السعودية وأميركا… التلاعب مع مكر التاريخ

طارق الأحمد

أجدني في معركة الوعي التي أعتقد بأنها هي أمّ المعارك دوناً عن أيّ معركة أخرى خضناها في هذا العالم المشوّش، مضطراً أن أخوض في الحديث عما جرى في السعودية بين ولي ولي العهد محمد بن سلمان والرئيس ترامب، من وجهة نظر، قلما وجدت أنّ المقاربات قد ذهبت إليها… خاصة بعد أن ملأنا الدنيا بشعار/ نفط العرب للعرب/ ولم نحصد منه سوى خسارتنا زيتوننا والمشمش والدراق والقمح والياسمين… الذي كان هو الغنى الحقيقي لبلادنا ولم نكن بحاجة بشكل ما من الأشكال لنفطهم… حيث كانت بلادنا السورية هي الغنية… وجاء المدّ الخليجي في التدخل في بلادنا كي يغيّر من طبيعتها… ويدخل التصحّر الفكري والثقافي إلى مفاهيمنا مما أدّى إلى كلّ ذلك التشرذم الثقافي الذي وصل إلى أقاصي سوريتنا وجرى ما جرى…

بالعودة إلى العنوان فإنّ الأربعمئة وستين مليار دولار من وجهة نظر كثير من الأقلام التي تكتب هو مبلغ تدفعه السعودية للولايات المتحدة الأميركية، لكن من وجهة نظر مَن عمل على هذا المشروع الكبير، فهي الدية الصغيرة التي خففت من دفع الثمن الكبير وهو يعني بأنّ الولايات المتحدة الأميركية قد اكتفت بمبلغ النصف تريليون دولار من أجل أن تتوقف ولو موقتاً، ولكن موقتا بعمر أزمان الدول وليس بعمر أزمان الأشخاص، عن المشروع الكبير الذي كاد أن يكون تقسيم السعودية أو تفكيكها وبشكل ما أو بآخر، فهو إنهاء عمر هذه الدولة التي بدأت منذ قرن سابق، وإنّ هذا الأمر بالنسبة لحكام السعودية هو نصر كبير وهو الغاية الكبرى وهو نصر يحققه ولي ولي العهد محمد بن سلمان كمشروع أساسي قام به لأول مرة منذ تاريخ تأسيس المملكة على يد الجدّ بتحويلها من الحكم الأفقي بين أبناء الملك عبد العزيز آل سعود إلى الذهاب الشاقولي باتجاه أبنائه أو أحفاده لأول مرة، وهذا ما يؤهّلها بالدخول في حقبة جديدة من العمر من دون الدخول في مشاريع التقسيم أو إنهاء عمر الدولة. وهذا يُقاس بعمر الدول…

إنّ الحكام السعوديين ومنذ التحضيرات لاحتلال العراق 2003 مسكونون بهاجس تقسيم المملكة السعودية الذي كتب ملياً في صفحات أكثر من صحيفة أميركية هامة. وقد تمّ تناول هذا الأمر كثيراً. وهم على دراية بأنّ الموضوع هو نهب لعديد المشاريع سواء التي تحضر في الدراسات أو دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة الأميركية، حيث لا يكون هناك وجهة نظر وحيدة فقط اتجاه أيّ موضوع، وإنما أيّ مشروع تتمّ دراسته ووضعه على التنفيذ هو يشبه تماماً المقاولة التي تتعهّدها إحدى الشركات وتقدّم عطاءها وتقدّم مواصفاتها الفنية والسعرية المالية، وكيفية تحقيق هذا المشروع. وهم كانوا بصدد محاولة ثني هذا المشروع عن أن يتمّ تنفيذه…

وهذا ما استشعروه منذ خلع الرئيس التونسي زين العابدين بن علي وقاموا باستضافته لديهم ثم محاولتهم لمنع تطوّر الأمر في مصر وخلع حليفهم حسني مبارك، ولكنهم عملوا على محاولة درء موجة ما سمّي بالربيع العربي، لاختراق السعودية ودول الخليج، بالعمل على نفخ نار ذلك الربيع الذي فهموه جيداً كي يذهب باتجاه سورية بالدرجة الأولى… ولكي يركبوا موجتها بدلاً من أن تركبهم هي… ويحوّلوا الربيع شتاء أو خريفاً بالمفهوم الذي يفهمونه هم… بمعنى أن يحوّلوا الأحداث أحداثاً حربية بامتياز… يقومون هم بتغذيتها ويتحكّمون بها ويحاولون أن يطيلوا من عمر عروشهم قدر المستطاع…

من وجهة نظر ولي ولي العهد محمد بن سلمان، فهو يعتبر بأنّ صراعه الأساسي صراع داخلي مع ولي العهد محمد بن نايف ثم مع باقي أركان الحكم، خاصة أنه قاد الحرب على اليمن في مراهنة مجنونة كادت أسهمه حتى في الداخل الذي لا يظهر إلى العلن ولا إلى العيان، كادت أن تطيح برأسه، وكادت أن تصل أسهمه بين أقرانه أحياناً إلى الصفر، ثم تصعد وتهبط في تخبّط عشوائي كبير وحتى على صعيد الاقتصاد الذي كانت تمرّ به المملكة السعودية بتخبّط كبير، فطاول حتى كبريات الشركات لديها والقريبة جداً من العائلة الحاكمة، لكن هو راهن على المشروع الأكبر الذي ابتدأ بعمله على تثبيت زعامته الحقيقية في صنع القرار، وصولاً إلى الحالة التي يراهن فيها على تثبيته ملكاً قادماً للسعودية. وهو المشروع الذي لم يستطع حتى الآن، أو لم يحن الوقت المناسب كي يتثبّت لكنه يعتقد بأنه قد استكمل العدد الأكبر من المعطيات التي يمكن أن توصله إلى هذه الغاية الأساسية.

أما الغاية الثانية فهي الغاية الاستراتيجية الكبرى التي تقاس بعمر الممالك والدول. وهي أنه الآن وبهذه الانعطافة الكبيرة قد استطاع ثني المشروع أو أكثر من مشروع لأكثر من صيغة أميركية غربية حقيقية تقول بأنّ عمر استخدام المملكة السعودية وما حولها من ممالك قد شارف على الانتهاء. وبالتالي علينا محاولة إيجاد صيغة جديدة لهذا الأمر من ضمنها كتحصيل لحاصل هو تحصيل تلك المدخرات التي تقدّر بتريليونات الدولارات في بنوكنا لهذه العائلات الحاكمة، والتي تشبه تماماً ما فعلوه بليبيا، فقد تمّ قتل القذافي وتجريد كلّ ما لدى ليبيا من أموال وتركوا الدولة في تدمير داخلي، بأشكال متنوّعة. وبالتالي فقد وجد محمد بن سلمان والسعوديون هذا النموذج أمام أعينهم، فعملوا في ما يتعلق بالتعاطي مع إدارة ترامب على ثني المشروع والمراهنة على محاولة تطبيق مشروع آخر.

يمكن الملاحظة هنا أنّ هذا الموضوع الذي يتعلق بالدخول في عمق الإدارة الأميركية ودوائر صنع قرارها هو ليس موضوعاً بسيطاً أو يمكن تبسيطه بمعنى أنه حديث بين سياسي وسياسي آخر، وإنما هو جملة من التشابكات التي تبدأ بالعمل من خلال مراكز القوى والنفوذ لدى التابع والمتبوع هنا. التابع الذي هو السعودية والمتبوع الذي هو الولايات المتحدة الأميركية. وليس من البديهي ما يتمّ التفكير فيه للبعض تبسيطاً الذي يعتقد أن طالما أنّ العلاقة تبعية فإنّ المتبوع الذي هو الولايات المتحدة الأميركية سوف تحافظ على هذا التابع، بشكل دائم، لكن العكس هو الصحيح هو أنّ علاقة التبعية هي علاقة نفعية محدّدة بزمن. وبالتالي فقد عمل السعوديون على تقييد المشروع الذي عرفوا أنه سوف يأتي على عرشهم، وهو محاولة الذهاب باتجاه مشروع من نمط آخر وهم عرفوا أنّ ثمناً كبيراً يجب أن يدفع لقاء هذا الأمر وانّ فرحهم وسرورهم البادي على وجوههم لدفعهم لنصف تريليون دولار هو فرح طبيعي يعرفون من خلاله أولاً أنهم عرفوا الرقم الذي يجب عليهم دفعه، سواء أكان هذا المبلغ أو حتى أكثر من ذلك، ليس مهمّاً بالنسبة لهم، لكنهم عرفوا ما هي خريطة الطريق بالنسبة لمستقبلهم، وهم فرحون ومسرورون بالرقم الذي بقي لهم في خزائنهم وليس الذي دفعوه.

هنا، وفي الحديث عن المال السعودي في الخزائن الأميركية وغيرها يجب إدراك عائدية هذا المال من وجهة نظر المخطط المالي والإمبريالي، أيضاً وفق تحليله هو لعائدية هذا المال. وهو أنّ هذا المال هو ليس مال السعودية وإنما هذا المال هو مال ألمانيا ومال أوروبا الغربية. وهي أموال الصين وأموال الهند وأموال اليابان وأموال الدول المنتجة والمستهلكة للطاقة بشكل كبير. وطبعاً كي لا يذهب أحد بالتفكير بعيداً هي ليست أموال العالم وأموال دول العالم الثالث، لأنّ دول العالم الثالث هي دول تأكل وتشرب فقط وتعيش أزمانها القزمة في الحياة التي بعضها لا يزيد عن عقد من الزمان أو عن جيل من الزمان، إذا اعتبرنا أنّ العقد هو عشر سنوات والجيل هو 25 عاماً أو أقلّ وأغلبها لا يزيد عن ذلك إلى أن تحقق الدولة الأمة وتحقق نهضتها. وهذا ما لم تفعله سوى دول بعينها كالصين وروسيا والهند وفي الطريق أن تفعله إيران ودول أخرى، ولكن باقي الدول هي لا تزال في دوامة أن تعيش فترات ازدهار لا تعدو كونها دورات ازدهار قصيرة جداً، وبالتالي هي إلى الآن تعيش على الهامش في صنع الحضارة الإنسانية.

النظرية المالية الإمبريالية التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية تقول إنّ حوامل الطاقة وخاصة النفط هي الطريقة المثلى حالياً من أجل جعل الدول الشريكة لها، أيّ الدول المنتجة كألمانيا واليابان والصين أن تدفع ضريبة غالية لقاء هيمنة الولايات المتحدة الأميركية بالسلاح على العالم، ولكن لا توجد آليات أكثر وضوحاً من آلية دفع هذه الدول للضرائب التي عليها للخزائن الأميركية، سواء عن طريق حوامل الطاقة، وذلك بأن يدفعوها لدولة مثل السعودية وغيرها من الدول المنتجة للنفط لقاء سعر عال لبرميل النفط الذي يتمّ رفع أسعاره لفترة من الزمن وملء خزائن الولايات المتحدة الأميركية بذلك المال لحساب تلك الدولة التابعة أو تلك العائلة التابعة لفترة من الزمن، على أن تتمّ كلّ فترة إعادة جدولة هذه العملية عن طريق الحروب أو أيّ طريق آخر أو قتل هؤلاء الحكام أو تغيير مصائر هذه الدول، ثم إعادة شرعنة إدخال هذا المال مع شرعيته بحسابات الولايات المتحدة الأميركية وشركاتها التابعة. ومن خلال كلّ هذه الدورات الكبيرة التي نراها في العالم، إذاً هي عملية تدويرية لهذا المال بهذه الطريقة، حيث لا توجد طريقة أخرى. ويجب أن يتمّ هذا الأمر من وجهة النظر الأميركية.

بالقناعة الراسخة للكثير من السعوديين الذين لا يصرّحون ولا يعترفون بهذا الأمر، لكنهم بممارستهم وعدد منهم يعلمون هذه المعادلة ويمارسونها بالشكل الطبيعي والفطري وهم يقبلونها بشكل حقيقي، ولكن المشكلة تكمن في أنّ ما يظهر على الشاشات وما يُكتب بالأقلام الصحافية هو في سياق آخر يتعلّق بما هو معلن، من أنّ هذا المال هو مال سعودي وهو مال عربي إلخ… وأنا أجد أنّ الوقت قد حان كي نفكّر بطريقة أكثر وعياً في هذا الأمر. ولكنه لا يتعلّق أبداً بالتبرير لهذا الأمر، لأنّ مَن يعتقد بأننا نفكر هكذا كي نبرّر ما يفعلون يكون قد أخذ المنحى الساذج بالتعاطي مع الموضوع وإنما أعتقد بأنّ المعركة التي نخوضها هي معركة وعي بامتياز قبل أن يكون أيّ شيء من أجل أن نعلم تماماً مواضع القوة ومواضع الضعف في خطابنا وفي ممارستنا من أجل أن نعلم كيف يجب علينا أن نخطط نحن لما يجب أن نفعله وليس أن نبقى في إطار ردات الفعل لما يفعله الآخرون.

وفي النهاية فإني أعتقد بأنّ العالم مدعوّ بقواه الحزبية، أولاً لأنها البنى التي يفترض أن تكون قادرة على التغيير، وعلى الفعل… ومن خلفها طبعاً الأقلام المفكرة الناضجة ثم القوى الاجتماعية، كي تتوصل إلى فهم استشرافي للمستقبل… مبنيّ على الوعي أولاً والذي يجب أن يتعاطى مع الشأن بدرجة تختلف عن التعاطي البسيط كما جرى في التعاطي مع الحدث الأميركي. ثم كي تبدأ بعد مرحلة الوعي اللازمة كي تضع هي خطط مواجهة حقيقية تعتمد فيها على التنبيه المبكر للدول التي سوف تضربها الأزمات والأحداث وأن ترسم سياسات تفعيل المصالح المشتركة بينها، وأعطي مثالاً واحداً على هذا الأمر في أننا خسرنا خلال السنتين الماضيتين فقط حكومات قوية جابهت الولايات المتحدة الأميركية في فنزويلا والبرازيل والأرجنتين. وهذا ما يدعونا كي نقول بأنّ معركة الوعي المسبق تحتاج الكثير من الشجاعة في التطرّق إلى السلبيات التي توجد في خطابنا واستقرائنا في إطار نقدي هادف، بعيداً عن المزايدين، لأنّ الطرف المقابل لا يزال سباقاً في طرح مشاريعه التدميرية مع الأسف بأبخس التكاليف.

عضو المكتب السياسي للحزب السوري القومي الاجتماعي في الشام

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى