استقلال لبنان الثاني

أسامة العرب

إن استعادة تاريخ الاجتياحات «الإسرائيلية» للأراضي اللبنانية منذ نشوء الحزام الأمني عام 1978 حتى الخروج الكبير عام 2000 تكشف الكثير عن أهمية عيد المقاومة والتحرير الذي يحلو للبعض أن يقلل من أهميته أو يحطّ من قدره، متناسياً جهود المقاومين الجبّارة التي أدّت إلى انسحاب العدو «الإسرائيلي» من أراضينا، ولإعلان استقلال لبنان الثاني في عهد الرؤساء إميل لحود ونبيه بري وسليم الحص.

والحقيقة أن المجازر «الإسرائيلية» في لبنان بدأت عام 1948 بمجزرة مسجد صلحا الجنوبية الذي حوّلته حمام من الدماء، ومجزرة حولا التي أدّت إلى إعدام سكان القرية بالكامل، ودفن العشرات منهم في قبور جماعية، حيث نقلت جثثهم لاحقاً إلى مقبرة يُطلق عليها اليوم اسم تربة الشهداء. ومجزرة حولا الثانية ومجزرة حانين عام 1967 ومجزرة يارين عام 1974، ومجزرتي عيترون في 1975، ومجزرة بنت جبيل 1976. والمذابح لا تنفك عن الاشتداد قسوة مع كل اجتياج «إسرائيلي» للبنان، ذلك أن العقيدة «الإسرائيلية» لا تؤمن بحدود ثابتة لدولتها المتوسّعة، وما أدلّ على ذلك سوى أن الأمم المتحدة اعترفت في قرار التقسيم الرقم 181 بدولة يهودية من دون أن تلزمها منذ ذلك الحين بحدود ثابتة. وهذا ما يفسّر سبب توسيع إسرائيل عملياتها العسكرية على الدول المجاورة، لا سيما على لبنان بالعملية التي أطلقت عليها تسمية عملية الليطاني في 14 و 15 آذار 1978 مستهدفة 358 بلدة وقرية في أقضية بنت جبيل، مرجعيون، حاصبيا، صور، والنبطية.

كما ارتكبت «إسرائيل» وقتها المجازر المروّعة التالية: مجزرة الأوزاعي ومجزرة راشيا ومذبحة كونين ومجزرة عدلون ومجزرة الخيام ومجزرة العباسية. وفي التاسع عشر من نيسان عام 1979، أعلنت الميليشيات المتعاملة مع الاحتلال، والتي أطلقت عليها «اسرائيل» اسم «جيش لبنان الحر» منطقة الشريط المحتل منطقة «مستقلة» سُميت «بدولة لبنان الحر»، بقيادة العميل الخائن سعد حداد.

ولم تكفّ تلك المجازر، حكومة الاحتلال التي كان يرأسها آنذاك مناحيم بيغن، بل قرر تنفيذ عملية عسكرية واسعة النطاق في لبنان. وقد نشرت صحيفة هآرتس مؤخراً تقريراً تضمّن وثائق أمنية «إسرائيلية» تثبت حقيقة الحديث الذي دار خلال جلسة الحكومة الإسرائيلية التي عُقدت بتاريخ 5 حزيران 1982 تمهيداً لاجتياح لبنان، حيث تبيّن بأن الأهداف الحقيقية للاجتياح كانت تدور حول وجوب إخضاع لبنان بالكامل للسيطرة الأمنية «الإسرائيلية»، وتصفية وجود المقاومين فيه، وإرغامه على توقيع اتفاقية سلام معه.

وبكافة الأحوال، فإن اجتياح 82 أدى إلى اتساع الأعمال العسكرية العدوانية على لبنان وشمل مناطق عديدة حتى صيدا والسعديات والنبطية وحاصبيا والبقاع الغربي جواً وبحراً. حيث احتلّ «الإسرائيليون» قلعة الشقيف بعد محاولات عديدة، وحاولوا عزل مدينة صيدا، وجرت اشتباكات عنيفة بين القوات المشتركة و«الإسرائيليين». وفي 8 حزيران 82 امتد الغزو «الإسرائيلي» على مناطق الشوف حتى الباروك وعين زحلتا. في 13 حزيران 82 قامت القوات «الإسرائيلية» بمحاصرة بيروت، واستمر هذا الحصار إلى 28 آب، حيث قامت القوات «الإسرائيلية» بقصف بيروت لمدة 15 ساعة من القصف المتواصل وسمي ذلك اليوم بالأحد الأسود، حيث ألقت إسرائيل 185 ألف قذيفة على بيروت وأحيائها السكنية، وتمت تسوية معظم المدينة بالأرض، حيث استشهد أكثر من 30,000 مدني لبناني وأصيب أكثر من 40,000 شخص، وأكثر من نصف مليون شخص نزحوا عن بيروت.

وكان من تبعات الاحتلال ارتكاب مذبحة صبرا وشاتيلا على يد الجيش الصهيوني بتاريخ 16 أيلول 1982، حيث استفاق العالم على مذبحة من أبشع المذابح في تاريخ البشرية، ومن كثرة أعداد الشهداء لم تتمكن فرق الإغاثة من إحصاء عددهم، ولكن التقديرات تتراوح ما بين 3500 و5000 من الرجال والأطفال والنساء والشيوخ المدنيين العزل من السلاح.

وتلت ذلك مجازر عديدة ارتكبها الصهاينة أبرزها مجزرة سحمر ومجزرة بئر العبد ومجزرة إقليم التفاح. وبعد إقفال معسكر الاعتقال الشهير في منطقة أنصار عام 1985، أسس جيش لبنان الجنوبي معتقل الخيام الذي مورست فيه أشد أنواع التعذيب والتنكيل بحق المدنيين العزل الذين تجاوزت أعدادهم ألف معتقل في فترات لاحقة. في هذا المعتقل بالذات كانت توضع الأكياس والعصبات على وجوه الأسرى والقيود في أيديهم وأرجلهم، وكان العملاء يأمرونهم بأن يركعوا على الأرض ومن ثم يبدأون بجلدهم بالسوط، وعندما كانوا يتعبون كانوا يضعون أسلاك الكهرباء في أيديهم لتبدأ الصدمات الكهربائية، حيث يقول المحرّر البطل عبد الغريب بيضون والذي قضى ثلاثة عشر عاماً بالمعتقل، إن العملاء كانوا يضعون الأسلاك في أماكن من أجسام الأسرى والتي أصرّ على ذكرها حتى يعلم العالم مَن هي «اسرائيل» ومَن هم عملاؤها، والأماكن هي: الاذن و اللسان والأعضاء التناسلية، حيث يقول: «نعم في الأعضاء التناسلية لكي يشفى غليلهم وكانوا يردّدون عبارة لن ندعك تنجب أطفالاً بعد اليوم، لكي لا تربيهم على بغضنا وتحرضهم علينا. كما كانوا يأخذونا الى عمود الكهرباء ويوصلونا بقيد موصول بالعمود ويوقفونا، بحيث كانت أصابع أقدامنا فقط هي التي تلامس الأرض، ثم يبدأون بسكب الماء علينا بعد تعريتنا من الملابس، وتنزل العصي على أجسادنا، حتى يصل البعض الى حد فقدان الوعي والإغماء أثناء هذه العملية التي كانت تستمر مع البعض من أولى ساعات الليل حتى الفجر. كما كانوا يُقدمون على سحبنا بأرجلنا على الارض، ويقفون فوق سطح المبنى ويتبوّلون علينا. وكانوا يدخلون في مؤخرات البعض العصي وأفواه البنادق. كما كانوا يمارسون أسلوب التجويع والتعطيش، وينقلوننا الى غرف إفرادية، كل واحد في غرفة تبلغ مساحتها تسعين سنتمتراً طولاً وعرضاً، لم يكن في داخلها سوى دلو لقضاء حاجاتنا سعته خمسة ليترات، وكانوا يتركوننا في هذه الغرف ستين يوماً من دون أن نرى الشمس».

يبقى أن نذكر بأن ما تقدّم، لم يمنع «الإسرائيلي» من ارتكاب المجازر التالية مجزرة جباع ودير الزهراني والنبطية الفوقا وحرب السبعة أيام عام 1993، وكذلك العدوان «الإسرائيلي» على لبنان 1996 في عملية عناقيد الغضب التي كان أبرز وجوهها الدموية مذبحة قانا عام 1996.

ولكن بفعل عمليات المقاومة العسكرية التي بلغ متوسطها من 1989 وحتى 1991، 292 عملية، وفي الفترة بين عامي 1992 و1994 بلغت 465 عملية، أما في الفترة بين 1995 و1997 فقد بلغت تلك العمليات 936 عملية، وبفعل الخسائر الكبيرة التي مُني بها الاحتلال «الإسرائيلي» وعملاؤه في جنوب لبنان، انسحب الجيش «الإسرائيلي» في 25 أيار عام 2000 بسرعة مخلفاً وراءه الميليشيا الخائنة وطنها بقيادة العميل أنطوان لحد، لتواجه مصيرها المحتوم، وعندها تحقق استقلال لبنان الثاني، وانتهى زمن المجازر والمذابح، والانتهاكات «الإسرائيلية»، وتحرر الأسرى اللبنانيون، وعاد الأمان والاطمئنان ليخيّم على لبناننا الأبيّ من جديد.

ولذا نختم بالقول، أيّها المقاومون/ أيّها الأشراف، أنتم الذين حرّرتم وستتابعون تحرير المقدسات والإنسان والأرض، أنتم رجال الله الذين بكم انتصرنا وسنتابع تحقيق زمن الانتصارات، بدمائكم الزكية حميتم وستحمون العرض والشرف والكرامة، لا تنخدعوا باتفاقيات التقسيم والتجزئة التي فرّقت وأذلّت الأمة. فلسطين والقدس والأقصى تستغيث، وسنكون وتكونون في الصفوف الأمامية للتحرير، فإما التحرير الشامل وإما الشهادة، وبكلتيهما نحقق نصر الله المبين!

محامٍ، و…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى