وظيفة جحيم السماء أن نستمتع بجحيم الأرض! أيها المثقفون العرب أينكم…!؟
نصار إبراهيم
«انّ خير الناس يمكن أن يقسو قلبه بتأثير العادة فإذا به يصبح حيواناً كاسراً. وإنّ الدم والتسلط يُسكران فيولّدان التوحّش والشذوذ والفساد» فيودور دوستويفسكي .
حين يصبح قتل الإنسان والجمال في واقعنا اليومي عادة.. حين يصبح الجهل والفكر القاتل سلعة، وحين يغدو «الله» مجرد قاتل وسفاح على أيدي سماسرة الدين، حينها على الأدب والفنون والثقافة أن تنهض لمواجهة كلّ ما هو مشوّه وظالم وقاهر.
يعيش الإنسان العربي اليوم واقعاً هو الجحيم بذاته، حيث لم يعد يثق باللحظة.. لا يثق بنفسه ولا بالشعب ولا بالأمة ولا بالإنسانية، لا يثق بأمه وأخيه، ولا بجاره ولا بمعلمه، كلّ هذا يحدث الآن في ظلّ ثقافة القطع والقطيعة مع الذات ومع التاريخ ومع بديهة الإنسان.
الإنسان العربي ليس بحاجة لمن يشرح له ويعلّمه عن الجحيم، ذلك لأنه يعيش الآن في الجحيم..
جحيم التكفير، جحيم الطائفية، جحيم الجهل، جحيم القتل والذبح والحرق، جحيم الفقر والبطالة.. جحيم الاعتقال والنفي، جحيم التمييز.. جحيم الاحتقار.. جحيم الخضوع والتهميش.. جحيم الفساد، جحيم الشك، جحيم العجز، جحيم الاحتلال، جحيم الاستعمار، جحيم استغلال عمل الإنسان من قبل إنسان آخر، جحيم أن يملك 3 مليارات و600 مليون إنسان أقلّ مما يملك 9 أشخاص، جحيم احتقار المرأة، جحيم نهب ثروات الأمم والشعوب من قبل أفراد وسماسرة وقوادين، جحيم تدمير الأرض من أجل الربح، جحيم أن لا يكون هناك أيّ أمل في الأفق…
وبالملموس ايّ جحيم أسوأ من الجحيم الذي يعيشه الفلسطينيون تحت الاحتلال منذ سبعين عاماً، وأيّ جحيم أسوأ من تشريد واقتلاع 7 ملايين فلسطيني من أرضهم وبيوتهم ووطنهم! أيّ جحيم أسوأ من الجحيم الذي يعيش فيه ما يقارب 2 مليون فلسطيني في غزة تحت الحصار والتدمير منذ 10 سنوات! أيّ جحيم أسوأ من الجحيم الذي فتح أبوابه القتلة والذبّاحون واللصوص والسفلة لتدمير الشعب السوري العظيم منذ 6 سنوات..! أيّ جحيم أسوأ من الجحيم الذي ينفذه آل سعود وحلفاؤهم ضدّ شعب اليمن وأطفال اليمن منذ أكثر من سنتين! أيّ جحيم أسوأ من تدمير العراق وحصاره منذ أكثر من 14 عاما! وايّ جحيم أسوأ مما يعيش في نيرانه الشعب الليبي الشقيق، وأيّ جحيم أسوأ مما يعيشه المصريون وهم يواجهون القتل والتهديد؟
أيّ جحيم أسوأ من جحيم الموت غرقاً لعشرات آلاف المهاجرين في مياه البحور والمحيطات وهم يبحثون عن لقمة الخبز..!
فما الذي سيضيفه الشيخ أو الكاهن في حديثهم عن جحيم الآخرة أكثر من هذا الجحيم، فقط هم يغرقون الإنسان ويشلون قدرته على التفكير والمبادرة بترويعه وإشغاله بجحيم لم يأت بعد لكي ينسى ويسكت على الجحيم الذي يعيش فيه الآن، يبدعون في ملء مخياله بالرعب الذي ينتظره في الحياة الأخرى إن وجدت.. عذاب القبر، عذاب البعث، عذاب الحساب، عذاب الجحيم المطلق، لكي يصبح الجحيم الراهن مجرد تسلية واختبار لصبره أو لتدريبه على الجحيم الذي ينتظره في رحم الغيب.
يغرقونه بالرعب والجحيم منذ الآن، يفعلون كلّ ذلك دون أن ينتبهوا إلى أنهم أصبحوا بهذا جزء من هذا الجحيم المرعب، فجعلوا بذلك من الحياة ذاتها جحيماً فوق جحيمها.
هنا يصبح دور الثقافة والأدب والفنون حاسماً، هذه ليست يوتوبيا ورومانسية، بل هي مهمة ثقيلة تقع على عاتق المثقفين والكتاب والفنانين والإعلاميين.. هنا لا يفيد التردّد والالتباس والجبن والارتباك.
ولكي يكون ذلك فإنه مشروط بإعادة وعي الذات وبقدرة الأدب والفن والثقافة على المقاومة، والتغيير.
«في عام 1849، كتب فيودور دوستويفسكي على جدار زنزانته قصة بعنوان «الكاهن والشيطان»، نشرت لاحقاً في كتاب «ذكريات من منزل الموتى».. وهو الكتاب الذي شبّهه بعض النقاد والقراء بكتاب «الكوميديا الإلهية» لدانتي وخاصة قسم «الجحيم»، هذا الكتاب كان له دور مباشر في تغيير شروط وواقع الاعتقال في روسيا القيصرية آنذاك.
ففي يوم 17 نيسان/ ابريل 1863، صدر قانون يلغي أنواعاً عدة من العقوبات الجسدية التي كانت تمارَس في السجون الروسية، خاصة في معسكرات الاعتقال في سيبيريا. لم يصدر هذا القانون يومها، إلا إثر سجالات حادة وصلت أحياناً الى حدّ الصراع السياسي العلني بين تيار محافظ قوي يرفض المساس بالعقوبات، وتيار آخر ينادي بإلغائها. وإذا كان التيار الأخير هو الذي انتصر في ذلك الحين، فإنه لم ينتصر إلا لأنّ جنرالاً أميراً ذا نفوذ يدعى نيقولاي أورلوف، كان هو من يتزعّمه.
لم يكن ذلك الأمير معروفاً بتقدّميته، لكنه كان – في مقابل ذلك – شغوفاً بالأدب. وشغفه هذا أوقع بين يديه كتاباً عنوانه «ذكريات من منزل الموتى» لكاتب شاب شبه مبتدئ حينها يدعى فيودور دوستويفسكي، فأذهله ما جاء فيه من وصف لضروب العقاب الجسدي المروّع الذي كان يمارس على كائنات بشرية. وكان أقسى ما في الأمر أنّ الكتاب لم يكن رواية من نسج الخيال، بل كان تدويناً حقيقياً وحيّاً لواقع عاشه الكاتب يوم كان معتقلاً منفياً في أقاصي سيبيريا. يومها تحرك الأمير بسرعة وكتب رسالة الى القيصر يطالب فيها بإلغاء العقوبات الجسدية التي يصفها دوستويفسكي في كتابه. فكان له ما أراد وإنْ بعد سجال وصراعات طويلة» ابراهيم العريس – «ذكريات من ديار الموتى» لدوستويفسكي: دانتي معاصر لوصف جحيم حقيقي .
قصة «الكاهن الشيطان» فيودور دوستويفسكي
قال الشيطان للكاهن: »مرحبا أيها الأب الصغير السمين! ما الذي جعلك تكذب هكذا على هؤلاء الناس المساكين المضللين؟ أيّ عذابات من الجحيم صوّرت لهم؟ ألا تعلم أنهم يعانون أصلاً عذابات الجحيم في حياتهم على الأرض؟ ألا تعلم أنك أنت وسلطات الدولة مندوباي على الأرض؟ إنك أنت من تجعلهم يعانون آلام الجحيم الذي تهدّدهم به. ألا تعلم هذا؟ حسنا إذاً، تعال معي»!
شدّ الشيطان الكاهن من ياقته، ورفعه عالياً في الهواء، وحمله إلى مكان سبك الحديد في مصنع. وهناك رأى العمال يركضون على عجل ذهاباً وإياباً، يكدحون في الحرارة الحارقة.
وسرعان ما يفوق الهواء الثقيل مع الحرارة احتمال الكاهن، فيتوسّل إلى الشيطان والدموع في عينيه: «دعني أذهب! دعني أترك هذا الجحيم»!
» آه، يا صديقي العزيز، يجب أن أريك أماكن أخرى كثيرة». ويمسك به الشيطان مرة أخرى ويسحبه إلى مزرعة. وهناك يرى العمال يدقون الحبوب. الغبار والحرارة لا يحتملان. ويأتي المراقب حاملاً سوطاً، يهوي به بلا رحمة على كلّ من يقع على الأرض عندما يغلبه الإرهاق من العمل الشاق أو الجوع.
وبعدها يأخذ الكاهن إلى الأكواخ التي يعيش فيها أولئك العمال مع أسرهم. جحور قذرة، باردة، مفعمة بالدخان، وكريهة الرائحة. يبتسم الشيطان ابتسامة عريضة، مشيراً إلى الفقر والمشقات في تلك البيوت.
ويسأل: »حسنا، أليس هذا كافيا؟» ويبدو أنّ حتى الشيطان نفسه، مشفق على الناس.
وخادم الله التقي لا يكاد يحتمل، فيرفع يديه ويتضرّع »دعني أخرج من هنا، نعم، نعم! هذا هو الجحيم على الأرض»!
«حسناً إذاً، ها أنت ترى، ولا تزال تعدهم بجحيم آخر. تشق عليهم، تعذبهم حتى الموت معنوياً، في الوقت الذي هم فيه ميّتون أصلاً في كلّ شيء عدا الموت الجسدي! هيا بنا! سأريك جحيماً آخر جحيماً واحداً أخيراً أسوأ جحيم على الإطلاق».
أخذه إلى سجن، وأراه زنزانة، بهوائها الفاسد، والهيئات البشرية الكثيرة المسلوبة كلّ الصحة والقوة، الملقاة على أرضها، والمغطاة بالحشرات والهوام التي تتغذى على الأجسام الضعيفة، العارية، الهزيلة.
قال الشيطان للكاهن: »إخلع عنك ملابسك الحريرية، وضع على كاحليك سلاسل ثقيلة كهذه التي يلبسها هؤلاء البائسون، استلق على الأرض الباردة القذرة، وعندها حدثهم عن الجحيم الذي لا زال ينتظرهم»!
فأجاب الكاهن: »لا، لا! لا أستطيع التفكير في أيّ شيء أكثر ترويعاً من هذا. أتوسل إليك، دعني أخرج من هنا!»
«نعم، هذه هي جهنّم. لا يمكن أن يكون هناك جهنم أسوأ منها. ألم تكن تعلم بها؟ ألم تكن تعلم عن هؤلاء الرجال والنساء الذين ترعبهم بصورة جحيم آخرويّ ألم تكن تعلم أنهم في الجحيم الآن، قبل موتهم؟» انتهت القصة .
إذن، هنا الجحيم على الأرض أولاً، لكنهم يشغلون الناس بجحيم السماء وأهوالها لكي يتعايشوا مع جحيم الأرض فيبدو عادياً، لكي لا يرفع الإنسان رأسه وصوته ليقاوم، عليه أن يصمت لأنّ ما يعيشه سيكون جنة مقارنة بما سيواجهه في الحياة الأخرى.
لهذا فإنّ أحد أهمّ وظائف الأدب والفنون أن تنير دروب الوعي بالمعرفة.. أن تحرّض على الفعل.. أن تشكل قوة تحفيز وضغط، أن تكشف الوعي الهش والثقافة الهشة والسلبية، حتى وهي تسعى للجمال فإنها بذلك تقوم بصدم الواقع البشع بمعادلاته القاهرة واختلالاته بما في ذلك تدمير روح الإنسان وبث اليأس والخوف في أعماقه لشله عن الحركة والمبادرة.
تلك هي وظيفة الثقافة والفن، وعدا ذلك مجرد لغو باسم الثقافة والفن.