لماذا لن يصل اللبنانيّون إلى الفراغ؟

د. وفيق إبراهيم

تعرف قوى الطبقة السياسية أنّ انقضاء منتصف حزيران الحالي من دون التوصّل إلى قانون جديد للانتخابات يعني دفع البلاد إلى متاهة دستورية وسياسيّة، تتطلّب بالحدّ الأدني تدخّلاً دولياً وإقليمياً. وهذا ينزع منها صلاحياتها ويضعها في مواجهة مع الناقمين عليها، وهم غالبيّة اللبنانيّين، فاتحاً المجال نحو فرض معادلات دستوريّة جديدة قد لا تكون على شاكلة سابقاتها التي وفّرت لهذه القوى امتيازات لا يحلم بها حتى الملوك.

هناك سؤالان يقفزان، معترضَيْن بحدّة على هذا الاستنتاج أوّلهما يفيد بأنّ الطبقة السياسية التي تعرف ما يصيبها جرّاء الوصول إلى الفراغ، كيف تسمح بالوصول إليه ولا تسارع إلى إنتاج تسوية على الطريقة اللبنانية، فلا يموت الذئب ولا يفنى الغنم!

أمّا السؤال الثاني، فيطرح علامات استفهام قويّة حول الدواعي التي تمنع القوى الإقليمية والدوليّة من التدخّل لمنع الانهيار الداخلي في لبنان، ولو حدث هذا التدخّل فلن يكون المرّة الأولى ولا الأخيرة..

ماذا يجري إذن؟

استفادت الطبقة السياسية من انهماك الإقليم بمصاعبه، فحاولت إدارة نفسها بأسلوبين المناورات والتلكّؤ، لتحصيل أعلى معدّل امتيازات من قانون الانتخاب المرتقب وتحت سقف النظام الطائفي. والأسلوب الآخر هو ربط المشاورات الداخلية في لبنان بنتائج الحروب في الإقليم، فخسارة معركة في حيّ سوريّ تعزّز من مطالب فئة لبنانية على حساب فئة أخرى، وكسب معركة في «حاكورة» عراقية تزوِّد فئات لبنانية بمزيد من الزّخم والنفس الطويل، من دون نسيان مدى الركون اللبناني إلى خطابات الرئيس الأميركي ترامب، فهجومه على فئة لبنانية ينعكس تشدّداً عند الفريق الداخلي المناوئ لها.

يكفي القول إنّ «قمّة الرياض» عزّزت كميات الأوكسجين عند فريق لبناني بما جعله يبدو كأسدٍ يتربّص مرور فريسته للانقضاض عليها والإكثار من الصفقات المكهربة للبواخر وأوجيرو والمصارف والتلاعب بالفوائد، وخلافه من نفايات ومياه وكهرباء وخلوي.

هذه هي الطبقة السياسية الطائفية التي تبدو في الظاهر غير مبالية في مشاوراتها، ولا تخشى الفراغ، لكنّها تُبطن في أعماقها رعباً من المجهول تعتقد أنّه قابل للمعالجة في اللحظات الأخيرة بتطبيق «سياسة» الرقص على حافة الهاوية.

ولهذه السياسة فوائد محسوبة عند القوى الأساسية للطوائف:

أولاً، أنها تسيطر على التفاعلات داخل مذاهبها وطوائفها، وتستولي على أحاسيسها ومشاعرها وتربطها لمدّة طويلة بمفاوضاتها مع القوى الأخرى، فتبدو وكأنّها المدافع الحصري عن حقوق مذهبها الديني بذريعة أنّه معرّض للالتهام من مذاهب أخرى.

إنّ نظرة واحدة إلى ما يجري على الساحة السياسيّة في لبنان، تكشف مدى «عبقرية» الطبقة السياسية في صرف أنظار اللبنانيين عن متاعبهم الأساسيّة في سلسلة رواتب اختفت بسحر طائفي، وكهرباء هي الأغلى في العالم، وأمن سائب ونفايات تدفع البلاد نحو الأوبئة، ومياه ملوّثة ونادرة صرفتهم هذه الطبقة عنها نحو تصريحات القيادات والوزراء. وهم يهدّدون ويتوعّدون بعضهم بعضاً بالويل والثبور، إذا لم تتمّ مراعاة المطالب المذهبية.

أهذه فعلاً مطالب لمصلحة المذاهب اللبنانية؟

إنّ أبناء المذاهب هم اللبنانيّون، إنّما بشعور طائفي، لكنّ هذا الأمر لا ينفي حقّهم في الحياة الكريمة والأسس المادية والسياسية والمعنويّة المؤدّية إليها، فلماذا لم تؤمّنها لهم هذه الطبقة منذ احتكارها السلطة قبل 25 سنة؟ علماً أنّها نتاج نظام طائفي موجود منذ استقلال لبنان في 1948… ألم تكفها سبعة عقود تقريباً من سياسات تجييش وتحشيد لكي تستطيع أن توفّر حياة كريمة لـ«مواطنها الطائفي» الذي أصبح مؤمناً أنّ الغيب سيوفّر له الطعام بشكل مباشر، أو الاغتراب الذي أصبح الدواء الوحيد للفرار من الفقر والطائفية!

لمجمل المذكور في السبب الأول، يجزم المتابعون أنّ قوى النظام الطائفي لن تتأخّر في هذا الشهر الحالي في إعداد قانون جديد للانتخاب لن تستفيد منه إلا التركيبات الطائفية الحاكمة، والأسباب واضحة، وهي مصالح هذه الفئات وامتيازاتها التي تتعدّى ما تستحصل عليه الديكتاتورية. فهي فوق القوانين التي لا تسري لا عليها ولا على الفئات الملتصقة بها، فالمال العام مالها، والدين في خدمتها، والإعلام مطواع لها لا يشاكس إلا داخل النصاب الطائفي، أي مع فئة طائفية ضدّ فئة طائفية أخرى.

إذا كان هذا حال الداخل، فما الذي يمنع الإقليم عن فرص تسوية كما كان يحدث دائماً؟ فبعد فتنة 1958، جرت تسوية ناصرية أميركية أوصلت الرئيس فؤاد شهاب إلى الرئاسة، والحرب الأهلية آلت إلى مفاوضات الطائف برعاية سعودية سورية أميركية، أدّت مع اتفاق الدوحة في 2006 إلى النظام الحالي، فلماذا يزهد الإقليم بلبنان اليوم؟

لبنان بعيد عن القتال المباشر على أرضه، لكنّه يشكّل جزءاً من حروب الإقليم لاندماج قسم من قواه الإسلامويّة مع الإرهاب، ومسارعة قوى المقاومة إلى محاربة الإرهاب على أراضي الإقليم، لذلك هناك ما يشبه «الطمع الإقليمي» بأن تؤدّي الحروب الدائرة في سورية والعراق إلى تحسّن نفوذ حلفائه في لبنان، لكنّها تعرف أيضاً أنّ اللعب على حافة الهاوية يجب أن لا يتجاوز حزيران الحالي، وإلا فإنّ بلاد الأرز قد تصبح جزءاً مباشراً من الحروب الإقليمية بسواعد لبنانية وفلسطينية، ومشاركة إرهاب يستوطن في أجزاء لبنانية من مناطق النزوح السوري.

هذا يؤكّد أنّ قوى الإقليم لن تترك لبنان ينهار مهما بلغت حاجاتها إلى توسيع أُطُر الحرب في سورية والعراق، وتطويل أمد الإرهاب. وللإقليم أسبابه، وأوّلها أنّ القوى المهيَّأة لحرب داخلية تنأى عنها لعدم إيمانها بها، مع تركيزها على عدوّين العدو «الإسرائيلي» والإرهاب. أمّا القوى اللبنانية الأخرى فهي عاجزة عن إدارة حرب أهلية تمتدّ لأكثر من أسبوع لأسباب تقنيّة ولوجستيّة وتمويليّة وشعبية، بالإضافة إلى أنّ الجيش اللبناني لن يسمح بتشكّل ميليشيات تدمّر الأمن الداخلي ومستعدّ لقمعها مباشرة.

حروب الإقليم فاشلة تماماً، وقد تؤدّي إلى خسارة المتورّطين بها لنفوذ حلفائهم السياسي في لبنان. وهذا يدفع في اتجاه دور إقليمي إيجابي يواصل استثناء الأراضي اللبنانية من «لعبة الحرب الطائفية» على قاعدة التسوية التي تُعلن أنّ «القناعة بالموجود كنز لا يفنى».

كيف الحل إذن؟

بالطريقة التقليدية أولوية وقدسية النظام الطائفي، وتحاصص على المقاعد ومجلس الوزراء المقبل، إنّما بإخراج وطنيّ وهرطقة نسبيّة تؤدّي إلى الضحك على أبناء الطوائف فقط، أمّا المكان فالقصر الرئاسي حرصاً على الهيبة وتراتبية الرؤساء.

والأسباب التي تجعل مثل هذه «الدعابات» تمرّ على اللبنانيين، هي تحالف الدين والإعلام ومركزة التوظيف والتخويف من الآخر، والخطر «الإسرائيلي» والذعر من انتشار الإرهاب. هذه هي الأسباب الفعلية التي تفرض على اللبنانيين الإذعان للموجود، لأنّ الآتي قد يكون أكثر بلاءً، يا أهل البلوى.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى