرن الماضي، أفلست آلاف المصانع الكبيرة ولأسباب مختلفة، وذلك بحسب الإحصاءات الصادرة عن وزارة الصناعة والتجارة في روسيا الاتحادية. وبتعبير آخر اختفت آلاف مصانع عن الخارطة الاقتصادية الروسية، وعلى سبيل المثال مئات مصانع السيارات الثقيلة. ومؤخراً انسحب من 3 إلى 6 مصانع للسيارات، وذلك بسبب نقص الطلب على بعض موديلات السيارات، يذكر أن شركة «GM» قد غادرت السنة الماضية السوق الروسية، ولحقتها شركة «تويوتا» اليابانية التي تخلّت عن إنتاج موديل «لاند كروزر برادو». وشركة «سانغ يونغ» الصينية التي أوقفت تجميع سياراتها في الشرق الأقصى الروسي. وأدّت عمليات الإفلاس التي جرت على مدى العامين الماضيين 2015/2016 تقريباً إلى تعطيل مصانع إنتاج رافعات سكك الحديد والمعدّات الأخرى المرتبطة بها «كيروف» «KMZ 1» الحكومية، وهي كانت المنافس الوحيد لمصنع «لايبزيغ» النمسوي، الذي يسعى منذ تسعينات القرن الماضي إلى الحصول على موطأ قدم في السوق الروسية سواء في توفير المنتجات الجاهزة أو افتتاح مصانع تجميع من دون نقل تكنولوجيا أنواع رئيسية من الملحقات والمكوّنات، والتي بطبيعة الحال لا تتناسب مع الجانب الروسي. وفاوضت هذه الشركة النمسوية/الألمانية الجهات الحكومية التي تمثّلها شركة سكك الحديد الروسية من أجل تحديث وتطوير مئات الرافعات القديمة، وذلك بحسب المعلومات الصادرة عن مجموعة العمل التي قامت بالتفاوض. وتوقفت دول عدّة في آسيا وأوروبا عن دعوة «KMZ 1» للمشاركة في مناقصات لتوريد وإصلاح السيارات من هذه الفئة. وفي المحصلة إنّ إغلاق مؤسّسة «ك أم زد 1» لا يشكل خطراً كارثياً على الاقتصاد الروسي فحسب، بل على الأمن القومي في روسيا الاتحادية ككل، لحساسية هذا القطاع الحيوي في روسيا.
ومن هنا نرى أن رافعات السكك الحديدية تلعب اليوم وفي المستقبل دوراً هاماً في تطوير الخطوط الحديدية، ومرافق لوجستية أخرى. بل أكثر من ذلك، خصوصاً عند حدوث أيّ حالة طارئة في مثل هذا القطاع الهام لأيّ دولة. وهو نموذج معرّض للتكرار في روسيا، في قطاعات أخرى.
وعلى رغم بعض المؤشرات الإيجابية في الاقتصاد الروسي، إلا أنّه ما زال بحاجة ماسّة إلى إصلاحات هيكلية تضمن النموّ الاقتصادي المستقر، وتحفيز الصناعات الوطنية الروسية، لتوفير مقومات الصمود لهذه الصناعات أمام منافسة صعبة بمواجهة الشركات المتعددة الجنسيات التي بدأت بغزو الأسواق الروسية بعد انضمام روسيا لمنظمة التجارة العالمية. فمنذ عام 2014، والاقتصاد الروسي يعاني حالة ركود، تشكل عراقيل في وجه الرغبة الروسية في بلوغ القطبية الدولية المتعدّدة التي تكرّر ذكرها على ألسنة ممثلي روسيا في مجلس الأمن في مناقشات تخصّ الأزمتين السورية والأوكرانية، خصوصاً أنّ موسكو مقبلةٌ على سباق تسلّح نوعيّ لا كمّي. فالقوة والتطوّر اللذان يبديهما السلاح النوعي الروسي سيحفّز الولايات المتحدة على إطلاق سباق كهذا. ومشاريع عسكرية روسية ضخمة كالغواصة «ليوبارد» النووية حاملة صواريخ «كاليبر كروز»، إضافة إلى سعي روسيا لامتلاك الغواصات النووية ذاتية القيادة وحاملة الطائرات الروسية النووية المستقبلية «شتورم»، واحتمال دخول الولايات المتحدة في سباق تسلح ضدّ هذه المشاريع الروسية، أمور تحتاج إلى بنى اقتصادية مستقرّة وإلّا ستنعكس سلباً على مستوى المعيشة في روسيا، لا سيما أنّ محاولات أميركية حثيثة لإقحام موسكو في حروب استنزاف عسكرية في سورية وأوكرانيا وربما تتطوّر إلى أفغانستان قريباً.
ختاماً، الدبلوماسية الاقتصادية الروسية قد تنعكس سلباً على الاقتصاد الروسي ما لم تُدعَم بنى الاقتصاد الروسي من جهة، و من جهة أخرى المستثمر الروسي الذي يعاني التمييز ضدّه في أسواق الاستثمار الدولية. فهل ستحلّ رؤية السيد بوتين للأمن الاقتصادي تلك الإشكاليات وتذلّل العراقيل؟ نعتقد أنّ شعوباً مستضعفة كثيرة تأمل ذلك، لمساعدة روسيا في تحقيق التوازن الدولي الذي يتطلّب بنية اقتصادية روسية متينة.