لعبة الفرص الضائعة
فادي عبّود
لن أُعيد قصّة إبريق الزيت عن هواية لبنان في تضييع الفرص الذهبية، فهو نهجٌ اعتدنا عليه وباتَ من خبزِنا اليومي لأنّنا نرتضي في كلّ مرّة أن نعتمد حلولاً منقوصة لا جذرية، وأن نَعمد إلى تسكين الألم بدلاً من مداواته، وإذا اضطرَّ الأمر إلى إجراء جراحة أساسية، فتأتي حلولنا لمعالجة أزمة مُزمنة بمثابة إبرة مورفين تُعطى لإسكات المريض، وإطالة إقامته في المستشفى لأنّ صاحب المستشفى معروف.
لو كُتب لسلسلة الرتب والرواتب الولادة في جلسة الأربعاء، فأقلّ ما يُقال فيها إنها ستكون فرصة ضائعة حقيقيّة لفرض الإصلاح في البلد، الإصلاح الموعود الذي بات يتيماً، من دون أن يتبنّاه أحد، ووعود الإصلاح التي ضاعَت في ظل التقاتل السياسي، والخوف الأمني والتهديد الداعشي. والأنكى من كلّ ذلك أنّ بعض الكتل اختصر الموضوع الإصلاحي بمناقشة عدد الدرجات أو الدوام مع غياب كلّي لتحفيز الإنتاجية والإصلاحات الأساسية في البنية الاقتصادية وفي وظيفة القطاع العام. نعم كانت السلسلة لتشكل فرصة حقيقية لفرض الإصلاح فرضاً مقابل التقديمات، فلا توجد أيّ دولة في العالم، حتى الأسوأ أداءً في الاقتصاد، لا تزاوج بين التقديمات مهما كانت محقة، والإصلاحات.
أما نحن، فنقدم اليوم صيغة منقوصة للسلسلة، إن على مستوى الإيرادات الضرائبية وإن على مستوى الإصلاحات. فاعتماد السلسلة على زيادة الواحد في المئة على ضريبة القيمة المضافة كأحد مصادر التمويل، وزيادة الضريبة على الإيداعات المصرفية، وهذه ستطاول صغار المودعين وليس فقط الودائع الكبيرة، هو اعتماد الطريق الأسهل لجباية الضرائب وتكبيد الناس أعباء إضافية تُضاف إلى أعبائهم اليومية، علماً أنّ حجم الأعمال التجارية الخارجة عن منظومة الـTVA أصبح يشكل نحو 40 في المئة من العمليات التجارية في لبنان، وأنّ إدارة الـTVA نفسها تحتاج إلى إصلاح ودرس معمّق عن نسبة المكلفين مع استمرار التهرّب الضريبي واستمرار شركات غير مسجّلة في الـTVA في استيراد كميات تجارية.
وكما هو مقدّر، سيُؤمن فرض الواحد في المئة زيادة على الـTVA إيرادات سنوية بنحو 200 مليون دولار، وهو مبلغ كان يمكن تأمينه بوسائل عدة، مثلاً إيرادات مرفأ بيروت، وهي إيرادات لا تدخل إلى الخزينة العامة! إنّ إدارة المرفأ تُعتبر إدارة مستقلة، بالتالي لا تتحوّل الرسوم السيادية التي يتقاضاها المرفأ إلى خزينة الدولة مباشرة بل تخضع لإدارة المرفأ، ويتمّ تحويل جزء بسيط إلى وزارة المال وإلى المالية العامة بحجة المشاريع المنفّذة في المرفأ، علماً أنه من المفروض تنفيذ مشاريع تحديث المرفأ من خلال قوانين برامج تخضع لرقابة مجلس الوزراء وقانون المحاسبة العامة. واللافت هنا أنّ اعتماد مبدأ شمولية الموازنة، منع العديدَ من الإدارات من جباية رسوم مباشرة لإيجاد مداخيل مباشرة، بينما يسمح لإدارة المرفأ بذلك، علماً أنّ الرسوم ليست لقاءَ خدمة بل حسب نوع البضاعة. فمثلاً وصلت مداخيل مرفأ بيروت في عام 2012 إلى 175 مليون دولار، ودخل إلى خزينة الدولة صفر، فأين ذهبت هذه المبالغ وبموجب أيّ قوانين صُرفت؟
أما بالنسبة إلى التحسين العقاري والغرامات على الأملاك البحرية، فكيف سيتمّ احتسابها وبأيّ تخمين؟ والمَعروف في لبنان وجود تلاعب بالتخمين ترافقه رشاوى، وبذلك ستتضاعف الإيرادات المتوقعة، إذ اعتُمد تخمين مركزي يُحدّد قيمة العقارات في كل لبنان.
لقد اعتمَد تحصيل الإيرادات على الصيغ الأسهل والتي لا تحتاج إلى ابتكار، فتمّ تجاهل حلول كثيرة ذكرناها وردّدناها دائماً، ربما منها الكسارات وفرض ضريبة على أعمالها، ولكن يبدو أنّه ممنوع المساس بهذه الأعمال، المعروف مَن يستفيد منها، ومن الأسهل المساس بجيوب المواطنين، فالتوافق السياسي يمنع السؤال عن عشرات مزاريب الهدر ووضع اليد على المال العام والاحتكارات على أشكالها وأنواعها العامة والخاصة.
أين الإيرادات الضريبية التي يأتي معها تطبيق قوانين أساسية تخصّ سلامة المواطن؟ أين قانون منع التدخين وفرض غرامات كبيرة على المخالفين؟ أين قانون السير؟ هل الخطر الداعشي يمنعنا من تطبيق هذه القوانين؟ ألم نحتسب الإيرادات التي ستؤمّنها هذه المخالفات وفي الوقت عينه تساهم في فرض القانون في ظلّ مجتمع تربّى على الفوضى؟
ألم تتفتق العبقرية اللبنانية إلّا على زيادة ضريبة القيمة المضافة وبعدها نتبختر زهواً أننا أوجدنا الحلول؟ إنّ الإيرادات الضرائبية يجب أن تُهندَس لزيادة الإنتاجية وليس فقط للجباية، فالحكومة ليست السلطنة العثمانية لتجبي عشوائياً، ويجب أن تترافق الخطة الضرائبية برؤية لإصلاح المجتمع وتعزيز الإنتاج وحماية البيئة.
أين الاقتراحات التي قدمناها من خلال مناقشة الموازنة وقد تمّ التعاطي معها من باب المصالح ليس إلّا؟
أما الإصلاحات التي بشرت بها السلسلة، فتلخّصت بنقطتين: تعديل الدوام الرسمي وتوقيف التوظيف على مدى سنتين، وعدم إعطاء الدرجات لمعلمي القطاع الخاص.
إذاً فإنّ تعثر الإنتاجية في القطاع العام تُلخَّص في الدوام حصراً وكأنّ مشكلتنا تكمن هناك. فقبل تعديل الدوام هل فكرنا كيف سيُضبط هذا الدوام؟ ويضبط حضور الموظفين؟ وكيف سيتم تقويم الأداء وما زلنا نعتبر الزيادة حقاً مقدّساً يساوي بين الموظف المجتهد وبين الذي يبقى في منزله ولا يعمل، والاثنان يتمتعان بالتقديمات نفسها؟ هل مشكلة الدوام هي التي ستُكافح الرشاوى في الإدارات التي وصلت إلى درجة بات معها صيت لبنان دولياً من الأسوأ في سهولة القيام بالأعمال؟
أما قرار توقيف التوظيف لسنتين، فيبدو كاعتراف ضمني بأنّ الإدارة العامة مشلولة ولا أمل في إحيائها إلّا بوضعها في الكوما لمدة سنتين. فأيّ قرار إداري يوقف التوظيف لسنتين؟ ألن تحتاج الإدارات إلى خبرات أو وظائف؟ هل هكذا تكون الثورة المرتقبة في الإدارات العامة؟ وبدلاً من ذلك، لماذا لا يُفتح باب الاستغناء عن الخدمات لِمَن لا يُنتج؟ وهل الزواج الماروني في وظائف القطاع العام يؤدي إلى إنتاجية مقبولة؟ فكلّ بلد اعتمد حرية الاستخدام والاستغناء عن الخدمات تحسّنت فيه الإنتاجية وزادت فرص العمل المنتج.
ماذا بالنسبة إلى النقاط والقوانين الإصلاحية الأخرى؟ لماذا تمّ التغاضي عن الإصلاحات الموعودة في قطاع التعليم الرسمي؟ وهل سيبقى منح الدرجات تلقائياً من دون تحليل النتائج؟ وهل سيتمّ تحليل نسبة المعلمين مقابل عدد التلاميذ؟ وهل سيبقى أستاذ المدرسة الرسمية يرسل أولاده إلى المدرسة الخاصة وتدفع له الدولة مقابل ذلك؟ وهل ستبقى الفتاة العازب أو المطلّقة تتقاضى معاش والدها مدى الحياة، ما يشجعها على البقاء عاطلة من العمل؟
أين الإصلاحات المطلوبة لصناديق التقاعد والمطالبة بفصلها عن الموازنة وأن يؤمّن لها التمويل بطريقة منفصلة عن المالية العامة، خصوصاً أنّ كل صناديق التقاعد حول العالم باتت تعاني أزمات في التمويل؟ فهل سنستمرّ في تأمين التقاعد من الموازنة العامة وعدد المتقاعدين وزيادتهم السنوية سرّ من أسرار الدولة النووية؟ لا يوجد مسؤول في لبنان يستطيع أن يُحدّد بدقة كلفة المعاشات التقاعدية مثلاً سنة 2020.
نعم، لقد زدنا على فرصنا الضائعة فرصة إضافية، وستضيع هذه الزيادة في خضم الأعباء الضريبية والتضخّم، وستزداد أزمة الموظف، وستزداد الهجرة بغياب فرص الإنتاج وعدم تكبير حجم الاقتصاد، وكلّ سنة ستأتي المطالبة بزيادة أخرى وستكون الأوضاع الاقتصادية أكثر تردِّياً.
ليفكر الجميع بعقلانية ورؤية واضحة، إن لم نبنِ اقتصادنا اليوم على أسس سليمة سنسير نحو الهاوية، واللافت أنّ الشؤون الاقتصادية باتت يتيمة. فكلّ الكتل السياسية هجَرتها، وبات همّ الكتل إيجاد حلٍّ سريع يُنقذ ماء الوجه للحفاظ على المراكز، أما مستقبل الشباب الذي باتت تتزايد أعداده أمام السفارات، فهذا الهمّ في مكان آخر.
وزير سابق