العراق: نحو الأمن الإقليمي وإفشال المشروع الأميركي

العميد د. أمين محمد حطيط

في أول صيف 2014 وبعد أن فشلت أميركا في خطتها الثانية التي استهدفت بها سورية لإسقاطها بكاملها، وبعد أن سحبت روسيا فتيل التهديد الأميركي باجتياح سورية بذريعة استعمال الأسلحة الكيماوية وجدت أميركا أنّ المسلك الأساسي المفتوح لتفعيل عدوانها وبلوغ أهدافه الاستراتيجية بإسقاط سورية والعودة عسكرياً إلى العراق، يتمثل باعتماد مباشر على الجيش الإرهابي الذي صنعته «سي أي آي»، أيّ تنظيم القاعدة الذي استندت اليه لاحتلال أفغانستان، والذي ارتكزت اليه للإجهاز على ركائز الوحدة الوطنية في العراق وتشتيته مذهبياً. فأوعزت للتنظيم بالتحرّك تحت رعايتها وعنايتها والتوجّه إلى الموصل ومنه لاحتلال مناطق عراقية أخرى، وبالفعل حصل ما قرّرت أميركا. وفي أقلّ من شهرين كان داعش يسيطر على أكثر من نصف العراق وسورية وتسقط الحدود بين الدولتين لتقيم ما أسمته «دولة الخلافة الإسلامية» المزعومة.

وسارعت أميركا مباشرة وفي أكبر عملية تلفيق وتزوير الى التظاهر برفضها للتمدّد الإرهابي والتوجه لإعلان الحرب على داعش، وشكلت تحالفاً دولياً للقيام بهذه المهمة. وكان واضحاً لدى العقلاء العارفين بحقيقة الأهداف والنيات الأميركية، أن أميركا توسّلت داعش من أجل العودة الى العراق، لتزرع قواعدها العسكرية فيه وممارسة الاحتلال الرشيق، الذي عجزت عن إقامته إثر احتلالها التدميري الذي أجهز على الدولة ومقوّماتها، عودة تعوّض ما عجزت عنه في الاحتفاظ بالإمساك بالقرار العراقي كلياً، عندما وقّعت مع العراق اتفاقية الإطار الاستراتيجي التي شاءتها في العام 2010 أن تكون السند القانوني لاحتلالها، لكن الحكومة العراقية ثبتت ورفضت ما طلبت أميركا.

عندما أطلقت أميركا خطتها الداعشية كانت تظنّ بأنّ العراق لا يملك قوة عسكرية بالمستوى الذي يمكّنه من مواجهتها، خاصة أنها هي أيّ أميركا التي أشرفت على تنظيم الجيش العراقي وتحكّمت بتجهيزه بشكل لا يمكنه من امتلاك تلك القدرة اللازمة، وبالتالي كانت مطمئنة الى نجاح داعش في المهمة المسندة إليه، وأنه سيعطيها الفرصة والذريعة للعودة التدريجية للعراق بشكل يذكر بقول مدير المخابرات الأميركية السابق في محاضرته أمام ضباط أميركيين في العام 2006 حيث قال: «علينا أن نصنع لهم إسلاماً يناسبنا وندفعهم للاقتتال به حتى يستغيثوا بنا، فنعود إليهم محتلين بناء لطلبهم»، وكانت تنتظر طلب العراق عملاً باتفاقية الإطار الاستراتيجي بالعودة إليه لإنقاذه من داعش.

لكن العراق فاجأ أميركا والعالم، باجتراح قوة شعبية لم يكن يتوقع قيامها أحد، حيث لبّى الشعب العراقي دعوة المرجعية الدينية للدفاع عن العراق ومقدساته، وتشكل «الحشد الشعبي» ليواجه الخطر الإرهابي المصنّع أميركياً. وهنا يسجل لإيران ولحزب الله دورهما في نصرة العراق ودعم «الحشد الشعبي» بالسلاح والتدريب والخبرات، وهكذا وبأقلّ من أشهر ثلاثة شهد الميدان العراقي انقلاباً استراتيجياً يعاكس الخطة الأميركية وظهر الحشد الشعبي قوة عسكرية يمكن الرهان عليها، رغم الظروف الصعبة المتصلة بتشكيله وتجهيزه.

لقد كان تشكيل الحشد الشعبي وانطلاقه لمواجهة داعش للدفاع عن العراق ومقدساته، أول صفعة تتلقاها أميركا في سياق تنفيذها خطة العودة الاحتلالية للعراق، لذلك عملت اميركا وسخرت أدواتها الإقليمية معها لمواجهة الحشد الشعبي ومحاصرته سعياً لوقفه وتفكيكه، ولهذا رمى الحشد بشتى الاتهامات الطائفية والمذهبية والأوصاف المسيئة ومورست بحقه شتى سلوكيات التضييق والمحاصرة، لكن العراق انتصر للحشد الشعبي بعد أن وجد فيه الأمل الرئيس للدفاع عنه، وبدلاً من أن يفكّك الحشد كما اشتهت أميركا وأدواتها خاصة السعودية وتركيا، قرّر مجلس النواب العراقي تكريس الحشد قوة وطنية رسمية ترتبط بالقائد العام للقوات المسلحة الذي هو رئيس مجلس الوزراء. وكان هذا القرار هو الصفعة الثانية التي تتلقاها الخطة الأميركية في العراق.

أما في الميدان، فقد أثبت الحشد الشعبي اقتداراً في المواجهة، وكانت معركته في تحرير جرف الصخر في خريف العام 2014 أي بعد أربعة أشهر من تشكيله إيذاناً ميدانياً بأن هناك انقلاباً في المشهد العراقي، معركة سعت اميركا لنجدة داعش فيها ومنع الحشد من الانتصار، لكنها لم تفلح وأرسى الحشد يومها اللبنة الأولى الأساسية لانتصاراته التي توالت رغم الخطوط الحمر أو المتعددة الألوان التي وضعتها اميركا ودول إقليمية كانت تخشى من نجاح العراق في تحرير أرضه من القاعدة ومن وراءها.

وتوالت سلسلة المفاجآت العراقية من بوابة الحشد الشعبي، بشكل أدّى الى إفهام أميركا بأن خطتها في العراق، وتالياً في سورية لن تنجح، لأن الحشد ومعه الشعب العراقي الذي انبثق منه، لن يسمح لها بالعودة الى العراق لاحتلاله بصيغة جديدة، كما أنه لن يسمح لأميركا بعزل العراق عن إيران شرقاً وعن سورية ولبنان غرباً، وهي الخطة الأخيرة التي وجدت فيها اميركا طريقاً لإنقاذ مشروعها الاستعماري وتعويض فشلها خلال السنوات الست الماضية.

واليوم وبوصول الحشد الشعبي الى الحدود العراقية السورية وتحقيق التماس مع قوات سورية الديمقراطية، واستعداده للتوجه جنوباً للسيطرة على معبر القائم شرق البوكمال في سورية مع التحضير للوصول الى معبر التنف عند مثلث الحدود العراقية الأردنية، يكون الحشد المؤهل قومياً ووطنياً للتنسيق مع الجيش العربي السوري والقوات الحليفة العاملة معه. يكون الحشد قد رسم مشهداً ميدانياً معاكساً لما أرادته أميركا، وبدلاً من أن تكون الحدود العراقية السورية خطوط فصل سورية عن العراق، فإنها ستصبح سدوداً بوجه داعش والقوى الأجنبية التي تستثمر بالإرهاب، وفي طليعتها قوات التحالف الأميركي. وبهذه الإنجازات يكون العراق قد أنجز القسط الأكبر على طريق اجتثاث الإرهاب من أرضه ووفر البيئة المناسبة لسورية لتستكمل الشيء نفسه، في إطار عملية تنسيق وتناغم تقود إلى بناء منظومة أمن إقليمي متماسكة وجدت بذرتها الأولى في اللجنة العسكرية الرباعية المشتركة القائمة اليوم في بغداد، بعضوية كل من سورية والعراق وإيران بالإضافة إلى روسيا.

طبعاً، قد يقول قائل بان هذا العرض فيه من التفاؤل ما قد يقترب من الإفراط، ولكننا نقول إن مَن يراجع المشهد الذي كانت عليه المنطقة فبل 3 سنوات تماماً يوم أطلقت أميركا خطة داعش ويقارنه بما بات عليه اليوم عشية التحضير لإنجاز تطهير الموصل ونعي داعش في العراق، مَن يقارن الصورتين يدرك أن ما نقول يعبّر عن حقيقة موضوعية، يجب ان تدركها اميركا وكل من يتعاطى بالشأن الإقليمي هنا، وأن أي قول بأن المنطقة تتجه الى تقاسم نفوذ بين اميركا وسواها من الدول العظمى إنما هو قول لا يأخذ بالاعتبار هذه المنظومة الإقليمية القادرة والفاعلة والتي تشكّلت في الأصل من محور المقاومة وحجز العراق اليوم بجدارة مقعده في صفوفها.

إن الإنجاز العراقي الاستراتيجي، والذي سيلاقيه إنجاز سوري مقابل بوصول الجيش العربي السوري إلى الحدود مع العراق، يقودنا الى القول بأننا بتنا في الهزيع الأخير من ليل العدوان الأجنبي على المنطقة، وأنها لن تكون إلا لأهلها ولن تكون شرق اوسط أميركياً، كما خطط العدوان وعمل خلال العقود الثلاثة الماضية.

أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى